يد فاطمة
(مختارات من قصص شريف صالح)
الطاولة رقم 7 في جروبي
أول شخص وصل كان كهلاً. يعتني بأناقة شعره الفضي ويضع وردة في عروة الجاكت المقلم. جلس على الطاولة رقم 16 وراح يسلي نفسه بتصفح جريدة "الشروق" التي كان يحملها في يده.
أما الثاني فلا علاقة له بالرجل الأول. نصف أصلع يرتدي قميصاً قطنياً فضفاضاً مثل قمصان الهنود ونظارة طبية. اختار الطاولة رقم 23 المجاورة للنافذة المطلة على شارع طلعت حرب. بعد عشر دقائق وصل شاب لا علاقة له بالجريدة التي يتصفحها الأول. كان لا يتجاوز الخامسة والعشرين. وكان يطلي شعره بجيل لامع، ولا يتوقف عن الحركة بأطرافه وجذعه حتى أثناء جلوسه وحده على الطاولة رقم 45.
ثم جاء شخص سابع تأمل قليلاً الشخص الثاني نصف الأصلع. كان شاباً أسمر البشرة ويتحلى بوسامة ودقة في ملامحه. جلس صامتاً كأنه يراقب ما يدور في المقهى. بالكاد يظهر باهتاً على القطعة النحاسية المثلثة الرقم 19
تقريباً يوجد الآن عشرة رجال من أعمار مختلفة على طاولات مختلفة، وقد طلبوا عصائر طازجة وآيس كريم وكعكاً بالفواكه ومشروبات أخرى تناسب برودة تلك الليلة الشتوية. كانوا جميعاً قلقين لكن راح كل منهم يقاوم قلقه بطريقته الخاصة ما بين تصفح الجريدة ومطالعة أضواء الميدان وأرداف النساء العابرات خلف زجاج المحل وفرك القطعة النحاسية التي تحمل رقم الطاولة.
وجود هذا العدد من الرجال متفاوتي الأعمار، بدا ملغزاً في ذهن النادل، لكن لا أحد من الرجال العشرة كان مشغولاً بما يدور في ذهن النادل! التخمين الوحيد أنهم واعدوا عشر نساء هنا.
التاسعة مساء.
مقهى جروبي.
مع مرور الوقت دون أن يفوح في المكان أي عطر نسائي، تأكد النادل أن الأمر غامض وملغز إلى أن دخلت امرأة نحيلة ترتدي فستاناً أسود عاري الصدر، وتضغط حوافه برقة على ثدييها. مشت المرأة بين طاولات الرجال الوحيدين بكبرياء ولا مبالاة قاصدة طاولة بعينها كأنها تألفها من زمن. وضعت منفعلة حقيبة يدها على الطاولة رقم 7 في الركن البعيد ثم جلست وانهارت مباشرة في نوبة بكاء.
يد فاطمة
كان متكئاً على عكازه بشعور من تاه فجأة بين غرف البيت ولا يتذكر أية غرفة كان يقصد. الصالة شبه معتمة، وهو يحدق في أفق بعيد. اللمبة نمرة 2 معلقة في أقصى الجدار، تهزها ريح الشتاء.
نادى:" يا علي"، رد عليه من داخل الغرفة صوت لامرأة عجوز:
"علي في العراق من خمس سنين.. ربنا معه".
تحرك نحو اللمبة. حاول بيد واهنة ومرتعشة أن يرفع لسان الفتيل قليلاً، ثم تلفت حول نفسه كمن شعر بوجود أحد يمشي خلفه في الصالة الواسعة:
"أنت جيت يا مصطفى"
"مصطفى تعيش أنت يا حاج.. اقرا له الفاتحة"
لم يقل شيئاً للمرأة ولا هي قالت شيئاً آخر. الصمت وصوت الريح في الخارج لكن لا مطر يسقط. الكهرباء انقطعت عن البلدة منذ ثلاث ليال. وجد نفسه خلف باب الدار، يتحسس الشراعة المغلقة، ينسى أصابعه ـ قليلاً ـ على ملمسها الزجاجي الخشن. كأنه يوشك على الخروج ويتردد. ثمة يد تطرق بخفة من الخارج، يعرف صاحبة هذه اليد التي تنقر ثلاث نقرات مثل عصفورة عادت إلى عشها. نعم، هي يد فاطمة ابنته، تزوره ليلة العيد مع زوجها وعيالها.
"افتح يا ابا آني فاطمة"
أرهف أذنه خلف الباب كي يتأكد. لكنه لم يسمع شيئاً، حتى صوت المرأة الذي كان يأتيه من وراء ظهره انقطع هو الآخر، نامت فيما يبدو. كان ظله هشاً، ومحنياً على الجدار، يهتز مع رعشة الضوء كأن عاصفة اجتاحته. استدار على عكازه وبصعوبة سحب الفتيل إلى أسفل فانطفأ الضوء.
صوت الموت
هل ينادي ملاك الموت على الميت قبل أن يموت؟! كيف يبدو هذا الذي يُسمى "الموت"؟ ربما هو مثل تنين أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون، هذا مذكور في الكتاب المقدس. الماموث! إنه حتماً مثل هذا الكائن المتوحش المشعر يطبق بأرجله على صدورنا في سكراتنا الأخيرة. يبقى ضاغطاً حتى تقفز الروح من جسدها مثل بالونة وتختفي في السماء. ألا يقول ملاك الموت شيئاً للمُتوفَى قبل أن يستل روحه ويمضي؟! ربما يتنحنح كي تنتبه الجارات فيفسحن له الطريق.. يصفق بيديه حتى لا يشعر الأحفاد بالذعر. أو يصدر صراخاً وحشياً في البرية.. يقولون إن الكلاب هي أول من تراه على ناصية الطرقات، لهذا السبب يتحول نباحها فجأة إلى عويل كئيب.
الخالة تريزا التي تجلس على كرسي هزاز، بصحبة التلفزيون كل ليلة، قالت لجاراتها المسنات مثلها إنها تشم رائحته في الحديقة المهجورة منذ ساعة تقريباً. أمس سمعت صوته الوحشي في التلفزيون يقرأ نشرة أخبار المساء ثم توقف فجأة ونادى عليها. الجارات المسنات استغربن كلامها. للمرة الأولى تتكلم تريزا هكذا!
تطلعن إلى وجهها الهادئ ثم رأين بكرة الخيط تتدحرج من يدها.
موسيقى للأعرج
من مسافة بعيدة رأيته يقفز من فوق الرصيف في عز الظهر. تصورته سليماً مثل الآخرين وسيعبر بالسرعة المتوقعة. الأصحاء يدركون بسهولة أن السيارة مسرعة أكثر مما يجب، فيهرولون بحلاوة الروح قفزاً مهما بدا شكلهم مضحكاً. أما هو فكان يكابد كي يفر من وجه سيارتي المقبلة. كتفه منخفضة مع التواء في ذراعه كأن الجانب الأيسر كله معاق، فكان يرتفع وينخفض بصورة لولبية غريبة.
كان راديو السيارة مرتفعاً على أغنية "اللي بتقصر تنورة".. انتبهت إلى أن حركة الأعرج انسجمت جداً مع الإيقاعات الفلكلورية. كأنه يرقص على أنغامها أثناء عبور الشارع. غيرت المحطة سريعاً على راديو "سوا"، كانت بريتني تغني Cold As Fire فوجدت الأعرج غير حركته قليلاً لتتناسب مع طبقة صوت بريتني وخفة الموسيقى.
كان اكتشافاً بالنسبة لي أن حركات الأعرج لطيفة.. وموسيقية.. رغم أنني على مسافة منه وأحكم نوافذ السيارة لأستمتع بنسمات المكيف لكن صوت الموسيقى كان يتسلل بطريقة ما إلى جسد الأعرج أثناء عبور الطريق.
الزخنوق
اشتعلت النار في الحطب فوق سطح بيت خالتي أم خليل.
في "الزخنوق" الفاصل بين دار أم خليل ودار أبو عيطة كان "ع" الأبله و"أ" البارد معاً. "ع" انحنى بظهره إلى الأمام و"أ" يحاول بصعوبة لكنه يفشل في الإيلاج.. فاقترح على "ع" أن ينام على بطنه أسهل.
كانا يرتديان ملابسهما العلوية فقط."ع" خلع سرواله الكستور ووضعه إلى جانبه لكن "أ" الأكبر سناً والأكثر خبرة اكتفى بإنزال بنطلون الترنج أسفل قدميه.
العم فرج رأى من مسافة أربعة أو خمسة بيوت دخانا خفيفاً يتطاير في صهد الظهيرة قبل أن يتبين لسان النار فصرخ:"حريقة يا جدعان". هبط من فوق السطح بالصديري والسروال القطني وهو يصرخ "حريقة يا جدعان في بيت أم خليل".
كان هذا كافياً كي يتجمع ما لا يقل عن أربعين أو خمسين رجلاً وشاباً، لتطويق الحريق. في تلك اللحظة نجح "أ" في نصف إيلاج تقريباً لكنه اضطر للانتهاء سريعاً مفزوعاً من صراخ وصياح الرجال والنساء على بعد خطوات منه، وفوق رأسه مباشرة.
ارتدى "أ"بنطلون الترنج في برود وبدلاً من أن يساعد "ع" أمره قائلاً: "غطي نفسك واخرج بعدي بخمس دقايق".
ما جعله مطمئناً بعض الشيء، هذا الانبعاج الداخلي للزخنوق ـ تحت منور دار أبو نبيل ـ الذي يجعل رؤيتهما من الشارع صعبة، وحتى من فوق السطح هناك عشرات الحزم من القش والحطب تحول دون رؤية ما يحدث في الزخنوق.
"أ" خرج كأن شيئاً لم يكن وتاه بسهولة وسط الشباب الذي يرفعون دلاء المياه في سلسلة بشرية تنتهي عند النهر القريب. أما "ع" فكان سيء الحظ لأن بعض المخلفات سقطت عليه وغطت سرواله وإلى أن عثر عليه سقط عليه الكثير من رذاذ المياه وعيدان الحطب المشتعلة، بل سقطت حزمة كبيرة مشتعلة دفعته للصراخ والاستغاثة.
في اللحظة التي تمت فيها السيطرة على الحريق عثر الرجال على "ع" مصاباً بحروق طفيفة. رغم ذلك تعرض لكدمات أخرى على أيديهم لأن التفسير الوحيد لاشتعال الحريق أن هذا الأبله دخل إلى الزخنوق وأشعل عود كبريت.
القارئ والكاتب في المدينة البحرية
وصل القارئ والكاتب إلى المدينة البحرية الخالية من السكان. القارئ كان يحمل حقيبة فارغة إلا من مرآة صغيرة.
أما حقيبة الكاتب فكانت ممتلئة بالروايات والدواوين ولفافات الحشيش وأفلام إباحية وأسطوانات موسيقى ونسخة من الكتاب المقدس أهدتها له عشيقته الثالثة.
كانت هناك سيارة صغيرة مكشوفة وبلا نوافذ. وضع الكاتب حقيبته في الصندوق الخلفي وفعل القارئ الشيء نفسه.
بالمصادفة كانت الحقيبتان متطابقتين باستثناء أن إحداهما خفيفة والأخرى ثقيلة جداً.
انطلق الكاتب بالسيارة وسار في الشوارع الخالية من البشر.
تأمل المباني والأشجار المزهرة. مر على الشاطئ ثم تمهل قليلاً أمام البحر وتناجى مع الموج. لم يحتج الأمر منه إلى ذكاء شديد ليكتشف طريقة تصميم وترقيم الشوارع وكيف يصل إلى بداية ونهاية المدينة في أسرع وقت.
كان يعي أهمية الوقت وأن يعطي فرصة للقارئ كي يقوم هو الآخر بجولته المقررة قبل غروب الشمس.
يقضي الاتفاق أن يقوم كل منهما بجولة في المدينة ثم يعودان عند نقطة التقاء متفق عليها، كي يتحدثا عما لفت نظرهما من معالم المدينة البحرية.
أثناء انتظار الكاتب في النقطة المتفق عليها اكتشف أنه يحمل الحقيبة الفارغة إلا من مرآة صغيرة..
أما القارئ فركب السيارة الصغيرة التي بلا نوافذ وانطلق في شوارع المدينة البحرية، وإلى اليوم لم يُعد.
تعليقات
إرسال تعليق