المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت
مختارات
سارة عابدين
1
صباح الخير
كل عام وأنت بخير. منذ سنوات لم يعد ثمة ما أندم عليه. أعيش هكذا بلا أخطاء تُذْكَر سوى كتابة الشعر، يبدو أنك لا تحب الشعر، وأنا لا أهتم لذلك.
2
مساء الخير
كيف الأحوال عندك، هل تصلك الأتربة الصفراء التي تلوث ملابسي على حبال الغسيل، أم أنك ترسلها لي فقط؟
تجتاحني رغبة قوية في الاعتراف، أحاول التمسك بها للتخفف من الثقل الذي يطبق عليَّ. الطبيب يخبرني أن الشعور بالثقل وصعوبة التنفس طبيعي في الشهر السابع، لم يصدقني حين أخبرته أنني لم أمر بهذا الألم من قبل.
صديقتي تقرأ بضع صفحات من رواية لها قيدالكتابة، أهاتفها وأنهي المكالمة بسرعة حتى أكتب إليك.
ربما تصدِّقُ أنني اخترتُ أن أحكي لكَ أنت بالرغم من وجود خيارات أخرى بين الأقواس، لكنَّ أقماع المرور البرتقالية تعترضُ طريقَ رسائلي، وملائكتك يقفون أمام كلماتي كحرّاس حدودٍ يطلقون الرصاصات القاتلة على عائلة من اللاجئين.
ملائكتك لا يعرفونني جيدًا. أقول أشياء كثيرةً لا أعنيها، حتى في رسائلي إليك، أكتب فقط ما يناسب المجاز ويمشِّطُ شَعْرَ الاستعاراتِ.
هاي..
أنا سارة.. ساذجة وبلهاء، وبالرغم من ذلك أفهم الدعابات، اسمحوا لرسائلي بالمرور دون أن تنتظر طويلًا حتى لا تتكدس المسافة بين السماء والأرض.
3
صباح الخير
هل تراني من تلك الفرجة الضيقة بين العمارات القبيحة المرتفعة؟ لماذا تحجب عني سماءك؟ القط الأعرج الصغير لم يستطع أن يتفادى السيارة المسرعة فحظي بميتة سريعة دون ألم، لكنني بكيت.
أمد رقبتي لأراك، لكني لا أجد أمامي سوى مطبخ الجيران الذي يصل إليه نظري عبر حجرة معيشتهم الممتلئة بضوضاء التلفزيون الصباحية.
هلا نثرت سماءك حولي مثل دُمى قطنية كبيرة على شكل أمي وزوجي وبناتي، دُمى قطنية لا تطلب مني التوقف عن البكاء والذهاب للصلاة وتذكُّر نعمك عليّ.
أذكر كل شيء لكني لا أستطيع التوقف؛ البكاء ينمو داخلي كشجرة لبلاب متسلقة تنضح أوراقها بالدموع.
الطفلة ذات الشعر المموج التي كانت تخشى الولد الشرير فتعطيه شطائرَها حتى لا يتركها على باب الحضانة ليأكلها الأسد، تكتب الآن مقالات تبث فيها نصائح للأمهات لحماية أطفالهن من الأشرار، مقالات ربما تسجل معدلات الأعلى قراءةً، لكنها لا تصل أبدًا للقراء المقصودين، تمامًا كما لا تصلك رسائلي.
4
هل أصبحت رسائلي إليك، اختبارًا وجوديًّا؟
تراجعتُ من جديد، ولم أعد أراسلك بنفس الثقة، أنا ممتلئة بالشك، ولا أعرف شيئًا على الإطلاق، سوى بعض الذكريات العالقة، عن طفلة تريد أن تفرغ ذاكرتها من الألم، وفتاة وحيدة لا تجد صديقة تتسوق معها، أنت تعلم أن التسوق ممتع، هل تعلم؟
هل تسوقت من قبل في فتارين الخلق المتناثرة في هذا الكوكب المشحون بالعنف؟ تضع في عربة التسوق كل ما ترغب به، وتنثره في الهواء ليُخرج خلقًا جديدًا، يموتون في نهاية الأمر.
5
هل تحب الموسيقى، وحفلات الأوبرا؟
في "زوربا" لم أفكر بك طوال الوقت؛ الحركات السريعة تخرجني من دائرتك، والبطل كان أجمل مِنْ أَنْ أفقدَ وجهَهُ من أجل لحظات تَعَبُّد.
في "هايدن" فكرت بك كثيرًا، كنت أكثر قربًا منك أثناء الفواصل بين انسياب المقاطع الموسيقية، تعرف هذا العدم الذي يغمرنا عند صمت الموسيقى، مناسب تمامًا لتذكرك بشكل رومانتيكي جدًّا.
1
في المساء
أصيرُ دخانًا.
أسافرُ في السماء
أهجر جسدي الضيّق
وأسكن هناك
في تلك المنطقة
التي يرانا فيها الربُّ.
الفرجة بين السموات السبع
التي ينظر إلينا منها
متخففًا من ربوبيته
من الثواب والعقاب.
في تلك اللحظة من الزمن
السابحة في الفناء.
أغمض عيني
مثل نجمٍ صغير
يلمع في سماء موحشة
اللمعة الأخيرة
في انتظار القدر
قبل أن يتلاشى
ويستسلم للانفجارَ الأخير.
6
كيف يمكن إزالة البلاستر الطبي بلا ألم؟
أعرف أنها ليست بداية مناسبة لرسالة صباحية. هل كل هذا الألم هو ردك على رسائلي السابقة؟
طيب..أنا لن أتوقف عن مراسلتك، لكن هذه مجرد ملاحظة أرسلها لك الآن حتى أُشْفَى تمامًا وأعود لأكتب لك من جديد.
2
أخيب توقعات كل من حولي، صديقاتي اللاتي أتجاهل رسائلَهن، أمي التي لا أعمل بنصائحها، زوجي الذي لا أحضر له طعام الإفطار، بناتي اللاتي لا أجيد نصحهن.
الملابس المبللة التي
أتركها تجف بداخل طبق الغسيل
سائق التاكسي
الذي يظنني سخية
سلحفاتي التي
ماتت من الوحدة
جيراني الذين
أتجاهل معايدتهم
بقايا الطعام
التي أقذفها ببساطة في القمامة
كتبي التي
تمزقها صغيرتي
ذكرياتي التي
تحاول الطفو فأغرقها
وجودي الذي يظن
أنه يشغل حيزًا كبيرًا
أبي الذي أنسى
موعدَ موتِه السنوي
كل القضايا
الكبرى التي نبذتها
والمبادئ التي
أسخر منها.
7
ابنة حارس العمارة تظنني متواضعة، أغلقتُ البابَ في وجهِهَا عندما تأخرتْ في الردِّ عليّ، وبدأتُ في كتابة رسالة إليك لأخبرك كم هو ممتعٌ فعلُ التجاهل. أفعلُ ذلك ببساطة من يُلقي حجرًا في الماء ليراقبَ الدوائر المتواترة. أنت صديقي الوحيد لكنك تتجاهل رسائلي. هل قذفتني في البحر فقط لتراقب الدوائر المتواترة؟
على كل حال أنا أتفهم الآن تجاهلَك لي.
8
صباح الخير
هل تذكر، عندما كنت أسرع للنوم عند تكاثف النقاط السوداء على شاشة التلفزيون؟ كنت أغلقه بسرعة قبل أن تشفطني الشاشة ويلتهمني العدم.
العدم في خيالي الطفولي كان متسعًا كالصحراء، ضيقًا بحجم التلفزيون الصغير. كنت أثق أنهم يعرضون آيات القرآن لطرد الأشباح ذات العين الواحدة قبل أن تتسرب وتلتهم الصغار المشاغبين.
طنط صفاء أخبرتني أن المسيخ الدجال بعين واحدة تشبه العنبة الحامضة، يبتلع كل من يتركون الصلاة. يسحبهم إلى بئر عميقة، وأنا أتخيله كل ليلة يخرج من الشاشة ليبتلعني، ثم يبتلع طنط صفاء.
9
أنا مجبرة على البقاء هنا، الحياة ضيقة، كلما ارتديتها تمزقت من حولي.
البحر متسع، لكني لا أرغب في المزيد. أسماكك تعضّ أصابعي كلما مددت قدمي بداخله.
النتائج لا تتغير، والرموز ثابتة في الجدول الدوري.
هل تستطيع قراءة مابين السطور؟
كتالوج الخلق معقد جدًّا.
هل هو ثابت أم يتغير في كل مرة؟
من أين تبدأ؟
نحن كاريكازات* مرصوصة أمامك، أم مجرد فكرة في عقل القدر، أم لعبة لتمضية الوقت حتى ينتهي العالم؟
التساؤلات لا تدين.. أليس كذلك؟
*كاريكاز: (caracasse) كلمة فرنسية تعني الدعامة الأساسية التي يتم البناء عليها، وتستخدم للتعبير عن الهيكل الذي يكسى بالطين في المنحوتات.
3
في الأحلام كلُّ شيءٍ ممكن
أقضم أظافري فلا تتهتك
ولا يتقشر طلاؤها.
أقذف ذكرياتي المؤلمة في البحر
فتغدو أسرابًا من الأسماك الملونة.
أسير على الشاطئ
دون أن تثقلني رمالُه.
أبتلع النخلة الكبيرة
فتصبح جبيرة ضخمة
لروحي المنهكة.
تعبر سفينة القرصان
فيقذف لي قبلةً
وأغنيةً
وقطعةً من الحرير.
ألوِّحُ للنوارس فتبتسم.
على أطراف الكون
أبتلعُ النخيلَ كلما تألمت.
أستطيل يوميًّا بمقدار نخلة
ينبت التمر من رأسي فألتهمه
كلما شعرت بالجوع
لينبت من جديد.
العرافة لا تعرف تفسير الحلم
فنجانُ القهوة السوداء لا نقوش به
خطوطُ كفّي تلاشت
سمائي بيضاء تمامًا
ذاكرتي حجرة فارغة
يتردد بها صدى الذكريات.
أنا كاريكاز منسي
مخطوط لم يكتمل
بقعة لون جافة
بين أطلال مَرْسَمٍ مهجور
في مدينة قديمة
ابتلعها البحرُ الكبير.
10
في ليلة العيد كان النوم يثقل رأسي فينزلق للخلف وتتمدد رقبتي كحبل يتدلى من نافذة أم محمود جارتنا التي لا تتوقف عن الطلبات؛ جاءت لتطلب فراء الخروف ورأسه؛ تريد الفراء لتلصقه فوق رأس زوجها الأصلع؛ لأن أسراب القمل لم تجد ما تختبئ بداخله، أما الرأس ستركبه لابنها محمود الذي فقد رأسه في مشاجرة سابقة، ولم يعد يملك فمًا يدخن به الحشيش ولا أذنًا يتنصت بها على وقع أقدام المخبر الذي يراقبه.
الخروف همس في أذني أن نعجته كانت تضع له حبوب الأستروجين في الطعام فأصبح بلا قرون وتوقف عن متابعة مباريات كرة القدم والتحرش بالنعجات الأخريات، لذلك هو لا يحتاج للاغتسال قبل الذبح يكفيه شرب القليل من الماء وبعدها يصبح جاهزًا لمشاهدة الفيلم بالكامل دون تذمر من الساحات المزدحمة أو الجدران الملطخة بالدماء.
11
لماذا تُقْحِمُ بول إيلوار في أحلامي وأنا أفكر في ميلان كونديرا؟ طنط فريال جارتنا القديمة كانت تقيده في كرسي المطبخ الخشبي وتجبره على قراءة القصائد لها وهي تطهو اللحم في الإناء الكبير. أنا أحاول اصطياد الصخب لأستمع لصوت إيلوار وهو يردد:
لأجل كل النساء اللواتي لم أعرفهن أحبك
لأجل كل الأزمنة التي لم أعش أحبك
لأجل ريح الفضاء الواسع
وريح الخبز الساخن
لأجل الثلج الذي يذوب
لأجل الزهور الأولى
لأجل الحيوانات الطاهرة التي لا يرغب فيها الإنسان أحبك
لأجل الحب أحبك
لأجل كل النساء اللواتي لم أحبهن قط
أحبك.
طنط فريال لا تعجبها القصيدة، مع كل سطر لا يعجبها يسقط إصبع من أصابع بول ليستقر في إناء الطهي وتفشل كل محاولات أصابعه للتمرد والخروج من جديد.
مازالت تمارس عادتها السرية على صدى صوته وعلى رائحة الشامبو الفرنسي المنبعثة من شعره، لكنها لا تتوفف عن جعل أصابعه تتساقط في الإناء.
كونديرا يتابع الحلم من على حافة نومي رافضًا أن يكون شريكًا في حفلة جنس جماعي، مفضلًا على ذلك متابعة فيلم (saw) مع بعض كوؤس النبيذ.
كنت
أعلم أنه لن يحب الصخب.أيها الصخب هل لك ضحايا غيري تلتهم أحلامهم وتبدلها كما
تشاء؟
الصداعُ
يرسم خريطةً معقدةً على جبهتي ونصفِ وجهي الأيسر، الصخب يغرس رؤوسه الحمراء لتضيء
الأماكن الملغومة في الخريطة قبل أن تنفجر.
كونديرا مازال هناك على الحافة يتابع حركة بول العصبية وهو مقيد بالكرسي الخشبي ويراقب وجه "طنط فريال" المنتشي بعينين تخترقان جلدها الأسمر اللامع، ويقذف لي قبلة من على الحافة كلما انفجرت نقطة حمراء في وجهي.
بهدوء يسحبني معه داخل المشهد الدموي لنبحث معًا بين أشلاء الضحايا عن بعض الأصابع المناسبة لبول الذي مازال يردد:
لأجل كل النساء اللواتي لم أعرفهن أحبك
لأجل كل الأزمنة التي لم أعش أحبك.
12
الألم ينتظرني على أطراف الذاكرة، فوق خط العانة مباشرة. عقار الديكساميتزون يكمل رئة صغيرتي التي تسبح في رحمي، كيف ستنبت لها رئة صغيرة قبل موعد التفتح، هلا أخبرتني كيف ستعمل الرئة الصغيرة وتتنفس في حال انفجرت أنا كقنبلة ملقاة أسفل كرسي في الباص؟
أحاول إقناع نفسي بالتوقف عن كتابة الشعر الذي لم يعد يتدفق داخلي، يبدو أن الصغيرة بداخل رحمي تمنعه من التدحرج في مساراته، أوربما أدركت بحدسها الصغير جدًّا أن مراسلتك ليست ذات جدوى، فأحبت أن تخبرني بذلك، لكني لم أفهم رسالتها أو تجاهلتها مثلما تتجاهل أنت رسائلي.
13
هل ترى تلك الدائرة التي رسمتها على الورقة؟ هي فقط انعكاس لدائرة حقيقية موجودة في الحياة. أنا أيضًا انعكاس لأخرى حقيقية تشتبك مع الحياة، تنهض بخفة من النوم لتركل العالم بقوة وتتركني ممددة أعاني من حلق ملتهب وأذنين متألمتين من رنين الهاتف.
الهاتف لا يعرفني جيدًا بعد ليحظر مكالمات الأقارب وصلة الرحم. فتحت رحمي أربع مرات، ولا أفهم معنى صلة رحم.
في المرة الأخيرة التي انفتح فيها رحمي، أطلقت بذاءاتي في وجه العالم تحت تأثير المخدر. وألقمت طفلتي حلمتي وأنا أتأمل معجزتك الصغيرة، تلتهم مني حياتي.
14
المشرط البارد يقص طبقات من جلدي، والطبيب الذي يشبه مشرطه يخبرني أن الألم محتمل، كرائحة العفن والرطوبة، ورائحة الكحول والبيتادين.
لماذا لا ينغلق شعوري بالألم كانغلاق أبواب الحياة أمامي؟
أرجوك.. إذا لم ترغب في إرسال رحمتك إليّ، آمُل فقط أن يتركوني أصرخ كما أشاء.
4
في المرآةِ
أنظرُ إلى الجسدِ المتضائل
الوجه الشاحب
الأصابع الرفيعة
الهالات السوداء.
أبتلع المُهَدِّئات
المُسَكِّنات
مضادَّات الاكتئاب.
الآن فقط ياسيلفيا أدركتُ مدى ثقل الحياة
عرفت أن ثرثرتك في الكتابة كانت ضرورية
حتى يتوقف الناقوس عن الدقّ*
عرفت أن الجمال لايصنع المعجزات
وأن الحب كلب من الجحيم**
والحياة لاتوجد إلا في المتاهات
في الشوارع الخلفية
في فاترينات المتاجر الرخيصة
رائحة البخور
أمنيات الوصال والمدد
النساء المتغنِّجَات بالسِّحْر
الأكفّ المخضّبَة بالحناء
موسيقى الزار التي تتسارع
العدم الذي يلتهمنا في نهاية الأمر
الرحلة طويلة ياسيلفيا
أعرف تلك اللحظة التي ندرك فيها الحقيقة
أن الحياة ليست لعبةً
وكل الأشياء من حولنا حقيقية أكثر مما نحتمل
وأن صورتنا في المرآة في نهاية الأمر
ليست سوى انعكاسٍ ساذجٍ لما نفعله في الحياة.
*عنوان رواية لسيلفيا بلاث.
**عنوان ديوان شعري لتشارلز بوكوفسكي.
15
أوقن أن العالم سينتهي قريبًا، الذبابة لا تكف عن الدوران المحموم، الكلاب لاتتوقف عن النباح، مسيحك الدجال سَيَلِدُ عفاريتَ صغيرةً تخرج من بيضات سوداء تتعلق بأقدامنا لتمنعنا من مواصلة الجري.
السرير الصغير لم يعد مساحتي الآمنة.
أنظر للنجم الأخير وهو يهوي وأغني مع بناتي:
Twinkle twinkle little star
How I wonder what u are?
هل تراها نهاية شاعرية لعالمك أم أنك ستلهمني نهايات أخرى لأختار من بينها؟
16
كنت أعرف أن القمر لن ينطفئ نوره لمجرد رغبتي في تسلق الهرم الأكبر، أرغب في الصعود في صمت وظلام كامل. أتحسس الطريق لأصل إلى أعلى الهرم وقتها سأضع كفوفي المجروحة وأخفي القمر.
ليس هناك أي ضغائن بيني وبينه، لكن نوره لا يصلني، لذلك أنا لا أعرف سوى أنه نور دائري مبهم في السماء، أسمع عنه من حكايات الأصدقاء وأرى طيفه في صورهم الفوتوغرافية، المباني العالية تحجبه عني فلم نصبح أصدقاء.
جارتي ذات اللسان البذيء التي تَخْرُجُ مساءً منتفخةً كبراشوت وتعود مع ضوء الصباح الأول رفيعةً كعود ثقاب تشاهد القمر كل ليلة. تدير مقهى صغيرًا وتترك جسدها المنتفخ هناك كبراشوت للإيجار يركبه الزبائن للوصول إلى القمر أو الدوران حوله، ثم يرسله لها صبي المقهى، في رسالة نصية على هاتفها المحمول لتعيد ارتداءه من جديد وتذهب للنوم مع القمر.
17
لماذا ترسلُ لي نهاياتِ أعوامٍ سيئةً، منذ سنوات كثيرة وأنت تعاقبني على وجودي، أحاول، أحاول حتى مللت التجربة. ألعنُ العالمَ كلما نهضتُ في الصباح، تمامًا كما أقول صباح الخير، أفكر لدقائق في معنى الوجود، أتحسَّسُ وجهي، أقرصُ أُذُنِي.
أنا هنا، ليس هناك أسوأ من دائرة العقاب التي تنغلق حولي في نهاية كل عام، لتؤكد لي "أنتِ هنا، أنتِ هنا".
18
حتى ملء حقيبة الذكريات باتَ مكلِّفًا، لم يعد الأمرُ سهلًا كما كان من قبل. الحياةُ مزدحمةٌ، وأنا مللتُ من كثرة الطوابير والموازين التي تلاحقنا، حتى بعد انتهاء الحياة.
في نهاية كل عام أقول "عام جديد مضى" هكذا بشكل حيادي تمامًا، مع قليل من التجهم، كما أتحدث مع مُحصل فواتير الكهرباء الذي أيقظني من النوم.
أحاول أن أتفهم دوافعك لإرسالي إلى هنا. طوال سنوات أقلب قلبي في الطاسات حتى يحترق، ليصبح قلبًا أسود قويًّا أواجه به الحياة، لكنه يزداد هشاشةً كل يوم ولا يتوقف عن محاولات تسلق الطاسات الملتهبة، آملًا في النجاة.
لماذا لم تجبر قلبي على الاحتراق؟
5
أنا من بقايا تلك السلالة الملعونة
عاشقات الخسارة
المنغمسات في الندم
حفيدات الخراب والألم
وريثات شيمبوريسكا و وولف وزرقاء اليمامة
المرتحلات بين قطبي الانفلات والتصوّف
المباغتات بالرفض والألم والجنون
كارهات المكالمات الهاتفية الطويلة
الباحثات عن العزلة
في صخب الاجتماعات العائلية
وعن الأسى
في كل لحظة فرحٍ عابرة
المرتعشات من ثقل الحياة
المراهنات على بقايا الأحلام العظيمة
والبطولات الكبرى.
أثداء كبيرة يمتصها العالم
لنتلاشى نحن
أمام الخراب الأكبر
وانفجارات النجوم
واصطدام المجرات
وثورات البراكين
واهتزازات الزلازل
وانصهار الجليد
والحروب الكونية الكبرى.
سنبقى هكذا
على الحافة
عابرات بلاأثر
نحترق في المنطقة الرمادية
الواقعة بين حياتين
نشيخُ ونشيخُ دون أن نصلَ للمدى
نوثّق خراب العالم
من نوافذ قلوبنا الكسيرة
نكتب الشعر
ونبكي.
19
يخبرني الطبيب أن النقطة البيضاء هي مركز الألم. النقطة البيضاء في قلب الدائرة تطاردني تشبه عينًا دائرية، عينًا تخترقني لتعرف أكثر. الألم يأتي كلما تذكرته.
لماذا لا تأتي أنت أيضًا واضحًا كالألم؟ ساعي بريدك أكثر وضوحًا منك، لا أظن أن لخطي السيئ علاقة بتعاملك مع رسائلي.
هل تشوش النقطةُ البيضاءُ الرؤيةَ، أم أنَّ حُبَيْبَاتِ العرق التي تحيط بي تحجبني قليلًا عن الإجابة؟
أمي تقول "افتكاره رحمة".
أرجو أن تعرفني معنى الرحمة من جديد.
20
تعرف، لم يعد هناك ما أقوله.
أنا أثرثر فقط لأنني لا أملك الوقت الكافي للصمت.
رسائلي إليك تتراكم، ماذا بعد كلمة seen؟
تعليقات
إرسال تعليق