أسطورة نائمة على شفاه البحر الميت / مختارات من شعر طارق هاشم

أسطورة نائمة على شفاه البحر الميت

مختارات من شعر طارق هاشم




 

هو فقط لا يحب البطالة

 

أنا رجل مريض

هكذا يبدأ ديستويفسكي روايته

مذكرات من العالم السفلي

أو عالم الموتى

الموتى الذين رحلوا 

دون أن يرسلوا أي دليل يرشدنا

أين هم الآن 

كثيرون ماتوا دون أن نعرف

أين هم الآن

فى عام 1881 مات ديستويفسكي

وراحت أنا جريجروفنا تذرع الأرض

بحثاً عن أثره

كانت شاخصة إلى السماء

أين زوجي يا الله

هل وجد وظيفة لديكم

حين خرج من المنزل تركني بدعوى

البحث عن عمل

إن زوجي يكره الموت

لا لأنه خائف منك

بل هو طيب ويحبك

هو فقط  لا يحب البطالة

حين ودعني فى اللحظة الأخيرة

كان  يقول والدموع تحتل عينيه

إن البطالة موت يا أنا ديستويفسكايا

الإسم  الذي كان  يحلو لي

أن يناديني  به

ذلك أن الموت مرهون بالبطالة 

بحق محبتك

أعده  إلي

إن أطفاله المساكين

لا ينامون بالليل

ويقطعون الطريق ذهاباً وإياباً

بحثا ً عن رائحته

لأجل ابنائنا لا لأجلي

استحلفك بمن تحب من ملائكتك الأطهار

أن تعيد  إلي زوجي 

لأننا ببساطة 

ليس لنا عائل سواه

فهو الذي يحرس أرواحنا

ويكافح دموعنا المساكين

بحق عدلك لا تدعه عاطلاً

فهو طيب ويحبك

لا تتركه مهملاً

حتى لا يكره اليوم الذي أتى به إلى العالم

دون موافقة خطية منه شخصياً

لا تدعه وحيداً

لا تدعه

فالبطالة لم تخلق لمثله

لم



عابدين 

 

فى نهاية شارع أحمد طلعت

ينام عابدين وحيداً مع حزنه

على سرير كان قد صنعه

من حجارة الشوارع

عابدين الذي خانته المحبة

كان أول زارعيها فى حي المنيره

لا أحد يزور عابدين الآن

سوى أشباح شارع خيرت

الأشباح التي هجرت  مقاعدها

لتجعل من حزنه ملعباً لسخافتها

حين تمشي صباحاً فى هذا الشارع

ستجد جثة عابدين ممددة على سريره

الجاف

كضحايا الحرب

منذ أكثر من عشرين عاماً

كنت قد التقيت عابدين

عابدين

كان سمساراً

يكره السماسرة وأغنياء الحرب

كم مرة

كان عابدين دليلاً لمن ضلوا

في هذه المدينة الغامضة

كم كان  طيباً ومحبوباً من أطفال الشارع

كانت المقاهي لا تنام

إلا إذا عاد عابدين إليها فى المساء

ألآن

عابدين ينام وحيداً

على سرير حجري

كل الطيور التي كان يطعمها

غابت وراء الشمس

كل القطط التي كانت تنتظره

في وسط الشارع

سكنت أحياء أخرى

منذ اندلعت الحرب

وعابدين لا يرى سوى  أشباح

الذين أودعوه هذه المحنه

بلا دليل واضح

أو إشارة لفجر

ربما أنقذ عابدين

من هذه الظلمة الموحشة


 

في حضن ابن رشد


 

الحكاية جد غريبة

لكني سأحكيها لكم

كما حكتها  لي ماريا

ومعذرة

إذا كانت ستؤلمكم لبعض الوقت

بالأمس

إقتحموا شقته الصغيرة

فى الطابق الرابع

وفي الزاوية القريبة من المكتبة

وجدوه أزرق اللون

يحتضن كومة من الورق الأصفر اليابس

العاشق الصغير الذي ترك بلاده 

لأجل مخطوطة التهافت

وجدوه مقتولاً في حضن ابن رشد 

قتله لص المخطوطات اللعين

كان قد ودع أهله وأصدقاءه

وترك لحبيبته بعضاً من المال 

وأنشودة كان قد أعدها

لأجل ذكرى ميلادها الثلاثين

صوتك ياماريا

أعذب الأصوات

صوتك ياماريا

يعدل روحي

ويسند خاطري

صوتك مرساتي

وأهلي وبيتي

أريدك يا ماريا

كرعشة لا يزول سحرها

كمخطوط قديم

كبحر عكا الذي لا ينام

كرقصة أقسمت ألا تنتهي

إلا على جثث الغزاة

أريدك ياماريا

كروح طليق

كأسطورة نائمة على شفاه البحر الميت

العاشق الذي أيقظت رائحته مدينتنا البعيدة

أعادوه فى نعش صغير

ربما كهدية

فى الذكرى  الثلاثين

لميلاد ماريا


 

الحياة مأساة كبيرة


 

تسألني رفيقتي

لماذا لا تكتب

إلا عن المآسي

فأقول لها

إن الحياة مآساة كبيرة

نسي واضعها

أن يكتب النهاية

أعد ملف الشخصيات

ودرسها جيدا ً

ثم أسند لكل ممثل دوره

من يومها والكاميرا تدور

دون توقف

إلى هذه اللحظة

يخرج البطل صباحاً

ولا يعود إلا حزينا ً

في كل يوم تنتظره النجمة

على حافة السماء

فيأتي مهرولاً

فقط

ليرمقها بعينيه الصافيتين

قبل يومين سألته النجمة

إلى متى ستبقى حزينا

فأجابها  في ذهول

إلى أن ينتهي الحزن

في المساء يأتي الناسك

ومعه كتابه  المقدس

وصورة لامرأة كان قد أخفاها بداخله

ربما أحبها في الماضي

وحرمت عليه حين دخل الدير 

إلا أنه يومياً ينظر إلى صورتها

وتكاد دمعة تفر من عينيه

لا يراها

ولا يشعر بها أحد سواه

هكذا دائما فى المدينة الساكنة

عادة ما ينام الطيبون على مرايا جراحهم

بينما تنامين ملء روايتي

الرواية التي لم أحكها لاحد قبلك

فقط حبستها بين خلاياي

ربما ترمم روحي

روحي الناجية من أسر نظرتك

اللانهائية

أريدك أن تعرفي

أن الحزن ليس في المأساة

بل  فيما يتحمله راويها 

فاعذريني

حين لا ألقي الصباح على أحد

أو  أعبر الشارع

دون أن التفت باسماً

للودعاء الطيبين في طريقهم

إلى المذبح

أو ألقى القمامة على رجل نائم

دون أن أدري

ثم أعود خجلاناً

فأعتذر له

ثم أترك له ورقة فئة الخمسة جنيهات

كنوع من الإحساس بالذنب

من يومها

وأنا لا اعرف إلا المأساة

كأني ابن شرعي لوليم شكسبير

أو شبحاً كان قد استأجره هوميروس

ونسيه في الإلياذة 

نعم

أنا سجين الإلياذة

أوجدني هوميروس

ولم يحدد لي دوراً

فأصبحت معلقاً كالخطيئة

فلا تغلقي المأساة حتى لا تخسريني

سأضيع مؤكداً في زحام الآلهة

أخرجيني

كي لا أموت وحيداً

في الصفحة الأخيرة


 

دنيا


 

لا مجال هنا للحديث عن دنيا

فحكايتها حملتها الشوارع

قبل أن تولد بخمس سنين

كان الراعي في مدينتنا

يحكي عنها في كل زقاق وعطفة

للصيادين وهم ذاهبون إلى البحر 

كل صباح

لعمال البناء وهم يحملون سقالاتهم

ويغنون

للبحارة الذين عادوا من البحر  ليلاً

كانوا يشاهدونه في ركن معتم وهو ينادي

هل شاهدتم دنيا

هل لمسها أحدكم

هل استمعتم إلى صوتها  الملائكي  

يقال أنه ذات مرة أوقف عصفوراً

وراح يحكي له وهو يبكي

ذات يوم سأنجب بنتاً

سيكون بمقدورها أن تروي عطش الصحراء

بمجرد نظرتها إليها

ستكون هي الضوء الذي تتسلل

على حباله الطيور إلى الجنة

ستكون بمثابة الحياة

التي طالما  انتظرتها دون جدوى

قبل خمس سنين

كان الراعي غريباً عن حارتنا

وكنا لا نعرف عنه سوى

انه رجل طيب

فقط طيب

إلى أن صار كحجر الأساس

في كل بيت

لا ننام إلا على صوت حكايته

أو قل شكواه

كان الراعي يقاوم وحدته

بالحديث  مع أي قادم

ذات مرة أوقفني

وقال لي

هل شاهدت دنيا

دنيا كانت هنا منذ قليل

كانت تساعدني فى إطعام خرافي الصغار

ساعتها  انطفأت  روحي

وغابت الأجوبة

كان كثيرون من حارتنا

يعرفون الراعي

ومنهم من قال

أنه شاهده منذ سنوات

فى احياء  أخرى يبكي

ومنهم من أقسم

أنه لم يتزوج أصلاً

لم يشاهد أمرأة قط طول حياته

لم يعرفها

لم يلمس يدها

لم يرقص مع طيفها حتى فى الخيال

لم يقبل فمه فم جنس آخر

حين ملت مدينتنا حكاية الراعي

تركوه دون أن يجيب أحد عليه

فلم يحتمل وحدته

في اليوم التالي غادر مدينتنا

ليبحث عن دنيا فى مدينة أخرى

ربما وجدها

أو غاب مع حكايتها

حتى أذابهما المطر

 

تعليقات