لا أرَى جَسدِي / عمار علي حسن


لا أرَى جَسدِي

عمار علي حسن



( 1 )
روحي في قاع المجرَّة
أخلع لذتّي
أغوصُ فوقَ الأزرقِ الموشى بالتسابيحِ
حاملاً لهفتي
وأوقاتِيَ العابثةْ
 ونَشوتيَ اللاهثةْ
لأصطادَ المَسَرَّة
حين ترفرف أمام ناظريَّ المسكُون بالرجاءِ
أفْرِشها على راحتيّ
أُهدهِدُها كرضيعٍ يُحدِّق كي يرى
فضاءً فسيحاً
حقلاً من حنطةٍ تراقصُه النسائمْ
بحراً تعاندُه الأشرعةُ المسافرةْ
عينين تنضحَان بالذكرَى
طريقاً يشقُّ حليبَ الرمل
جرحاً يفيضُ بالخمر
أشربُ حتى يضيع مني الكَلِمْ
فأرى العدَمْ
أشدُّه من رموشه الثقيلةِ
ليطلَّ الوجودُ ساكناً في خجلْ
يرنو إليَّ بعينين زائغتين
وشفاهٍ مملوءةٍ بالصمتِ
ويدين ترتعشان من فَرْطِ الوَجَلْ
وحين يتقدّمُ مترنّحًا لينامَ بين ذراعيّ
أصعدُ إلى الأرض كسهمٍ طليق
لأعاتِبَ الأَملْ
الذي يطيلُ المقامَ بي هُنا
ولا يمنَحُنِي فرصةً واحدةً
لأعرفَ مَنْ أتى حزيناً
ومَنْ بالفرحِ قد ذَهبْ.

( 2 )
أسألُ روحي محدِّقاً في عزلتي
كيف تصيرُ السيوفُ ريشَ حَمَامْ؟
وكيف تعانقُ الفراشاتُ اللهبْ؟
وتصادقُ الريحُ السكونْ
وتشربُ البحارُ مَوْجَهَا الهادرْ
وكيف يُقلع السرابُ عن الكَذِبْ؟
ويُصاحبُ العليلُ السقامَ
ويَحرسُ الذئبُ الغَنَمْ
ويصفحُ القتيلُ عمَّن قَتَلْ؟
في إلحاحً أقول الكلامَ
وينبت أمامَها شوكُ السُؤالِ
فتلوذُ بصمتٍ طويلٍ طويلٍ
لا أَرَى إشارةْ
لا أَرَى أمارةْ
لا أسمعُ صراخَ الغَضبْ
ولا هَمْس العَتبْ
فأمضي كَسِيراً
شَريداً
طَريداً
خُطوتي دهرٌ
ووحدَتِي زِحامْ
لأ أعرفُ فيه مَنْ أقامْ
ولا مَنْ هَرَبْ.

( 3)

أستعيرُ جنُوني لأَبْقَى
واقفاً أمامه
كخيطِ دخانٍ
يتوسلُ هبَّةَ ريحْ
أن تَتَرَجَّلَ
وتغفُو قليلاً
ثم تنهضُ على مهلْ
وتميلُ نحوَ الفراغِ الكَسيحْ
تاركةً كلَّ متاعِها
لكن نارَ الجنونِ
تحرقُ ما تَبقَّى من رَمَادي
وتُطلق سُهادِي
على عتباتِ ليلٍ مُقيمْ
وكَرْبٍ عظيمْ
وحين يتقاطرُ العابرون أمَامِي
كحباتِ مسبحةٍ من حَصى
يضيقُ الطريقُ
وتتسع المنَايَا
والخبَايَا
فلا أعرف مَنْ أَعطَى
ومَنْ عزَّ عليه الطَلبْ.

(  4 )

أنادي غُربَتي كيْ أُجالِسَها
تتهادَى حزينةً كالشفقْ
تلملمُ حبّات النُّورِ
من كفِّ الغَسَقْ
تتركني تائهاً كَمنْ عادتُهُ
المفازاتُ
والمسافاتُ
قابضاً على ظِلِّي
 ولا أرَى جَسَدِي
وحين تَهْجمُ خيولُ الظَّلامْ
وتَرمي السِّهامْ
أصنعُ من الأَنْصالِ والغُبارِ
راياتِ سلامْ
وأرجوها أن تمهلَني دقائقَ
كي أسألَ ظلّي عن بَدني
وسورةِ العَلَقْ
لكنها تفرُّ إلى حيثُ لا أرى
وبعد رحيلِها
لا أعرفُ من اقتربْ
ولا من اغتربْ

( 5 )

أنادي توبتي كي أعانقَها
فتَهبُني غفراناً أبيضَ
كَطَلْعِ النَّخيلِ والوَرَقْ
وحين يَغفو مني الأَرَقْ
ويَفِيضُ العَرقْ
أمنحُ الليلَ وقتي
فيعطيني حقَّ التهجُّد
للواهبِ وما خَلَقْ
ووقت أظنُ أن الكونَ في كفِّي
والدربَ مفتوحاَ أمامي للأَبَدْ
تهبُ المعاصي من رقْدَتِها
تُلوِّن المدى بالخوفْ
وتسرِقُ منِّي ماءَ الحياةِ
فلا أعرف إن كان قد تبخَّر
أو أنَّه غارَ وَنَضبْ

( 6 )

أنُادي شيخي الذي تَركَني في وحْدَتي
يعودُ من موتِه جليلاً في الكَفنْ
وفي كفِّه سُّر الخلودْ
وحفنةُ ترابٍ من جَنَّة عَدَنْ
أقولُ لَه دامعاً:
تأكلني حَيْرتي، وشوكُ السؤالْ
ومَنْ يجيبُ صار بعيدَ المنالْ
ونارُ الصَّبابةِ
وشدوُ الرَّبَابةِ
اللذان كانا يَصْعدان بي إلى حَافُّةِ الكَوْنِ
ما عادا يهزانني في خِلْوتي
تبسَّم وتَمْتَم، وملأَ عينيّ بنورٍ عجيبْ
وسمعتُ منه الصَمْتَ الرَّهيبْ
وهمساً سريعاً يقولْ:
أَنتَ نسيتَ الوصِيَّةْ
وَصِيتَّي
ورَاحَ وغَابَ وجاءَ الخواءْ
فلم أعُدْ أدركُ مَنْ زهد
ولا مَنْ رَغِبْ

( 7 )

             
ناديتُ كَأْسِي فجاءت مملوءةً بالفراغْ
تركتُ لذَتها على قارعةِ الطريقْ
فَصَار لَيْلِي بلا رفيقْ
وحيدين جَلسنَا
أرمقُ مقلتيَّ الساجِيَتيَن
في لَمَعَانِ الزُّجاجْ
وشفتيَّ تعصِرَان العَطَشْ
والعتمةُ الرائقةُ تجاهدُ لإطفاءِ الأَشْواق
لَكنها تذوبُ في ظُلمةِ الأَحدَاقْ
وحين يَندلعُ النورُ الغامرْ
يَفضَحُ ولَهِي المُراقْ
على الأَرضِ والجدرانِ والغَبَشْ
ولمَّا يَرانِي كَأْسِي وأنا أَحتَسِي الدُمُوعْ
يَمدُّ إليَّ نارَ حافَّتِه البَارِدةْ
فأَمُدُّ إليِه أصَابِعي الشَّارِدةْ
لكنها تقفُ في منتصفِ المسافةِ المرتجفةِ من فرطِ الرَّجاءْ
فلا ذهَابَ ولا رُجُوعْ
ولا وُقُوفَ ولا رُكُوعْ
فلا أعرفُ مَنْ قتله الظَمَأْ
ومَنْ ذَاقَ وشَرِبْ.

( 8 )

ناديتُ الحبيبَةَ ونظرتُ مليّاً في عَينيها
فرأيتُني في فَمِي ماءْ
راقبتُ عجزِي المُقيمِ على شَفَتِي
وأسدلتْ جَفْنَيِها في حياءْ
تاركةً دَهْشتِي مَشْنوقةَ على بابِ الوداعْ
ودُمُوعِي تتساقطُ بين العَتْمةِ والضِّياءْ
والصَّمْتُ صَار فَوْقَ الاحْتِمَالْ
وتناثرت الحروفُ في ريحِ السؤالْ
وفي المسافةِ الفاصلةِ بين دهشتي وعَينَيها الغافيتينْ
نبتتْ أعشاب التيهِ والضياعْ
ومدَّت أطرافَها اليابسةَ إلى رَأْسِي
ونسجتْ حَوْلَهُ ألواناً من الحَكَايا
والدعاية
والمِراءْ
قلتُ لها:
حتى أنتِ لا جوابَ لديكِ
ولا دفءَ في كَفْيكِ
يبدِّدُ هذا الصقيعَ الذي يرمي بَرْدَهُ القاسي
على ارتحالِ الشَّوقِ والخَيَالْ
فيقفُ مَكَاَنهُ راسياً كالجِبالْ
لكنَّه بليدٌ عنيدْ
ثقلٌ بلا إِباءْ
صحراءٌ بلا رمالْ
وصدٌ بلا دلالْ
قالت:
شوقُكَ الذي يسيلُ في هُيامْ
ودَمُكَ الذي يفيضُ على الزِّمامْ
ليس بوُسْعِي السِّباحةُ فيهِ إلى غايتي
وبلوغُ المرامْ
حيث النورُّ والكمالُ والجلالْ
مكسوراً تابعتُ انسحابها الوئيدْ
وحُزْنَها الوليدْ
فلم أعُدْ أدري مَنْ فارقَ
ومَنْ عَانَقَ خلَّه واصطحبْ.

( 9 )

ناديتُ دربَي فلبَّى ثَقيلاً
يأكلُ خُطاهْ
وَقَف أمامي خَافضَ الرأسِ في أَسَفْ
ويدُه الضامرةُ ترتَجِفْ
وعيناهُ زائغتان كليلٍ نَسِيَ النَّهارْ
وشاطئٍ أعزلَ يسعى وراءَ البِحَارْ
نظرتُ في خطواتِهِ التي تعانق المَدى
وحضورِهِ الآسرِ الذي يغْلِبُ الرَّدَى
وسألتُهُ لاهثاً:
هل بوَسِعي أن أرميَ قدميَّ عليكْ
وأنسى ما سَيَأْتي وما مَضى
وأمدُّ يدي فأقطفَ السنينَ التي ذهبتْ دون انتظارٍ
وتركتني أعانقُ خوفِي وشوقِي المستعرْ
وأوقف الهاتفَ البعيدَ الذي يناديني كلَّ مساءٍ:
تجَّهزْ للرحيلِ واطْوِ آمالكَ واحتضِرْ؟
سمعت ضَحِكاً دوَّي كالرعودْ
وعَزْفاً جريحاً كالحِداءْ
من فَمِ نايِّ مُعذَّبْ
 واهتزازَ أوتارِ عُودْ
وصوتاً رنَّ في أذني بغتةً كالقَدَرْ:
قُمْ يا غَرِيبْ
ارفَعْ أيامَك التي ذَهَبتْ هَباءً
وارمِها تحتَ قدميك اللتين أضناهُما السَّفَرْ
اضرِبْ بيدِكَ سُحُبَ الغُبارْ
تنهمر عليَك
حروفُ القصيدْ
ويُسرع إليك
لحنُ العَديدْ
ودمعُ البُكاءْ
ولن تدري أبداً إن كنتَ موجوداً
 وخطُوك قد دبَّ على التُّرابْ
أو كنتُ معدوماً
لا شيءَ في رَحِم الغيابْ
وستظلُّ هكذا لا تعرفُ ما يجبُ اجتنابُه
ولا ما عليك قد فُرِضَ وَوَجَبْ.



تعليقات