قبلة في الهواء
مختارات من شعر نورا عثمان
بورتريه
تبدو بدائيًّا تمامًا
جارحًا ومُعَذَبًا...
وأمام عينيكَ اللتينِ ستَشرَسانِ وتَألَفَانِ وتومِضانِ وتذهبانِ أسىً أمامي
-ربما وَهَجٌ سوى جسدي
سيرسلُ وَمضَهُ
وتراهُ وحدَكَ-
كنتُ أخلطُ مُمكِنَ الألوانِ
أحمي لوحتي البيضاءَ مِن فوضايَ؛
حتَّى
بقعةٌ خرقاءُ واحدةٌ
تعذِّبُني إذا مسَّتْ بهاءَكَ
لوحةٌ للآدميِّ
وحولهُ ضوءٌ رقيقٌ
لستَ مُحتاجًا لشيءٍ غيرَ ذاكرةٍ
بها بحرٌ؛
لألتقطَ الملوحةَ في عيونِكِ مَرَّةً. وبها صَحَارى
طقسُها عرقٌ؛
ليلمعَ فوقَ صدغيكَ الرّذاذُ
وعرضَ نَحرِكَ
طولَ ظَهرِكَ
آمرًا مُتَحَدِّيًا شبقي،
ودوري أن أُهذِّبَ رغبتي.
وبها أنا
أدعوكَ في لطفٍ لمرسميَ البسيطِ هنا وأشعلُ ضوءَهُ
وهنا ارتباكُكَ مِن إطارٍ طولهُ قدمانِ ليسَ مُبرَّرًا
ومِن اقترابي منكَ
دارسةً ملامحَكَ الجميلةَ
في تَرَوٍ فاتنٍ
وعليهِ
نقتسمُ الهواءَ بدقَّةٍ ملحوظةٍ وتتابعٍ -في أوجِهِ الحِسِّيِّ- بينَ مُرَاقَبٍ ومُرَاقِبٍ
أَجِدُ الكثافةَ مادةً فنيَّةً؛
وأريدُ منكَ الآنَ
أن تنسابَ إحساسًا وجسمًا
أن تذوبَ حقيقةً.
فَسِّرْ مِزاجي نَزعَةً ساديَّةً
وأنا أَصُبُّ على انصهارِكَ نظرةً كالحمضِ أطلبُ منكَ أن تعرى سريعًا
دونَ أن تُبدي اعتراضًا واحدًا..
صورٌ دواخلُكَ التي انكشفتْ
أمامي
عالمٌ صَخِبٌ وراءَ ستارِ جلدِكَ.
للإضاءةِ دورُها الفنيُّ:
راقبْ
كيف تفشي سرَّها الأجسادُ تحتَ الضَوءِ تفشلُ أن تكونَ منيعةً؛
جسدٌ لهُ لغةٌ مشاعٌ
كيف يَغمُضُ؟!
لا تخفْ مِن نَزوَةِ الفُرشاةِ
مِن طمعي بأن تحيا على ورقي
وتطلبُكَ المعارضُ
يقتنيكَ الآخرونَ
لغايةٍ تبدو رفاهيةً
وتعرفُ بينهمْ باسمي
وأنتَ تكادُ تَنطِقُ عن حياتِكَ!
لا نهائيٌّ مِن الفوضى التي آلتْ لشكلٍ، لا نهائيٌّ مِن الأشكالِ
أَمكَنَها التّفتّتُ
والتّكوّنُ..
مثلَ مَن تمشي على حَبلٍ
أمارسُ مِنهجي الفنيَّ
أُغني مادتي عن شكلِها
وأَعي شراسةَ طمسِهِ
بتوترٍ ورهافةٍ
مآل العشب/ سونيتة للنهر
(١)
ثَمَّ انحسارٌ واضحٌ للنَّهرِ أو ثَمَّ انحسارٌ واضحٌ سيكونْ وأنا أراكَ تُحيلُ عينَكَ عن جمالي
كانَ يَشغلُني مآلُ العشبِ
هل سيصيرُ حِنطيًّا؟
رماديًّا؟
ضعيفًا في مهبِ الموتِ؟
مُختَلِطًا عليهِ الأمرُ؟
أقربَ قفزتينِ إلى الجنونْ؟..
عشبٌ رماديٌّ!
تخيلْ!.
ليسَ وسعي أن أديرَ إليكَ عيني
كنتُ أبكي موتَهُ الآتي
غريبًا.
وحدَهُ
والشَّمسُ توقظُهُ
يُغيِّبهُ السُّكونْ
ونَعَمْ حبيبي
كنتُ أسمعُ صوتَهُ يعوي
يغنّي
ينتهي
والرِّيحُ تَنخُلُه ترابًا والسَّماويُّ المُحَلِّقُ فوقَهُ عرشًا يُطِلُّ بلا عيونْ..
ماذا وراءَ الموتِ قلْ لي؟
لو أصيرُ شجيرةً
وتميلُ أغصاني
تِجَاهَ النَّهرِ
قايضتُ احتضانَكَ لي وحبَّكَ بالظُّنونْ..
لَولا سيرتفعُ الشِّراعُ على ذراعِكِ أو تُميلُ إليكَ رأسي مثلَ داليةٍ وتقطفُ مِن فمي ثمري
وتعجبُ مِن مَذاقي؛
حامضًا/حلوًا
ويُفقِدُكَ اتزانَكَ..
هل شهدتَ سِواهُ -غيرَ النَّهرِ-
ريقًا مُدهِشًا
يُحيِي،
وهل خلَّى على شفتيكَ تيارًا
مِن الحُمَّى؟
يُغازلُني ازرقاقُ النَّهرِ مثلُكَ ظلَّ يخطفُ لَفتَتي
ويشدُّ عيني نحوَهُ
وأنا أحبُّكَ أنتَ
لكنْ مَن تردُّ غوايةَ الأنهارِ؟!
مَن سلَّتْ سهامَ عيونِها
لتُصيبَ ماءَ النَّهرِ
تدخلُهُ
وتَطرَحُ ثوبَها
(٢)
ساقايَ تندفعانِ في المجرى
ويَخطُرُ لي بأنِّي قد عبرتُ النَّهرَ قَبلَ الآنَ
من زمنٍ سحيقٍ،
كانَ يُعجِبُني ازرقاقُ الماءِ مُتَّحِدًا بكعبي بالتُّرابِ الحيِّ في جسدي
بعشبٍ أخضرٍ ينمو على أطرافِ ذاكرتي ويبدأُ غابةً..
لو كانَ هذا النَّهرُ مُمتَلِئًا
لكنتُ غسلتُ شَعري
كنتُ في مرحٍ نثرتُ الماءَ نحوكَ
غيرَ أنِّي
كانَ يَشغَلُني احتمالٌ واحدٌ صعبٌ
بأن يَتَوقَّفَ المَجرَى لأجلي لاعتصاري كلَّما امتلأتْ مسامي منهُ
أو فَرَغَتْ
أُفَكِّرُ ما الَّذي أعطيهِ مِن جسدي وماذا لو يَضُخُّ بلونِيَ الحِنطِيِّ أزرقَهُ ولو في مائهِ ساقايَ ذائبتانِ
لو شيئًا فشيئًا صارَ يأخذُ هيئتي
نهرٌ أُنوثِيُّ الملامحِ!
صورتي والنَّهرِ واحدتانِ
صورةٌ ربَّةٍ أولى
وماءٍ لا يموتْ..
ماذا ترى في قاعِ عيني
ما الَّذي عاينتُهُ في قاعِ عينِكَ أيُّها النَّهرُ الصَّموتْ؟ كم وِجهَةً للرِّيحِ تعرفُ؟!
هل ستأخذني إلى ما لستُ أعرفُ؟
لا أريدُ سوى حبيبي
غيرَ أنِّي أتبعُ التَّيارَ؛ يتبعُني حبيبي.
شهوةْ
ماذا أصنعُ
وأنا امرأةٌ هادئةٌ في الزَّمَنِ الهائجِ؟
يدخلُ من شُبَّاكي اللَّيلُ
ويخرجُ
يدخلُ منهُ الصُّبحُ
ويخرجُ
أسمعُ صوتَ الغابةِ
في الأُطُرِ الخشبيَّةِ،
ضِحكَ الشَّجرةِ
قبلَ وصولِ الفأسِ إليها
أسمعُ أَنَّتَها
إذ يجرحُها النَّصلُ
ويَنهَمِرُ النُّسغُ
إلى قدميها
تبكي الشَّجرةُ
أم أبكي
وأغطِّي عينيها..
...
ماذا أصنعُ
وأنا أتقطَّرُ ألمًا؟
والدُّنيا -الوردةُ-
مِن حولي تتفتَّحُ
آهٍ أَيَّتُها الوردةُ
مِن أيِّ الشَّجرِ الكونيِّ
طَلَعتِ؟!
ومِن مِيْسَمِكِ الهائلِ
كُنَّا
...
تنفتحينَ وتنغلقينْ
تنفتحينَ وتنغلقينْ
..
كم حاكيناكِ -صِغارًا-
أَيَّتُها الرَّبَّةْ
ماذا أصنعُ
وأنا امرأةٌ بالِغَةٌ
واللُّعبَةُ:
رغبةْ!
...
أَتَشَهَّى أن أَعشَقَ
أن أَنعَسَ في حِضنِ حبيبي
ومعًا
نَنشَغِلُ عن اللَّيلِ المُتَسَلِّلِ حولَ الغرفةِ
وعن الصُّبحِ المُتَثَائبِ
خلفَ الشُّبَّاكِ
وتنبثِقُ الغابةُ
-باهرةُ الأشجارِ-
على جسدينا
ونفكرُ:
كائنةً أم ليستْ؟!
حاشاكِ!
على الجسدينِ النُّوَّارينْ:
تنفتحينَ وتنغلقينْ
تنفتحينَ وتنغلقينْ
قُبلَة في الهواء
تمامَ امتلائيَ بالحُبِّ
في السَّاعةِ الصِّفرِ
دونَ طبولٍ تُدَوِّي
ودونَ احتراقِكَ
دونَ انفلاتِ دُخاني،
فَقَطْ نُسرِجُ اللَّيلَ بالضِّحكةِ المُنتقاةِ، ونبكي كهذا البكاءِ الَّذي لا يُبَرَّرُ- أمنحُ نفسي كما يمنحُ النَّهرُ نفسَهْ...
مَن الظِّلُّ حينَ نكونُ معًا يا حبيبي؟ أنا الآنَ أكثرُ منكَ افتتانًا بضوئي وأقدرُ منكَ امتزاجًا بليلي
تَمَهَّلتُ حتَّى عَلَتْ فوقَ كفَّيكَ أشجارُ خَوْخِي وعَرَّشَ كَرْمِي الشَّهيُّ على ساعديكْ وخَمَّرَ حبَّاتِهِ في عروقِ يَدَيكْ لتصفوَ -كالنَّبعِ- رُوحُكَ؛
أهوي إليكْ
مَن الظِّلُّ حينَ نكونُ معًا يا حبيبي؟!
أُقَبِّلُ خَدَّكَ؛
لا شكَّ قد جَرَّحَتْهُ يدٌ،
ثُمَّ عينَكَ
حلوًا ومرًا رأتْ،
وأُدَاوِيكَ مِن زَمَنٍ كالَّذي نحنُ فيهِ، وأَحرُسُ قلبَكَ مِن غولِ أقدارِنا.. وأقولُ لنفسي:
"هو الآنَ
أهدأَ مِن قطَّةٍ بينَ كفَّيكِ
عرِّيهِ مِن شَبَقٍ جاهلٍ
واسأليهِ:
بجسميَّ كم شَامَةً صِرتَ تُحصِي؟ وكيفَ هو الليلُ أدفأَ مِن قُبلَةٍ في الهواءِ؟"
تَعَالَ حبيبي
ستبلعُ أسماؤنا نفسَها
ثُمَّ نعلو قليلاً عن الأرضِ؛
تَسحَبُ فستانَها
ثُمَّ نَغرَقُ في زَبَدٍ لامعٍ يَتَلَألَأُ كالشَّمعِ
حولَ سريري..
تَعَالَ حبيبي
سنغسِلُ عنَّا مَراراتِنا
ونُهَيِّئُ مَضجَعَنا بالخُزَامَى سنمنحُ للضَّوءِ وقتًا ليصنعَ بَلُّورةً حولنا ثُمَّ للنَّارِ وقتًا لتعصفَ هبَّاتُها، ثُمَّ مِن فَورِها تَتَوَقَّدُ
في جِلدِنا
وتَفُورُ؛
إِذَنْ
تَعرَقُ الرُّوحُ
ينمو على الجسدينِ:
ندًى وزهورُ..
أُحِبُّكَ لا موقنًا كيفَ أنِّي أُحِبُّكَ؛ كالرَّملِ في ساعةِ الرَّملِ رَهنًا لوقتي أحلُّ بعينيكَ
توَّاقتينِ وخائفتينِ
وأفتحُ بابَ خروجي..
معي
أنتَ
أحلى شرودًا وشكًّا
يدغدغُ حِسِّي التباسُكَ بي
ويثيرُ رُخامي
ويصهرُ ثوبَ ثلوجي
بلطفٍ
بإيقاعِ شالِ حريرٍ يهفهفُ فوقَ انحناءاتِ ظهري برِقَّةِ ريحٍ تُدَلِّلُ خُصلاتِ شَعري بلطفٍ
كأن ثَمَّ شيءٌ سيكسِرُهُ الحِضنُ
لو يتجبَّرُ
شيءٌ يذوبُ على مهلِهِ
ثُمَّ يَنصَبُّ مِن كأسِهِ
ثُمَّ يجري
أُريدُكَ
والآنَ أو قبلَهُ
وهنا أو هناكَ؛
كأنْ كانَ وقتٌ تبخَّرَ منّي وأَمكِنَةٌ غيَّرتْ شكلَها في عيوني.. أراهنُ عينيكَ أنْ تتركا فتنتي وتناما لجسمينِ يرتعشانِ هوًى
أنْ يصيرا قريبينِ
ألَّا يبيتا وحيدينِ في مَخدَعِ الليلِ جسمينِ مِن رغبةٍ وبخارٍ!
كمَن كانَ يخرجُ مِن ذاتِهِ يعريانِ.. ونحنُ نمارسُ هذا التَّبدُّدَ
ماذا يصيرُ بنا يا حبيبي؟!
لأجلي
لدفقةِ سُكرٍ تطيرُ فَراشًا على حقلِ جلدي لدوامةٍ تتخلَّقُ مِنّا
تدورُ بِنَا
ولأجلِكَ:
أنتَ
أنا
وكلينا
ووحدي،
أَتِمُّ أسًى
وهوًى
وجمالاً
ومِن قُبلَةٍ في الهواءِ
أُهاديكَ خَدِّي.
ذاكرةْ
تَجرَحُ أو لا تَجرَحُ،
تَفتَحُ بابًا في رأسِكَ للفوضى أو لا تَفتَحُ،
تَخدِشُ مرآتىْ عينيكَ بمسمارينِ ضئيلينِ،
تُحَمِّمُ جلدَكَ بالعَرَقِ الباردِ،
أو ببخارِ طبيعتِها
يالرهافتِها!..
....
تأتيكَ مِن النَّافذةِ المُغلَقَةِ،
وتهمسُ في أذنيكَ بصوتِكَ
تَشعُرُ بالساقينِ اللاهبتينِ
كأنْ أشعلتا النّارَ بجلدِكَ،
بالكعبينِ البرَّاقينِ
-كأنْ غُمِسَا في الضّوءِ-
بجفنيكَ يغوصانِ؛
وتدركُ عينَ حقيقتِها:
زائرتُكَ
-في أوجِ تَحَرُّزِكَ
وفي أوجِ دُوَارِكَ-
جارحةٌ كالصّقرِ،
وواضحةٌ كدمٍ في الثَّلجِ،
وتتشمَّمُ خوفَ طريدتِها!..
....
ندَّتْ عن فَمِكَ الصَّيحةُ
طارتْ مِن قَاعَيْ عينيكَ سَكِينَتُكَ
وفاضَ تِبَاعًا بحرُكَ:
بحرُكَ
روحُكَ
-خاضعةٌ للجَذرِ الدَّائمِ-
تخرجُ عن هَدأتِها؛
ثمَّةَ مَن تأكلُ قلبَكَ
وتُقَلِّبُ في رئتيكَ لسانَ غريزتِها!..
...
مثل رمالٍ متحركةٍ
تسحبُ قدميكَ عميقًا،
تتمكَّنُ منكَ،
وتُخضِعُ أطرافَكَ
حتّى يتراخى جسمُكَ في ضمتِها؛
تتحكَّمُ فيكَ
فلا تدري
هل تركضُ رأسُكَ في الزَّمنِ الحُرِّ وراءكَ
أم يتشابكُ خيطُ حياتِكَ أعقدَ ممّا كانَ؟..
وهل يتحرَّكُ فِكرُكَ
أم يتوقَّفُ
في رفقتِها؟..
....
بخلافِكَ:
لا تأبهُ
إن كانتَ حانيةً أو قاسيةً،
أو إن كنتَ ستطلبُها ثانيةً
أم لا،
كمذاقٍ لبثَتْ وقتًا -لا يُذكرُ- في طرفِ لسانِكَ
أو عنقاءً نهضتْ؛ تُلهِبُ دومًا رُوحَكَ،
تَتَغَطرَسُ في الحالينِ
وتتفجَّرُ كاملةً
مِن داخلِها السرِّيِّ إلى قشرتِها.
قمر
قمرُ الليلةِ مُحتَقِنٌ كمزيجٍ مِن لبنٍ ودمٍ قمرٌ يتأنَّثُ حينَ يكونُ مريضًا ويفكرُ في وحدتِهِ:
"ماذا أَكسِبُ أو أَخسِرُ في الأعلى، وحدي؟
ماذا أفعلُ في بيتي الشاسعِ
في الشرفاتِ العاليةِ الزرقاءِ، بعيدًا؟ ماذا يتغيَّرُ إلا يومًا تلوَ اليومِ مدارَ الشهرِ الكاملِ
يَنحَلُ أو يَسمَنُ جسدي؟
ولماذا أتذكرُ مِن رؤيايَ دمي
أنّي امرأةٌ؟
ولماذا لا أنسى حين أنظفُهُ
دائرةً حمراءَ؛
تُذَكِّرُني،
وتكونُ الشامةَ في خدّي؟
أصطبغُ الليلةَ بالطمثِ القاني..
مَن تبصرُ غيرُ امرأةٍ
حزني وشحوبي،
تفطنُ لمزيجٍ -يتكرَّرُ- مِن لبنٍ ودمٍ وتراني:
لا قمرًا مُحتَقِنًا
بل قمرًا زاهيةً كالوردِ؟!"
منام
(١)
كانتْ يدي مصبوغةً بالحبِّ
حين لمستُ وجهَكَ في حُنُوٍّ بالغٍ ويداكَ مرسلتينِ في رفقٍ جوارَكَ.
تجعلُ الضوءَ الجميلَ عليكَ أجملَ
حين ترقدُ هادئًا في حجرتي:
كالقطِ
منتظرًا أصابعَ مَن تداعبُ فروَهُ
قطعًا تموءُ؛ ولا أفسِّرُ ما تقولُ
ولا أحاولُ أن أفسَّرَهُ،
يشابهُ ضربةَ المطرِ الخفيفةَ
فوقَ وجهي
صوتُكَ الخالي.
وتخدشُ بقعةً في القلبِ رنَّتُهُ
كأنَّكَ لا تحسُّ أظافري نفذتْ عميقًا في عظامِكَ لا تحسُّ توغلي يؤذيكَ
لا تأتي ببالِكَ فكرةٌ أُخرى
تؤيِّدُ ما أراهُ:
كأنَّنا وحشانِ في قَفَصٍ
ولسنا عاشقينِ بحجرةٍ؛
بأصابعٍ عشرٍ نُكَوِّنُ أنهرًا عشرًا بجلدينا، يغطينا -معًا- دَمُنا،
ويسقطُ جلدُنا قطعًا مُنَمنَمَةً،
ولا يبقى وراءَ نِثَارِ جلدينا وكومةِ لحمِنا شئٌ
سوى ضوءٍ قليلٍ
-قدرَ مِلعَقَةٍ-
كلانا راغبٌ في هدرِهِ
بالضَّبطِ مثلَ رسالةٍ للبحرِ
نقذفُ كتلةَ الضوءِ الصغيرةَ للفراغِ وفي مُخيلتي
سندخلُ في دوارٍ هائلٍ
لكنَّنا
عِوَضًا توازننا
وحرَّكنا معًا أطرافَنا
فَزَعًا لأعلى
(٢)
تبدو بكَ الأحلامُ صادقةً؛ فيمكنَها خداعي. كنتُ أحلمُ!
والسريرُ يغطُّ تحتَ الشمسِ،
والضوءُ المشاكسُ يزعجُ العينينِ في دأبٍ؛ فأفتحَ نصفَ عيني
ثُمَّ تخطرُ فكرةٌ:
صارتَ كُرَاتُ الضوءِ شمسًا
والأصابعُ، نهرُها عَرَقًا
وما ينمو على قلبي كفُطرٍ،
-لا أفسِّرُهُ-
تَعَملَقَ في منامي.
أَحلُم
أَحلُمُ بالنارِ جواري وأُفِيقُ بحرقٍ في كفِّي لابدَّ وأنِّي في حُلْمي لامستُ النَّارْ. أحلُمُ بالماءِ على شَفَتي يتبخَّرُ؛ أُبصِرُ ما يشبهُ خيطًا شفافًا يصعَدُ للأعلى مِن شَفَتي ولساني.
وأفيقُ وحَلقي كِسرَةُ خبزٍ ناشفةٌ ولساني كثبانُ رمالٍ
وشفاهي أطباقٌ مِن فخَّارْ..
أَحلُمُ بالليلِ -ولا تختلفُ الأحداثُ إذا ما الحُلمُ تكرَّرَ؛ فالساعةُ عَقرَبُها لا يتحرَّكُ دقَّتُها خيلٌ نائمةٌ
هل تَحلُمُ في النَّومِ الخيلْ؟!- مَخلوقٌ ضخمٌ؛
حَجمِي بين يديهِ كحَجمِ العُملَةِ بين يديَّ. حَواليَّ عناقيدُ نجومٍ تجري
تحتي قمرٌ مكتملٌ يرسو.
وأُفِيقُ
ولا أتذكَّرُ شيئًا مِن إحساسي
لا أتذكَّرُ ماذا كنَّا نفعلُ
لا أتذكَّرُ إلّا وصفَ الليلْ!
أَحلُمُ بالنَّاسِ كأنْ عيني التقطتْ أكداسَ وُجُوهٍ وأحاولُ أنْ أتذكَّرَ مَن.
أكداسُ وُجُوهٍ
تألفُ عالمَها المصنوعَ تمامًا وتُقَلِّدُ هيئتَها المألوفةَ عندي وتمامًا تلزمُ ذاتَ الأوصافْ.
وجهي في حُلْمِ الآخرِ
-في أكداسِ الصُّوَرِ الموجودةِ-
هل يشبهُ ما أُبصِرُهُ الآنَ بحُلْمي: أُبصِرُ وجهي في مرآةِ الحوضِ
مريضًا
يُنذِرُ بالموتِ؛
أُفِيقُ وأنفاسي قطعانٌ هاربةٌ مِن مَرعاها الجافْ
أَحلُمُ بالأفعى.
بأفاعٍ شتَّى
تَتَلَوَّى أسفلَ جلدي
وتَفُحُّ جوارَ عظامي
لكنْ لا تدخلُ قلبي
تغفلُ عن شجرٍ ومَراعٍ وجحورٍ دافئةٍ وظلالْ. تزحفُ حتَّى تتلفَ أعصابي مِن ملمسِها وأُفِيقُ ودمعي يملأُ عيني
ومكاني -في إثرِ النومِ الطائرِ- لا أعرفُهُ وأحسُّ بقلبي
يتقلَّصُ في مَوضِعِهِ
ويُصَلصِلُ كالجَرَسِ الخائفِ في الحالْ..
أَحلُمُ بالبحرِ وأغرقُ فيهِ
ولا أتعلَّقُ بالقَشَّةِ
لا أتعرَّضُ -فرضًا- لنفادِ الأنفاسِ وأسبحُ
حيثُ الماءُ المتلاطِمُ أنعشَ رأسي والملحُ الحارقُ نظَّفَ -فورًا- بصري وحراشيفٌ غطتْ بدني السابحَ كليًّا وأنا كالسمكِ البارعِ أغطسُ
حتى ألمسَ قاعي.
وأُفيقُ وكلِّي شكٌّ:
أينَ مكاني؟
ماذا أصنعُ في البَرِّ؟
لماذا تتألّمُ -هذا الألمَ العاصرَ- أعضائي؟ ولماذا أحملُ ذاكرةً أُخرى عنّي
وأحسُّ ضياعي؟!
أَحلُمُ أنِّي عالقةٌ بشباكٍ
يَسهُلُ أن أقطعَها
لكنّي لا أفعلُ.
أُكمِلُ حُلْمي
وأنا صيدٌ يحملُهُ الصّيّادُ على كتفيهِ لأهلٍ جَوعَى.
أسمعُ فَرقَعَةَ الحطبِ اليابسِ في النَّارِ، أرى بوضوحٍ آنِيَةَ الطبخِ
وأشعرُ بالسِّكينِ الحادةِ تقطعُ جزءًا مِن لحمي. وأُفيقُ
وجرحٌ طوليٌّ
مَوضِعَ أسناني فوقَ الشَفَةِ السُّفلى ينزفُ حتّى ذقني
وأنا كلّي لحمًا ودمًا
يَمضُغُني ندمي..
أَحلُمُ أنّي واقعةٌ بالحبِّ؛
أُحِسُّ بقلبي يرقصُ تحت ثيابي
وأنا أتزيَّنُ
ثُمَّ أعطّرُ نفسي.
في مقهًى معتادٍ
أجلسُ كالوردةِ في فستاني الصيفيِّ يدايَ على طَرَفِ الكرسيِّ
وتلمعُ مثلَ النجمةِ عيني.
وأمامي
مَن لا أعرفُ مَن سيكونُ
وفي أيِّ الأوقاتِ يَجِئْ
لكنّي أعرفُ أنّي واقعةٌ بالحبِّ وأنعمُ بالدِّفءِ.
أُفيقُ
وقلبي كُتلَةُ ضوءٍ
لا أتعجَّبُ
حين نحبُّ نُضِئْ
أَحلُمُ بالعالمِ يَضغَطُ مِكبَحَهُ قربَ الهُوَّةِ كي يتفادى مَصرَعَهُ.
أفعلُ -كي أنجوَ- ما يفعلُهُ العالمُ لكنِّي الأتعسُ حظًا أتردَّى
-ليس متاحًا أن أغرسَ وردةَ قبري بيديَّ وأنفخَ شمعةَ عينيَّ
وداعًا-
صارخةً ومعلقةً مِن قَدَمي في الرِّيحِ وسربُ طيورٍ
يعبرُ بالصُّدفةِ هُوَّةَ موتي
آنَ وقوعي.
وأُفيقُ وجسمي قطعةُ ثلجٍ
لا تصهرُها الشَّمسُ
وقلبي صافرةٌ ترتاعُ وراءَ ضلوعي..
أَحلُمُ
أنَّ هنالكَ مَن نامَ بحضني طِفلاً ثُمَّ نَما وتوحَّشَ
هل كانَ مُحالاً ألّا يتوحَّشَ؟
كنتُ أقصُّ عليهِ صباحًا أحلامي
ورأى أبعدَ منّي
أَبصَرَ فيها ما يجعلُني هَدَفًا سَهلاً؛ دائرةً حمراءَ تُحَدِّدُ قلبي..
وهو الماهرُ لم يخطئْ رميَتَهُ.
وأُفيقُ
ويأسي ما زالَ بقُربي
وعلى جلدي دائرةٌ حمراءُ تحدِّدُ قلبي كنتُ طريدتَهُ أيضًا في حُلْمي:
لم أصرعْهُ هُناكَ
ولم أصرعْهُ هُنا.