كما في حلم / مختارات من ديوان " فراشة من هيدروجين " / مبارك وساط

 

 كما في حلم 

مختارات من ديوان " فراشة من هيدروجين "

مبارك وساط


تـرْسـو المُـرَبّـعات

 

رغْمَ أني مُخْترع

بارومتر الآلام

فقد سئمتُ المكوث في هذه الجزيرة

كلّما انزاحتْ نحو السّاحل

أقول: إنّه النّسيم الهائم

كلّما بدأنا نتأمّل الشّفق، كلٌّ

في قَعر كأسه

إلا وترسو قُرب رؤوسنا المُرَبّعات

التي تأسر بين أضلاعها العَصافير

ويوم أُعيدت إلينا أنْفاسُ الغابة

بدأتْ أرقامنا

تـتـبَـعُـنا!

ثمّ سقط وجهي الحجري

على وجهي

وها إنّي أزْمعْتُ الرحيل

بعيداً، بعيداً

حتّى مدينة المعارك

التي تنزلق على جُدرانها

الكدمات

حتّى ضِفّة النّهر الذي يُدَندن

كُلّما ابتسمَ فيه غريق

 

 

حـيـرة

 

لمْ أنصبْ فخّاً لطائر

نِمتُ قليلاً جنْبَ شَجرة

وانْغرسَ حُلمُ الطّائر

حتّى أسافلِ جذورِها

أحْلامي أنا مُشَـتـتـة

في الآبار

وثمّة عينٌ تجوس

دائرةَ الصّفر نفسه

الذي رَسَمَتْهُ أنْفاسي

أمضي في سبيلي الوَعْر

وإذا ما تعثّرْتُ وسَـقَـطْت

يَبْعـثُني الضّحكُ واقفاً حتّى الغيمة

التي كانتْ أمّي قد سلّمَتْها

إلى سماء الأيتام

أمْضي في طريقي الوَعْر

لا أقلقُ إنْ كانتْ قدماي المارقتان

تنبُشان المثلَّثات تنفُشان ريشَها

ولا آبهُ حتّى بصورتي التي

بدأتْ تُـثـقـِّـبُ المرآة

فما الذي يُمْكن أنْ أفعله

بكلّ تلك الحبال التي ستتدلّى

من هاتيك الثـقوب

-أنا الذي رأيْتُ يوماً

جدولاً

يتسلّل

من فتق في ستارة-

وقلت: جاء لِيتحصّن

وماذا يُمْكن أن يرى طائر

في حُلم

ما الذي تستطيعُه الشّجرة

بعد أنْ تمّ تأجيلُ المطر

وأين طريقي، الآن

وقد بدأ الضّوء يتخفّى

في الذّهب؟

 

البِـئـر

(كما في حُلم!)

 

 كان بُخارٌ ونصالُ النّغم تتصاعد من البئر التي يُنْكران وُجودَها في غُرفة الفُنْدُقِ هاته وأنا أؤكِّـدُه... عـبـثـاً يَسْعَـيـان- جاري وِلْيام الأرمنــي والخادمة- إلى إقـنـاعي!

 الخادمة بِكاميراها التي لم تعدْ تلتقطُ صُوَراً إلا لطائر يَقضي الليل في شَعْرِها تُقدّمُ لي كأساً، أما وِليام فيتمشّى في الرّدْهة... رغْمَ شَعْرِهِ الكثيف فإنّه يَمْشـي كأصْلع، وهذا من غريب التّصَنّع! كما أنّه سَيَمْضي إلى الدّغل ويجمعُ أرمينيات من الأعشاش ليعيش فيها حين لا نكون نراه...

 تُحَدثني الخادمة عنْ رَجُلٍ اخْتزَلَ بَيْتهُ إلى مُكَعَّب صَغير، فيما تَصْنـعُ شُموعاً من دموع، ومن النّافذة، يَدْخُل الضّوء مكسوراً ومُرَمّماً.

 ثمّ ها وليام، تتوالى على وَجْهه طَرَقاتُ المِلح، وهو يتكلّم!

  عبثاً يُحاولان زَعْزَعَة يقيني! ...

  يُحاولان تشكيكي، لكنّني أبْـقـى

 واثِقاً كخُطْوَة تحت المطر...

 فليـُقْـضَ عليّ بالبقاء

 في غُرْبَتي هاته

 مع رائحة النّمل التي تَطنّ

  حول المصباح

  ولأبْقَ أسيرَ هاء الهواء

  إنْ كانتْ لا توجَدُ بئر

  في هذه الغُرْفة

 

رســالـة إلى نفسي

 

أنا على ضفّة نهر.

السّماء مُلبّدة

بِزعيق صفّارات الإنذار

في أحد الكواكب.

أسْمع أيضاً قرعاً في عظامي

فكأنّها طبول دقيقة.

في وسط النّهر، تَظهر السّمكة

آكلةُ الغرقى.

على الضّفة المُقابلة، امرأةٌ تتعرّى.

وها هي تَسبح على ظهرها، تتلذّذ

مِن رُكبتيها.

تُقْبل نحوي ثم تعكس وجهتها.

إنها متردِّدة، إنها متردِّدة.

مياهُ النّهر غاضبةٌ من هذا.

غضبُها يَصَّاعَدُ شَفراتٍ

تُصيب الكثير من صغار الطير.

هل أبْقى على هاته الضِفّة

التّعيسة؟

يَمرق أمام عينيّ طائر

إنّه يشحب ويشحب

ربّما هو خائفٌ من الشَّفرات

ربما هو يتذكّر الشجرة

التي احتضنتْ

حُبّه الأوّل.

أأبقى هنا

مُنصتاً للقَرْع المتصاعد

مِنْ عظامي؟

 

ما إنْ تقف أمام كـهـف

 

 أنْفاسُكَ ضالعة في المؤامرة التي حيكتْ ضدّ أجِنةٍ غُرسوا في الثلــج. والبجعُ الذي ينبثق من كتفيك يُثيرُ قلاقل في جنبات المدينة. تُرافِقكَ صبيّة تزعمُ أنّها ابنتُك، لكنّها مُجرّد فراشة متنكرة.

 مع ذلك، فأنت تُحَدّقُ طويلاً في أعناق المارّة في سِيقان الخزامى. لذا، فأعداؤك كُثـر. وما إنْ تقف أمام كهف يَهُبُّ منهُ جنونُ نملة حتّى يُجرّدوك من أحلامك، ثمّ يُعيدوك، على مراحل، إلى ما قبل الولادة. بعدها يقولون: يُقيمُ في كسوف دائم، مع الفجرِ يَسْرقُ أصْوات المتثائبين.

 

حـكـايـة

 

رَجلٌ مفتول العضلات

يستطيعُ أنْ يُلاكِمَ الزَّبَد

مع هذا، جِدّ رقيق

رأى يَدَي الفجر تُقطعان

فأجهشَ بالبكاء

ومن دُموعه

تكوّنتِ اليدان مُجدّدا

أكثرَ من عشرين مرّة، نزل الدَّرَج

نحو غُرْفة الأحد

في كل مرَّة، يطرق الباب مُطَوّلاً

ولا من مُجيب

بَدأ شكُّه يَهصره

وأخيراً، أدرك أنّ الأحد قد اختفى

أنّ الأيام المُتبقِّية

في حِداد

وأنّه يطرقُ بابَ غُرفةٍ فارغة

إلا من رائحة الدّم

وبقايا كوابيس

 

وقفتُ إلى جانب البئر

 

 أنتِ لستِ الآن في الغرفة- لأنك تبحثين في الحديقة، عنِّي أو عن السّحليّـة التي غارتْ في رائحة العسل- فيما، من النافذة، تدلف الآهة، قادمة من فم بعيــد، فتُحدّب ظهور المناضد وتُحيل أغنيتي إلى غبار.

 أنا الآن على الشاطئ: أمامي السَّحرة، صهْدُ عيونهم حوّلَ بيوتاً عديدة إلــى دخان. العالـم رهيب، يُكرّرون، فتنشبُ حروب ويتساقط نخــاع شوكي كثير في صحون الباذنجان المقليّ وتشتدّ آلامُ كلَّ هائم... 

 سألتِـني مرّة هل تُزعجني قرقعةُ عظامك أثناء النوم. حدث ذلك ليلةَ شابَ القمر. وكان الألمُ يتساقط مُوهِماً أنه مَطر. ومضينا معاً إلى الحديقة، فوقفنا إلى جانب البئر التي تَحلم ببلد بعيد.

وها أنا، من جديد، أُمرّر يدي على سنام منضدة، وأُدرك أني لن أذهبَ غداً لِرؤية عظام جدّي، وأنك ستصفينني بالكسول، العبثيّ، بالتائه الأبديّ.

 أحيانــاً، تكون ماضياً فـي طريقك، فإذا بنحلة تعترضُ سبيلـك، تتمدّد أمامك في عرض الشارع، فتبقـى واقفاً فوق ضحكتك، ويحيّيك صديق يُوناني يَبذر قمح الإلياذة في أثلام كفـــه اليسرى، فتقف مشدوهاً، إنْ لمْ تلذْ بالفِرار. 

 

 

التقيتُ بالحصان

 

 أمضي شاحباً، لا أتوقف إلا جنب الفتاة التي تمدّ يدها فوق بحيرةٍ تقولُ إنّ ماءها سينضب إن استمرّتِ السمكة الحمراء في عضّ الطحالبِ ذات الأحذية الحديد.  

 تقول: إنكَ شاحِبٌ لأني امتصصت لسانك وأنت نائم.  

 وأنا لم أركب اليوم حصاني لأنه كان قد نسي حدوة يومَ بلغ أشدّه قرب جدولٍ، وأصبح يهاب الضِّفاف!  

 التقيتُ بالحصان في آخر تانغو بباريس، وبالفتاة حين كنّا نلبس جواربنا أمام إحدى الكاتدرائيات، وسرعان ما وجدنا نفسينا نَصْـفِـرُ في طنجة. روتْ لي كيف كانت ترسم دوائر خضراء لِـيُـرَبِّيَ فيها الشِّتاء أغنامــه. وقالت إنَّها بدورها ربّت فراشة من هيدروجين في شَعْرها. 

أخبرتُها بأني، في الطفولة، كنت قد ركلتُ تمثالا، فاخترقتْ شُعلةُ قنديلٍ حشداً من الكلاب نحوي. وكنتُ، كلما تشكّلتْ قارورة من ظلّ يمامة، أسارع إلى مَلْئِها بماء بارد!

 قالت: أنتَ نهري الشّاحب، أنت نَهري. 


 

 

والتفاحة في يدي...

 

 كيف يُمكنني أن أشعل السيجارة،

 وكلّ القدّاحات تَخَفّـتْ في رُدنيك، مُـذ رأيتِ في الحلم أنك تُحرقين خدِّي.

 بالأمس، كنّا في الطريق إلى عيادة الطبيب، ومرّ أمامنا صديقي المجنون، وكان يكرّر: النّحلة تحت السّاطور، النّحلة تحت السّاطور، وشعرتُ أنّي سأبكي أو أضحك، لكنه اختفــى سريعاً، وكان دمٌ ينسابُ من الحُقن التــي تَخبّ جنب أقدامنا، والطّقس بداخل آذان الكلاب يتحوَّل من فاتر إلى شديــد البرودة، وفي الأعلى، عين الرعد تتّسع وتتّسِع.

 لماذا تريدين إحراق خدِّي؟

 مسحتُ أعصابي بإسفنجة كما يفعلون أحياناً بأعصاب السيارات ثم وجدنا نفسينا على الشاطئ، وأردْنا أن نتأمل البحر. لكنْ لم يكن قد بقي منه إلا سبعُ موجات عجاف، يَحملن في مقاعدهن الخلفية سبع نساء ضاحكات. إلى أين يتّجهن بهن؟ في كفّ كل امرأة شمعدان. وفي الجُحور القريبة، سَقط مطر على الفـئـران. وكان هنالك من يَطوي البُـسُـط ويَفْرشُ الصرخات.

 والتفاحة في يدي تكاد تختنق. ويدكِ تعبــثُ بشعري.

 الطبيب قال لا تركبا، بعدُ، سيارة جريحة.

 

 

إنْ كُـنْـتُ مـنْـذُ الصّـبـاح...

 

  لسْتُ من يُجامل. أتركُ قلقاً ينْسابُ في بُلعومٍ أو في أنابيب القصب، حسَب الطقس وكيفَ هو مزاجُ زهرة الآس على كتف النّديمة لينا. وإنْ كنتُ منذ الصّباح في هذه الحانة، جنب هذه النّافذة، بعظامي التي تتحمّسُ أيّامَ المآسي، فذلك للتعبير عن تضامني. 

 مع مَن؟ يُسائلني بعينه المخمورة البدينُ الجالسُ قبالتي، وكنتُ حسبته يعلم... 

 مع من! مع أولئك الأقزام الذين جعلتْ منهم الغابة القريبة أشْجارَها القَصيرة!

 الأَوْلى الآن الإنْصاتُ لِصَفير أظافري المأخوذة بِحُلمِها المُتَكرّر، حيْثُ أظْهرُ، بدايةً، في شاطئ. بعدها، تقتربُ منّي امرأة في لباس ممرّضة- يتّضحُ أنّها ليستْ سوى لينا- حاملةً في يدها حقنةً تقولُ إنّها مملوءة بفودكا روسيّة خالصة! ثمّ تُوجّهُ إبرتها نحو ذراعي!

 فجأةً، أتنبّه لِما حَولي.

 وأُشيحُ بوجهي نحو النّافذة، فما الذي أراه في الأعالي؟

 طيورٌ غريبة تحلّق فوق الغابة القريبة، التي جعلت من أولئك الأقزام المساكين أشجارها القصيرة!

 

تعليقات