كلب ينبح ليقتل الوقت
عماد أبو صالح
لوحة الغلاف:
"سماء صغيرة من الدلتا" لـ: عماد أبو صالح
إلى "صريحة".
أختي.
لا تلومونا
حين نفْرط في حزننا
إلى هذه الدرجة.
نحن
، في الحقيقة،
نريد أن نفرغه كله
ربما نعثر
، قبل الموت،
على ضحكة مختبئة
في أعماقنا.
ليلة الدلتا
ضفادع تدير اسطوانة
تآكلت من كثرة الاستعمال.
ناموس يحاول أن يعدل
بين الأصحاء و المرضى.
خفراء عجائز، النوم يسرقهم
تسقط رؤوسهم فجأة
و تقتل الفراشات.
أطفال يمارسون يُوجا كَتْم الأنفاس
في أكوام التبن
بعد كسر الأطباق.
بنات يُربين رومانسيتهن
بخياطة ملابس لصغار الأبقار
من أشْولة ممزقة.
خراف راقدة
تلحس ضوء القمر المخنوق.
كلب ينبح
لا لأي شيء
إلا ليقتل الوقت.
نسوة جالسات على العتبات
ينظرن بفرح
للجلابيب المشنوقة على المسامير
و يتخيلن الأزواج داخلها.
قلوبهم خشنة
(لم يحُكّها الحب)
دائمًا يتواطؤ الهواء معهم
و ينفخ جلابيبهم
لكي يظهروا في عيوننا الصغيرة
أضخم من حقيقتهم.
لم يكونوا يحضنوننا
مثلما كنا نتوهم
كانوا يثبتون لنا
أنهم قادرون على تحطيم ضلوعنا
.لو عصينا أوامرهم
الآباء.
الذين نشبههم تمامًا
، رغمًا عنا،
على أمل أن يعيشوا
مرة ثانية
بطريقة أفضل.
الذين سعوا لإنجابنا
بشغف بالغ
لكي لا يكونوا وحدهم
الذين تعقرهم الحياة.
نحن لا نفهم
إذا كانوا لم يفكروا يومًا
أن يشتغلوا عازفي إيقاع
فلماذا تدربوا
كل هذه التدريبات الشاقة
على خدودنا؟
نمسك أعضاءهم ليتبولوا
(كي لا نكون عاقين)
كنا نمسح دموعنا
و نقول: "لا يهم
حين نكبر سنكسرهم أيضًا"
إلا أنهم
و حينما تأتينا الفرصة المناسبة
ينكسرون
من تلقاء أنفسهم.
تعزف لهن أوركسترا الإوزّات
قضين عمرهن كله
في الحجرات الضيقة.
لم يتذكرن أبدًا
أن ينظرن للشمس
و هن ينشرن الغسيل فوق السطوح.
المرات القليلة التي غادرن فيها المنازل
كن يسقطن بعد كل خطوة
لأنهن نسين المشي
في مساحات واسعة.
أطفالهن الذين يَحْبون في دموعهم
يعرفونهن من أرجلهن
لا وجوههن.
حين يمتن
ينهرن النسوة اللاتي يولولن لأجلهن
و يُغسِّلنَ جثثهن بأنفسهن.
حُمّى الدقيق
لم يكنّ ينخلن
كنَّ يرقصن على إيقاع المناخل
ثم يخرجن من حجرات المعيشة
ملائكة بيضاء
بغبار الدقيق
إلى أن يلطمهن الأزواج فجأة
فيعُدن مرة ثانية
أشباحًا
في ملابس سوداء.
كانوا يجهزونني للنبوة
(ضيّعتُها لأنتقم منهم)
حينما كان أبي يضربها
و تهجر البيت
كنت أتشبث بذيل ثوبها
و أجري في الغيطان
خلف خطواتها المتعجلة
و حطب القطن يخدّش خديَّ.
لم تكن تحملني أبدًا
لم تكن تبطّئ خطواتها لأجلي أبدًا
طرحتُها السوداء
، التي يطيرها الهواء فوقي،
غمامة
تمطر الدمع.
تلقائية
(معرضها الأول احترق)
يدها. يدها الخشنة
التي يمكنني أن أعد المرات
التي رأيتها
دون آنية
كانت تنتهز الفرصة
و تقضي نهارات كاملة
تنقش بها الورد
على كعك العيد.
و كما يفعل الفنانون الحقيقيون
تقف
، أمامنا،
بجزع شديد
خشيةَ ألا نأكل لوحاتها.
سكّر
ابتسامتك بالسكر
دمعاتك بالسكر
تقفين في الماء و لا يذوب السكر.
تقعين و لا تنفرط حباته.
الآن عرفت
لماذا يتشاجر الأطفال
على قبلاتك.
أهش الفراشات الملتصقةَ بجسدك
كي لا تطيري
و أبقى وحدي.
أنت تشيخين في الأربعين
لتزدادي مهابة.
وزنك المتناقص يختلط بالهواء
ليَشفَى ناس مصابون بالأملاح.
أسنانك تسقط
لأنكِ لا يليق بكِ إلا أسنان ذهبية.
تمرضين بالأمراض الحلوة
أيتها اللصّة الصغيرة
كنت تسرقين بيضات دجاجتكم
و تفرطين في أكل الحلوى.
دم المدرسة
(كنت أكتب به)
فضلاً عن أنها تعمدت أن ترهقني
و هي تلدني،
كانت ترتدي دائمًا ملابس سوداء
لتضيع مني في ظلام الغرفة
كما أنها كانت تمسح دم المدرسة عن أنفي
، قبل أن يعلم أبي،
لتهديدي لو خالفت أوامرها
كأن تجبرني على أن أرتدي
ملابس شتويةً بشعة
قضت ليالي طويلة تلفقها لي
أو أن أنتحب معها
لأجل نعوش عابرة
لا أعرف من بداخلها.
أطرد الغريب
يمكنني أن اطرق باب أي منزل
و أدخل حجرتي
و أعلق قميصي على المسمار
خلف بابها
ثم أجلس الى المائدة
و أتناول العشاء.
بالتأكيد سأطوح الطبق في الهواء
لأن الطعام نيئ قليلاً
و أنهر البنت
، التي هي أختي،
لأنها تأخرت بالخارج.
ثم أقف في الشرفة
و ألوِّح لابنة الجيران.
لا أشعر أبدًا بأنني غريب
إلا حينما تضمني صاحبة المنزل
و التي تشبه أمي تمامًا.
معهم طاسة الخضّة
كنا نهجر الأهل
إثر كل صفعة
و نعمل قراصنة
نأكل لحوم المسافرين
و نضاجع جنيات الماء.
و حين نعود في نهاية الرحلة
(بسيوف نهزها في الهواء
فتنقّط الدم
مقوّسة قليلاً
لكثرة ما غرسناها في القلوب)
نجدهم ينتظروننا على الشاطئ
يلوّحون لنا بذعر حقيقي
فنكتم ضحكاتنا
و كل منهم يختبئ خلف الآخر
كلما تقدمنا لنحضنهم
بصدور وشَمْنا عليها جماجم
و عظامًا متقاطعة
بينما المدرسون
يدقون عصيّهم بأيدٍ مرتعشة
لنربط فيها المراكب.
المراكب الورقية.
رُقية
(خطة لأجل الصغار)
إلا اننا كانت لنا وسائلنا الخاصة
لانتزاع حنانهم
فقط، نجلس في الشمس
إلى أن نصاب بالحمّى
فيضطرون
وهم يرقوننا،،
أن يمرروا
، برفق،
أيديهم المعروقة
على أجسادنا
و يرموا لكلابنا الصغيرة
، التي يركلونها بوحشية،
خبز الرُقية.
محراث.. تآكلت أسنانه
(من كثرة الحرث، لا الحلوى)
لم يرني جيدًا آخر مرة
و سيكون عليَّ
أن أطعمه بيديّ
حينما تهتز يداه أيضًا
في المستقبل.
اليدان اللتان كانتا تضربانني بقسوة.
سأكون نذلاً و أبتسم.
اندلقت منه قطرات
فصنعت النجوم
تحبس طاجن اللبن
في غرفة المعيشة
ثم تربط المفتاح في طرف طَرْحَتِها
و تجلس أمام الباب.
و لما كنا
، نحن الأطفال،
نلحُّ عليها بأننا جوعى
تُوهمنا
،و هي تذرف دموعًا حقيقية ،
بأنه غافلها و فر من الشباك
ليشتغل قمرًا في السماء.
ربطنا فيها البهائم
كأي شجرة
لما شح بصرها
و كان عليَّ أن أعطل طفولتي
و أسحبها
لتثرثر مع جارات قديمات
كنت أنتقم منها في الطريق
و أغرسها في الوحل
ثم أجمع الأطفال و نتسلقها.
و مع أنها كانت تبكي
و تنهرنا
إلا أنها
، شيئًا فشيئًا،
صارت تتمايل مع الهواء.
و في المرة الأخيرة
أخرجتْ ثمرات تين من جيوبها
و رشقَتها لنا
في أصابعها.
سكر
لما تداهمها الغيبوبة
ترى نفسها جالسة على شوال من ريش
فوق رأسها تاج من أغصان الصفصاف
و أبي
، داهنًا وجهه بهَباب الفرن
ِ
ليبدو كخادمٍ حبشي،
يُروِّح على وجهها بمقشة طويلة.
بينما جارتنا
، بيدين مرتعشتين،
تغسل قدميها
و تجففهما في ثوبها البنفسجي
الذي غاظتها به طويلاً.
طيّبة.. و سيمهلها يومين
حينما سيفاجئها عزرائيل
، وهي وحدها بالمنزل،
ستقدم له فطيرة و كوب شاي
(ثم تسحبهما
، بخجل،
بعد أن تتذكر أنهما
دون سكر مطلقًا)
و تحكي كيف زوّجت ثلاث بنات
دون أن تقترض
، من الجيران،
طبقًا واحدًا.
إن زوجها ما كان يفتح بيتا
لو لم يبع خاتمها " الكليوباترا ".
و ستشتم له أم طارق.
ثم تقف فجأة و تقول:
"بعد إذنك يا عزرائيل،
سأرش القمح للدجاجات
يُه:
كيف أستقبل وحدي
، هكذا،
رجالاً غرباء؟!"
أمي... برميل الدمع
في أيامها الأخيرة
ابيضَّ شعرها كالقطن تمامًا
و كان علينا أن نتبادل نوبات حراستها
لنفزِّغ العصافير
التي تحط من النوافذ
و تصنع منه أعشاشها.
كان علينا أيضًا
أن نربط لها يدها
بشريط في رقبتها
بعد أن صارت معروقةً
كجذر شجرة
حتى لا تنتهز أقرب فرصة
و تتشبث بالتراب.
أبي بكى فعلاً
(أنا تفرَّجت عليه)
كانت تنظر لنا بطرف عينها
و تبالغ في الأنين
لتتأكد أن هناك من يبكي لأجلها
،و لو لمرة ،
قبل نهاية العمر.
مع أن ملاك الموت
يسحب روحها بخفة شديدة
بيدين مدربتين
على ملايين الموتى
منذ أن تسلم مهام عمله
من الله.
البطل
(أو كيف تطعم الدودَ بأمِّك)
سيناولها أبي لي
و سأرقدها على جنبها الأيمن
ثم أهيل التراب
، ببراعة،
على ابتسامتها
و أتسلل خارجًا
دون دمعة تهز رجولتي
أمام الأكف الكثيرة
التي تتزاحم لمصافحتي.
ستصلح سحابتين تتعاركان
و هي عابرة
بالتأكيد ستبتسم لنا
من السماء
و هي راقدة على ظهور الإوزات
و أخواتي البنات
يلوحن لها
بالدموع و المناديل.
خلافات عائلية
ستكون راقدة
، لا تزال،
على جنبها الأيمن
ابتساماتها مقشّرة على التراب جوارها
عندما يدخل أبي
معطرًا في كفن صوفي.
ستلملم كفنها حول صدرها جيدًا
ثم تنهره بعينين متدليتين و تقول:
"لماذا لم تقضِ الليلة عندها أيضًا؟"
و ربما تقذفه بحفنة ديدان شرهة.
أو تترجى الملاكين
اللذين صارا صديقيها،،
ليحاسباه بشدة
إلا أنها
حين يذرف أول دمعة
تذكره بالشهادتين
ثم تفك رباط كفنه الضيق
و تضع قدميه
في حفرة دمع ساخن
و تمنحه مخدَّة تراب
مريحة.
سكر
جسدها الذي سيُدفن
و يختلط بالتراب
لن ينبت تفاحة أو وردة.
سينبت صبَّارة
مُسكَّرة.
كل هذه السنين
يعودون كل مساء
حاملين الفؤوس على الأكتاف
و بأورام صغيرة في الأيدي
زرعوا القمح للتمويه
بعد فشلهم في العثور على الكنز
الزوجات ينظرن لهم
، في صمت،
و لا يُعيّرنهم.
هن أيضًا أضعن أعمارهن
في سرقة النهر
بجرارهن.
غرباء
الجلابيب خيامهم
مثل أَشْوِلة قمح مسوّسة
يستندون على الجدران
غير قادرين أن يهشوا البط
الذي ينقر أقدامهم المتورمة
فقط، ينظرون لنا بأسى
و نحن ندمي وجوهنا
بأمواس الحلاقة
و يتذكرون أيامَ كانوا
يحِشُّون الحشائش بالمحشّات
دون أن يخدشوا
وجه الأرض.
متربّعين داخل قلبي
و بجزمهم
أيديهم
التي تُحنّن
، بلمسة،
ضروع البقرات
فيشخب لبنها في الطواجن.
التي تقنع الشموس الصغيرة
الهاربة في الأجساد النحيلة
بأن تحج إلى إلى أمها في السماء.
التي توزع الطعام
،دون أن تسر اليمنى لليسرى ،
.على الفقراء و أهل الخطوة في الموالد
التي تبتسم
، في الخفاء،
تحت المناديل
في أيدي عرسان بناتهم.
المتصببة عرقًا
.و هي تحاول التوقيع على العقود
المرتعشة
، بمذلة حقيقية،
و هي تكرر كذبها على الله
في الدعاء.
كان لا بد لها أن تلطم وجوه الزوجات
، من وقت لآخر،
كي
لا تنسى
رجولتها.
سعداء بعطر الغُسل
(هذه أول مرة)
كملوك قدامى
يحملهم العبيد في المحفات
يضطجعون على أكتافنا.
يختلسون النظرات من فتحات النعوش
و يعدّون
، بفخر،
الرجال الكثيرين
الذين يسيرون خلفهم
في ملابس زاهية.
لا يؤرق فرحهم
إلا الأشياء البيضاء
في كفوف الزوجات في آخر الصفوف
هل هي مناديل مبللة بالدمع
أم حمامات تحاول الطيران؟
ليلة لأهل الله
يحاول أبي
أن يُفْهِمها
أنه لا توجد مطابخ في الجنة
تساعد فيها الحوريات.
بينما هي تبتسم و تحذّره
من أن ينسى و يشمر ذيل جلبابه
ليرص الأرائك
و يوزع الأطباق
على المؤمنين.
أين أحزاننا القديمة
أين كلابنا؟
بالتأكيد سنعود يومًا
حفاة و بملابس ممزقة
يدق الأطفال خلفنا
على أغطية الأواني.
آباؤنا سيدفعوننا بعيدًا
كي لا نوسخ عباءاتهم بلعابنا.
بينما تمسح أمهاتنا دموعهن
بأطراف الشيلان
و يدعين لأبنائهن
كي لا يعودوا مثلنا.