القائمة الرئيسية

الصفحات

السيدة ذات القلب الأعظم/ عبد العظيم فنجان

 

السيدةُ ذاتُ القلب الأعظم

عبد العظيم فنجان

 

السيدة ذات القلب الأعظم - عبد العظيم فنجان - بيت النص

 

أشتاقكِ حتى وأنا أشتاقكِ ، وبعد أن أشتاقكِ يحصل أن يحاصرني الشوقُ ثانية ، كأنني لم أفِ اشتياقكِ حقَّ أن يكون شوقا يعكسُ نورَ صعقتي بجمال اشتياقكِ ، فأنتِ فكرةٌ في مخيال الشِعر ، يكتبها الشعراءُ جيلا بعد جيل ، وحين تتحقـّقُ الكتابةُ تنفتحُ الفكرة ُعلى فكرةٍ أخرى تنسفُ الكتابة ، فلا يكتبكِ أحدٌ إلا بالمحو ، ولا يمحوكِ إلا من رآكِ ، وكلُّ مَن رآكِ رأى ذاته ، فخرّ صعقا ثم صاح من الوجد :

أبحث ُ لكِ عن وجه ..

 

أبحث ُ لكِ عن وجه .. أنتِ الموصوفة ُ بالعطر ، وروحُكِ لا تشرقُ إلا على الغصن ، مثل وردة .

 

لن أقطفكِ كما يفعلُ العشاقُ ، إذ لستُ أحداً من هؤلاء ، لستُ من أولئك : إنني عاشقٌ يجدلُ سلةَ أحلامه من دخان النوم على المصاطب ، من النجوم التي تومضُ في سماء اسمكِ ، من الرحيق الذي يعط ُّ من مسامكِ ، فيكوّن سحاباً أزرقَ إليه يصعد المطرُ ، ومنه يسقط الكلمُ الطيبُ ، والرمانُ ، والتينُ ، والزيتونُ ، وطورُ سينين ..

 

أقيمُ بينكِ وبينكِ ، فلا بيتَ إلا الشِّعرُ ، ولا سقفَ إلا القصيدةُ .

 

لا أذكرُ أين رأيتكِ أولَ مرة ، ربما خلف النسيان والذاكرة : لا أذكرُ من وجهكِ إلا وجهَكِ كلَّه ، ولم أتحرَّ عن اسمكِ في الأسماء ، رغم أن اسمكِ في الينابيع ، يختلفُ مع مذاق كل نبع .

 

لكِ الماءُ في كل قطرة ، في كل بذرة لكِ بستان ، ولكِ خلف كل نافذة مسافرٌ: هناك قطاراتٌ تقلكِ إلى كل مكان ، في آن واحد: محطاتٌ كثيرةٌ تنتظركِ . تمشين مع المطر تحت المظلات ، تشربين في الحانات كؤوس عشاق لم يأتوا إلى الموعد ، وتنامين مع شعراء على مصاطب من الهواء .

 

سريرُكِ غابةً ، وهم بعضُ أشجاركِ .

 

 لكنني قدتُ أيامي بعصا طولكِ : تبعتُ آثارَكِ في الأسفار ، فعثرتُ على مدنٍ لم تخلق ، لكنها مأهولةٌ بضواحيك وأنحائك : مأهولةٌ بخطواتكِ ، بطيرانكِ ، وبشَعركِ الذي يغطّيكِ عاريةً في الماء ، في النار ، في الهواء ، وفي التراب ..

 

عثرتُ عليكِ تحت ثيابي ، فارتديتُـكِ ، ومشيتُ عارياً ، يكسوني الندى بعادات براعمكِ ، شاهدتكِ على شاشات السينما ، وأنتِ جالسةٌ جواري ، وصافحتكِ في منامات كنتُ فيها يقظاً .

 

قرأتكِ في الأديان ، وتنفستُكِ في قرى التهمتها الحرائقُ : سمعتُ أجراسَكِ في الكنائس فخشعتُ وصليتُ ، شملني غناؤك بالحنان في الأزقة ، فترنحتُ وبكيتُ ، وتعتعني حنينُـكِ  في المنافي ، فانشطرتُ في الجهات .

 

هدهدني صوتُـكِ ، وأنا نائمٌ في مهدِ صوتِكِ .

 

وكثيرا ما خفتُ من جبروت ضعفكِ ، كثيرا ما آويتُ شجاعتي إلى سلامكِ ، و قدّمتُ عنقي إلى حروبكِ : كثيرا ما شربتُ دموعَكِ ، وسكرتُ في حانات نومكِ .

 

إنني متورط ٌ بما لا أعرفُ كنهه :لا أعرفُ ما هو الحبُّ بالضبط  ، إلا إذا كان هذا الذي يوّترني مثلَ قوس ٍ ، هو الحبُ .

 

إلا هذا الترددُ ، إلا هذا اليقينُ ، إلا هذا الخوفُ ، إلا هذا الذهابُ ، إلا هذا الإيابُ ..

إلا إذا كان هذا الطيرانُ ، كالريشةِ ، من يدكِ هذه إلى يدكِ تلك ، هو الحبَّ .

إلا إذا كان هذا الحبلُ الذي يتدلى من سقف العالم ، وأنا أتأرجحُ معه ، هو الحبَّ.

إلا إذا كان هذا الشغف بأن أتيه في أقاصي وجهكِ ، هو الحبَّ .

إلا إذا كان هذا الخطر المحفوف بهديل الحمامة ، هو الحبَّ .

إلا إذا كان هذا النعاس المقيم في مهد السهاد ، هو الحبُ .

إلا إذا كان هذا السرير المحروس بقبائل من القلق ، هو الحبَّ .

إلا إذا كان ازدهار الرقة في الشوك وتفاقم الخشونة في الحرير، هو الحبَّ .

إلا إذا كانت هذا السهم الذي ينطلق نحوكِ فيمزق قلبي ، هو الحبَّ ، لكنني أعرفُ مساراتٍ كثيرةٍ ، وكلُّ مسار نهايته أنتِ.

 

إذا صرتِ حرباً ، فأنا الميادينُ ، والغبارُ ، والعرباتُ ، وأنا القتلى كلُّهم .

 

إذا صرتِ خمراً ، فأنا سكرانكِ الأبدي .

 

اجرفيني إذا صرتِ ريحاً ، فأنا ريشةٌ بملامح حصاة .

اجرفيني إذا صرتِ إعصارا ، فأنا حصاةٌ بملامح ريشة.

 

اكسريني ، فأنا إنسانٌ ..

 

استعاراتُ غيابِـكِ تجري ، تسيلُ في ساقية الحضور ، ومجازاتُ حضوركِ تشغلُ الغيابَ عن نقل أقدامه .

 

لا أقول : " احبكِ " لأنني قلتُ ذلك لأُخرياتٍ قبلكِ .

 لأنني خِطتُ على قمصانهن أزرارَ صعلكتي وعُريي .

لأنني نمتُ في الممزق من صفحاتهن ، واغتسلتُ بالحار من مياههن العميقة .

لأنني كتبتُ بأصابعهنِّ أغلاطي الجميلةَ .

لأنني شطفتُ يأسي بدموعهن ، وآخيتُ بين خيباتهن ودموعي .

 

كان نصيبي من الحب أن  أقع في غرام جميلة ، تحرِّضُني على أن أكفرَ بجمال جميلتي السابقة :

لن أكفرَ لأن كلَّ جميلة أنتِ . كلَّ كفر أنتِ ، وكلَّ طاعة.

 

كلَّ شِعر أنتِ ، و كلَّ نثر .

 

احبكِ لأنكِ كلّهنَّ ، لأنكِ الفيءُ ، وأنا الجسرُ الذي لم ينم ، في حياته ، على وسادة من فيءٍ ، لأنكِ السفينةُ ، وأنا الطوفانُ الذي يحدسُ أن مَن يوقفه عن الغرق في الطوفان ، هو أنتِ .

 

كلَّ صباح يـُريني هيامي كيف أتدلى من عنقكِ ، ككِسرة من مياه القمر، لأنَّ جسدَكِ النورُ : هكذا خنقني حبرُكِ من بداية السطر ، أنا الجاهزُ العنق لكل مشنقة ، لكنني رأيتُ الخلاصَ يلمعُ ، كالموسى ، بين نهديكِ ، فالتقطتُ حرّيتي بأسناني . من يومها وأنا ألفُّ عنقي حول منديلكِ ، واغني :

 

أنتِ عشبةُ الخلود ، التي من أجلها يكتبُ العالمُ خطواتِه اللامتناهيةَ في دفتر الخطر .

أنتِ المغامَرةُ ، والوصولُ .

أنتِ العودةُ بقبضة التجربة .

أنتِ الزمنُ ، قواربُ الخيال ، والطيرانُ .

أنتِ الرغبةُ ، الجسدُ ، وأنتِ اللعنةُ والغفرانُ ، وحلاوةُ الخطيئة .

أنتِ تنهداتُ النبع : جريانُ الدفء في نهرٍ من البشاشة .

أنتِ سدودٌ من الحنان : خيط ٌ من الطفولة ، لم يزل يرتفع من أجل طائرتي .

أنتِ أجملُ سرقاتي من الكتبِ : زادي أنتِ ، ومتعتي عندما تسطعُ شمسُ الإفلاس ، ويخرُّ التشرّدُ صعقا من جيوبي .

أنتِ هروبي من الثكنات : متاهتي أنتِ ، وحدودي .

أنتِ منفاي : وطني الذي ولدتُ فيه مقذوفا إلى خارج العالم .

أنتِ فيروز عندما يغرقُ المطرُ في الصباح .

أنتِ صباحٌ يشرقُ من قصيدةِ منتصف الليل .

أنتِ أغنية ، منذ قرون ، وأنا أبحثُ عن بداية لأكتبها :

 

أعرفكِ خائبةً ، واعرفني لا أفوقكِ إلا في ذلك .

أعرفكِ تكتبين العثراتِ ، واعرفني أقودُ خطواتي إليها .

أعرفك بمستوى المصابيح : تكنسين عن أكتافي ظلام الأزقة .

أعرفكِ خلفَ العالم ، وألمحُكِ ، خلف الشبابيك ، تجلدين المارةَ بخواطر ينسجها صمتُـكِ.

أعرفكِ مشطورة بينكِ وبينكِ .

أعرفكِ ذاهبةً وقادمةً .

أعرفكِ ممّا يسببُ الدوارَ للبحر .

أعرفكِ ممّا يعودُ الصيادون به لينتبذوا بحرا بعيدا عن دموع زوجاتهم .

أعرفكِ ممّا يُفرّقون به بين الليل  والظلام .

أعرفكِ ممّا يجعلُ القوارب سكرانة تنقلُ على ظهرها العواصفَ .

أعرفكِ مما يجعل الشواطئَ  آهلةً بالقبلات واللؤلؤ .

وأعرفكِ ممّا يجعلُ الشيطانَ والملاكَ في حيرةٍ من أمر الله .

 

أشعرُكِ امرأةً .

أشعرُكِ في اللانهاية ، هناك .. في غرامياتٍ شائكة ، وفي حبٍ لم يحصل بعد .

أشعركِ في القفص تمنحين القضبانَ أجنحةَ الحرية .

أشعركِ تحت السوط تباركين الحزانى .

أشعرُكِ المختارةَ من العشق ، والعاشقةَ من الشاعرات .

أشعرُكِ هائمةً على وجهكِ ، في العالم .

أشعركِ تحملين العالمَ .

أشعركِ تلدين العالمَ .

أشعرُكِ المسافاتِ ، الخطواتِ ، والبـُعدَ .

أشعرُكِ أفقاً من الغموض ، وغموضاً يغسلُ الأفقَ بحزنه .

أشعرُكِ تبحرين في نهر الكون وقاربُـكِ الزمنُ .

أشعرُكِ في الساعات تجرجرين الزمنَ من ياقته .

أشعرُكِ الطمأنينة عندما تتعطل حواسُ الأمان .

أشعرُكِ الأمان يكسو الخوف جلباب نومه .

أشعرُكِ الخوفَ يجلس مع الأمان على مائدةٍ واحدة .

أشعرُكِ إنساناً ، وأشعرني ذائباً فيكِ ، لكن ذلك هو ما يـُقلقني :

 

يـُقلقني أنكِ امرأةٌ ويقلقني أنني رجلٌ .

يـٌقلقني أن الحبَّ لا يستطيع أن يصهرَنا أكثرَ من أن تكوني الخيطَ وأن أكون الشمعَ ، أو أن تكوني الشمعَ وأنا الخيطُ .

آه ، الشـِعرُ هو الخلاصُ عندما يذيبنا كالشعلة في النار ، فلنصرخْ إذن : إن لم تجمعنا الحياةُ معا ، فليجمعنا الشـِّعرُ ..

 

كلانا يعرفُ أن الآخرَ ليس هو الآخرَ ، وأن المستحيلَ كلمة ٌفارغة .

كلانا يجهل أن الآخرَ هو الآخرُ ، وأن الحب لغة مستحيلة .

كلانا يؤمن أن الشِعر هو الحبُّ ، وأن الحبَّ هو الشعرُ .

كلانا يكتب الشـِعر على صدر أيامه ، فيموت شهيدا .

 

قلتِ مرة : أنتَ ملاكي ، فصرتُ شيطانا .

قلتِ مرة : أنتَ حدودي ، فصرتُ متاهة .

قلتِ مرة : أنتَ عنواني ، فتلاشيتُ ، ولم أعد أحدا ..

 

يا زميلتي في الخوف ، يا نهاية البـُعد ومبيت الخطوات في المسافة .

يا طالعةً بوجهكِ المبتسم ، يا مبتسمةً بقلب الطفل .

يا ناضجةً كالطلع ، يا جريمة عادلة .

يا شريكةَ الليل ، وغريبة النهار .

يا مَن تلوذ باسمك البراري ساعةَ يريق مياهه الجفافُ .

يا من لا يطيق جمالَـك الجمالُ .

يا من يبتكرون القبلَ من اجل شفاهكِ .

يا من أشركتِ بي وأشركتُ بكِ ، فلم نعد نحب بعضينا كما أنتِ أو كما أنا :

نزعَنا رمحُ العشق في القلب فانقلبنا :

تحبينني كما هم أولئكِ السائرون في نومهم ، واتعبدكِ كما يفعل البدائيون في الكهوف : كما يحب الحمقى والأغبياء والسكارى ، كما يتعبد العميانُ نوراً منسيا ، كما يتهجد الأميون حروفا من الصخر .

 

احبكِ ، وأعرفُ أني لا أستطيع أن أحبكِ لأن العالمَ خسر قلبه في الحروب والمعارك . 

لأنكِ الحبُ ذاته .

لأنكِ الشكُّ ، وأنا القلقُ الذي يفور في صحنه الجمرُ .

لأننا جرحنا المهدَ ، وخرّبنا سريرَ الطمأنينة .

 

لعبتُ معكِ لعبةَ الغرق ، فولد الماءُ .

لعبتُ معكِ لعبةَ الماء ، فولد المطرُ .

لعبتُ معكِ لعبةَ المطر ، فولدتْ الغيومُ .

لعبتُ معكِ لعبةَ الغيوم ، فولد البرقُ .

لعبتُ معكِ لعبةَ البرق ، فولد المرمرُ.

لعبتُ معكِ لعبةَ المرمر ، فوُلد صدرُكِ :

لعبتُ معكِ لعبةَ صدركِ ، فوُلدتْ حلمتان .

ثم

نفد اللعبُ ، فجأة ، فقد وصلتْ التقاليدُ ،

وُلدتْ العائلةُ ، ثم نشبتْ الحربُ .

 

عندما نقبّوا ، بحثا عنك في طبقات سومر ، وجدوا حُلمةً واحدة : حلمتُــكِ الثانية لا يعرف أحدٌ أين استقرتْ :

 

لعل الغزاةَ ، في أحد أدوارهم ، حملوا غبارها إلى بلادهم ، فجُنّ الهواءُ وولدتْ العاصفةُ.

لعل الريحَ حملتْها ، فنبتتْ أولُ شجرة رمان على الأرض .

 

 

قد يعجبك ايضا

تعليقات