الدكتورة صفاء
فتحي :
لا نعيش لحظة بها
أفكار كبرى وكل الأنشطة الفنية تعود في رأيي إلى منبع واحد.
حوار / عبد الوهاب الشيخ ونوال شريف
ولدت
صفاء فتحي في المنيا، في صعيد مصر في 17 يوليو 1958. درست الأدب الإنجليزي في مصر
وشاركت في الحركات الطلابية لكنها لاحقا غادرت البلاد واستقرت في باريس عام 1981.
في عام 1987 درست المسرح الألماني في ألمانيا الشرقية وفي عام 1990 التقت صفاء مع الشاعر
والمسرحي الألماني المعروف هاينر موللر وتعاونت معه. أنهت رسالة الدكتوراه في
الأدب المقارن الإنجليزي والألماني من جامعة السوربون عام 1993. صدر لها بالفرنسية
مسرحيتان إرهاب ومحنة (اوردالي) التي كتب جاك دريدا فيلسوف فرنسا الكبير مقدمتها،
ومن مجموعاتها الشعرية الصادرة بالعربية: " اسم يسعى في زجاجة 2010 "،
"وثورة وحائط نعبره 2014 " . قبل أن تقدم العديد من الأفلام السينمائية
المهمة منها: "محمد ينجو من الماء" و"دريدا من جهة أخرى" ، عملت
كمخرجة مسرح كما عملت صفاء مديرة برامج بالكلية الدولية للفلسفة في باريس. صفاء فتحي تكتب رواية باللغة الإنجليزية منذ خمس سنوات.
للتعرف
على عوالم صفاء فتحي الإبداعية التي تظهر في أكثر من شكل فني وأدبي قمنا بطرح
السؤال التالي عليها:
ـــ مصادر الإلهام لدى الشعراء متعددة ومختلفة، من أن
يأتيك وحي الشعر ... !؟
من أشياء بسيطة وعديدة وقد يكون من بينها الحدث المطلق بطبيعة
الحال؛ مثل الفقدان، المأساة أو الفجيعة، الحب أو التأمل. من حدث بسيط، من ملاحظة
أو مشهد، أو حالة شخصية يعبر بها المرء في لحظات معينة ويصبح التعبير الوحيد عنها
هو القصيدة. مثلا في ديواني الأخير " ثورة وحائط نعبره " بداية الكتاب
جاءتني بعد أحداث ماسبيرو، بالصدفة كنت أشاهد فيديو به أحد الأشخاص كان يمسك بقايا
آدمية ويصيح: " أنا متأكد أنها لأخي " ، كتبت المجموعة كلها بسبب هذا
المشهد . يمكن أن نسمي هذا إلهاما... إجابة ... ردا ... صرخة ... تعليقا، يمكن أن
نسميه أي شيء يتعامل مع حدث لا يقبل الوصف ولا حتى الفهم.
ـــ " اسم يسعى في زجاجة " عنوان فيه من
التجلي ما يوحي بنصوص صوفية فلسفية. في رأيك هل للشاعر أن يكتب نصا فلسفيا بروح
غير ممسوسة بالتصوف؟
طبعًا الشاعر ممكن أن يكتب نصوصًا ممسوسة بالتصوف أو غير
ممسوسة به. ما حدث أنني كنت في مرحلة ما من حياتي غارقة في قراءة النفري، كل يوم
أصحو لأقرأه وكل النصوص التي كتبتها في الديوان كانت في حوار مع كتاب المواقف والمخاطبات،
لذلك كنت أكتب قبل كل قصيدة ما انفعلت به أو تحاورت معه من عبارات النفري، يبدو
أنني أحببت أن أكون في علاقة معه أو أنه هو من فجر بداخلي الكلام الذي كتبته. إن
فكرة الصراع بين الشاعر والفيلسوف قديمة جدًا منذ أفلاطون. هايدجر هو أول من قاموا
بطرح قراءة جديدية لهذه المعضلة لأنه شرع في فلسفة علاقة الحقيقة بين الشعر والفكر.هايدجر
له كتب يستشهد فلسفيا فيها بـ " تراكل " و " وهولدرلين "
الشاعرين الألمانيين الكبيرين. هناك أيضا فلاسفة ما بعد البنيوية في فرنسا كدريدا الذي
كتب ودخل في علاقة فلسفية عميقة مع كثير من الشعراء منهم بول تسيلان و فرانسيس
بونج، كذلك رولان بارت ونانسي و غيرهم الذين تعاملوا مع القصيدة باعتبارها ملهمة
للفلسفة وانتفت لديهم تيمة الصراع بين (Dichter der/ الشاعر) و
( der Denker / المفكر). تلك هي أيضاً قناعتي
أيضا أن الشعر والفلسفة متآلفان أو لنقل إنهما شكلان مختلفان لتصورات ومفاهيم حدسية
مكملة بعضها البعض.
ـــ المبدع أو الشاعر غير بعيد عن واقعه السياسي وديوانك
الأخير " ثورة وحائط نعبره " خير شاهد على كونك للآن منخرطة في واقع بلدك،
ليتك تلقين ضوءًا أكبر على هذا الديوان.
كان هناك ثمة إدراك بعد " أحداث ماسبيرو " أنه
قد تم بالفعل وأد الثورة باعتبارها حدث تحول وحدث تاريخي فارق فعلاً في الواقع
المصري. لم يكن ذلك إدراكًا عقليا بقدر ما كان هناك استشعار له غصة مصدره القلب. الإدراك
أنه لا يزال هناك خراج أو دمَّل لم يتم فتحه وتطهيره بعد، أو وهذه هي المأساة
الكبرى، أنه قد لا يندمل أبداً هو ما دفعني وجدانيا لكتابة هذه القصائد. هذا من
ناحية ومن ناحية أخرى انبثق هذا الديوان من حالة الحداد التي تبعت وفاة أخي وعلاقة
حالة الحداد هذه بحدث الثورة التي جاءت بعد أقل من ستة أشهر من وفاته وكأنها جاءت لتعوضني
بتاريخ مصر عما فقدته من تاريخي الشخصي الخاص بوفاة أخي وكأن هذا الحدث الجلل وهو
حدث الثورة التحم بالحدث الجلل السابق عليه وهو وفاة أخي ومن هذه العلاقة الفريدة
ظهرت قصائد المجموعة.
الحداد في ذاته
ليس حالة شعرية ويمكن ألا يرتقي لها، ولكن مع وجود الثورة حدث هذا الارتقاء ثم
تواءم كل هذا مع بعضه وتداخل في نسيج العمل، هذا النسيج المتشابك بعضه حداد على أخي،
وبعضه حداد على الثورة المصرية، وبعضه به بهجة البدايات عندما رأينا قدرتنا على
خلق مساحات وفضاءات رائعة لم نكن نتخيل أنها موجودة، بالإضافة لمفاجأة الحدث التي
تحدت فكرة الحدث نفسها وأعادت خلقها مثلما يقول دريدا: " الحدث هو ما يغير
المفهوم حول فكرة الحدث"، فلم يكن أحد يتصور إمكانية حدوث الثورة المصرية. هذا
الحدث العظيم الجلل هو ما أوحى لي بفكرة الكتابة التي هي إلى حد ما مملاه، جاءتني
ولم أنقب عنها ولها سياقات تاريخية ونفسية ومجتمعية لو حاولت الآن كتابة الديوان
في ظل غيابها لن أستطيع، هذه اللحظة بالذات كانت هي لحظة الكتابة ولو حاولت أيضا
قبلها لفشلت. من هنا أعتقد أننا نستطيع فهم جانب من جوانب الموهبة، فهي أيضا موهبة
التزامن مع اللحظة التاريخية وترجمتها شعورياً وأدبياً. عادة ما أكتب بشكل لا
تاريخي أي أن معظم كتابتي تقع خارج السياق التاريخي حتى فيما يخص النمط السائد
للقصائد وللنصوص. إلا في تلك اللحظة لحظة كتابة ثورة وحائط نعبره، صارت كتابتي
للمرة الأولى متزامنة تاريخيا مع واقع اللغة التي أكتب بها وسياقات اللحظة
الحاضرة.
في أثناء أحداث الثورة
واحتلال الميدان كنت مشغولة فقط بالتسجيل وبالتصوير السينمائي، وبالفعل أخرجت
فيلماً في صورة غير مكتملة ولكنه عرض في محافل دولية عديدة بعنوان " علّي وعلّي
الصوت". (أعتقد ان هذا الشعار جزء من قصيدة لشاعرنا الكبير زين العابدين
فؤاد) لكني مع ذلك تنبهت إلى أهمية اللحظة عندما كانت الثورة على وشك وأن تصير سرداً
تاريخيا مضى ولم تعد حاضرا يعاش عندها أدركت أنه لو لم يتم الكتابة عنها في وقتها فأن
اللحظة لن تعود ولن سأستطيع استرجاع حقيقتها من الذاكرة. رغم أن البعض كان يرى أهمية
لعدم الكتابة عن الثورة إلا بعد مرور فترة كافية على حدوثها لتأمل وقائعها. أو أنه
من المستحيل الكتابة عن الثورة بالمرة. كتبت هذه المجموعة بسلاسة الماء ولم يكن هناك أي
صعوبة في كتابتها كأن المجموعة كانت متجمعة في مكان ما برأسي وبضغطة خفيفة خرج ...،
هذا لا يعني أنني لم أعمل على النصوص بالعكس فقد عملت عليها طويلا بعد ذلك.
ـــ يولد الشاعر مهاجرا بخياله وكتاباته لكن هناك نوع من
الهجرة أقسى يغادر فيها الشاعر بجسده وبعقله إلى بيئات إنسانية وثقافية مغايرة
ولقد تنقلت صفاء فتحي بين محطات عديدة: المنيا، فرنسا، ألمانيا، وإسبانيا وغيرها
... هل كان لتجربة الهجرة أثر مباشر على كتابتك للقصيدة والأشكال الفنية الأخرى كالمسرح
والسينما ؟
أول انفصال يحدث في الهجرة هو الانفصال عن اللغة. الكاتب الذي يصر على الكتابة بلغته الأم يتناول ويتعامل مع هذه اللغة من موقع الانفصال عن هذه اللغة، أي أن أول شرط من شروط المنفى هو أن تصبح لغة الأم لغة الذاكرة أو الأرشيف وبالتالي دخولها في قالب غير تاريخي. لست وحدي في هذه الحالة فهناك شعراء كثيرون في العالم يقيمون في أماكن يتحدثون فيها لغة مختلفة عن اللغة التي يكتبون بها، وبعد مرور سنوات يترسخ هذا الانفصال ثم رويدًا تبدأ اللغات الأخرى تتداخل في نسيج النص الشعري الذي يكتب ــ وهو بالعربية في حالتي ــ بشكل غير واع. بالنسبة للأشكال الفنية التي يمكن أن تدخل في التجربة نفسها فيما يخصني هناك دراستي للمسرح وكتابتي لنصوص مسرحية تداخلت مع الكتابة الشعرية. وهي تجربة لها علاقة بتاريخ المسرح في الغرب تحديدا إذ أن المسرح هو أصل الشعر، الإلياذة والأوديسة شعر ولم يكن هناك شعر مختلف عن الشعر الملحمي.
من النادر أن يعيش الشعراء من كتابة الشعر. الكثير منهم عليهم العمل، وقد يكون العمل مختلفًا أو قريبًا من طبيعة الشعر، عادة أغلب الشعراء يعملون في التدريس وهو المجال الأكثر قربًا، أنا مثلا عملت في الإخراج السينمائي وقد حاولت دمج الشعر مع السينما باعتبار الأخيرة قصيدة بصرية، وفي آخر فيلم طويل أنجزته " محمد ينجو من الماء " لم أحاول فقط أن أوثق لحياة أخي أو أن أمد جسرًا بين حياته وأحداث الثورة وأن أتكلم عن واقع المرض في مصر والانتهاك الجسدي الذي يمارس على عموم المصريين، ولكنني حاولت أيضا أن أدمج الشعر في نسيج العمل السينمائي وقد تم هذا في أكثر من موضع في الفيلم فيه اللجوء للشعر باعتباره مساحة أخرى موازية .. مساحة عزاء وتأمل، تأخذ فيه القصائد الفيلم إلى مدارات مغايرة غير سردية ثم نعود من خلال الفيلم إلى الواقع السردي مرة أخرى، بالإضافة إلى أنني حاولت عمل قصائد شعرية مرئية فيما يعرف بالفيلم الشعري وبعض هذه المحاولات متاحة على موقع تماس Tamaas وموقع المشروع الشعري The Poetry Project حيث تصحب القصائد المسموعة المكتوبة أحيانا لغة بصرية هي بمثابة ترجمة لمعانيها ولنسيجها البصري. انشغالي بالفلسفة هو أيضا أحد منابع القصيدة وأحد منابع الصورة، وكل هذه الأنشطة الفنية تعود في رأيي إلى منشأ واحد وقد لا يكون هناك تعارض بينها، وكثير من الشعراء فنانون تشكيليون مثل إيتيل عدنان فهي تشكيلية ممتازة وأعرف أيضا كثير من الشعراء الإنجليز الذين يمارسون الرسم والفنون التشكيلية. فلنقل إن الأصل في ممارسة الفنون هو التعدد وليس التخصص.
ـــ هل تؤمن صفاء فتحي أن كل فكرة تختار القالب الفني
المناسب لها؟
بالضبط هي الفكرة واللحظة والحالة والتوقيت معًا، مجموعة
من العوامل المشتركة تؤدي في النهاية إلى تحول الفكر إلى نوع ما من الكتابة أو
الأعمال الفنية بشرط امتلاك الخبرات التقنية اللازمة لذلك. وبعبارة أخرى وكما يقول
هيجل فإن شكل العمل الفني هو بمثابة تعبيرا وافيا عن محتواه.
ـــ هل كان فيلمك عن دريدا " دريدا من جهة أخرى
" جواب لمن يقولون نحن لا نفهم دريدا !؟ إلام سعيت من خلال تقديمك لهذا الفيلم؟
لقد حاولت تقديمه كما أفهمه أنا، وفقا لما وصلني منه. ما
وصلني منه كان مجموعة من التيمات ربطتها بسيرته الذاتية وبالأماكن التي عاش فيها.
موضوع المكان هو موضوع أساسي بالنسبة لدريدا، ومن هنا جاء العنوان بالفرنسية
" D’Ailleurs,
Derrida "
ومفردة D’Ailleurs هنا معناها من جهة أخرى أو
بالمرة أو علاوة على ذلك، ينحصر العنوان عند ترجمته إلى العربية في معنى واحد هو
الجهة المكانية وتغيب بقية المعاني التي ينطوي فيها على الحال، ومثلما يقول دريدا
في بداية الفيلم فلا توجد جهة أخرى إلا في القلب، لا توجد جهة أخرى إلا باعتبارها
لا توجد إلا في داخل الإنسان الذي يحمل الجهة الأخرى بداخله، الجهة هي مكان يحمله
السائر، المشاء بداخله لأن أي جهة ليست بجهة أخرى إلا عندما تكون بداخل السائر المتسكع الهائم. يتحدث دريدا عن ذلك في كتابه " اللغة الوحيدة هي لغة
الآخر" حيث يقول إنه يعشق لغة واحدة هي التي يكتب بها وهذه اللغة ليست بلغته
بل أنها لغة الآخر. أي أن لغته الوحيدة هي تحديدا ليست لغته بل لغة الآخر. ولد دريدا في الجزائر كما هو معرف تعلم وعاش
باللغة الفرنسية وكان كأنه يجب على الأقل أن يعيش بلغة أخرى، أو أن يعرف لغة أخرى
وهذا القلق اللغوي هو ما دفعه للقول إن سيرته الذاتية لم تكن مريحة أو مرضية.
شعرت وأحسست أيضاً
بهذه المفارقة حين كتبت بالفرنسية.
ـــ لماذا اخترت الفرنسية لكتابة مسرحية " إرهاب
" على سبيل المثال؟
علاقتي بالفرنسية علاقة غريبة. لم أكن أتقنها عندما
سافرت لكنني كنت قد التحقت بمدارس راهبات فرنسية وأنا صغيرة، أحكي هذا لإدراكي
تأثير ذلك عليّ عندما شرعت في الكتابة بالفرنسية، لم يكن هذا لفترات طويلة فقد دخلت
حضانة لمدة سنة في أسيوط وبعدها التحقت بالمرحلة الابتدائية في بني سويف لعدة
سنوات، كنا ندرس الفرنسية بجانب مواد أخرى ولم تكن الدراسة بالفرنسية. أي أنها لم
تكن مدرسة لغات كما هو الحال حالياً. لم يساعدني
هذا على إتقانها لكن علاقتي بالراهبات الفرنسيات أثرت فيّ كثيرا وخلقت مساحة في
مخيلتي بإمكانها استضافة الفرنسية. عند سفري إلى فرنسا كان لدي معرفة كافية بقواعد
اللغة لكن محصولي من الكلمات كان فقيرًا. وبالتالي لم أكن أجيد اللغة الفرنسية، لكنني
بالمواكبة مع دراسة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي في السوربون تقدمت للحصول على
ليسانس المسرح من جامعة أخرى، وكان ذلك بصحبة ممثلين ومخرجين فتعلمت فن العرائس وقدمنا
مسرحيات اضطررت فيها لحفظ عددا من لنصوص الفرنسية عن ظهر قلب وكنت صغيرة في السن وقتها،
حفظي للنصوص عن ظهر قلب وحداثة سني جعلا الفرنسية تشغل في دماغي جزءا مقاربًا
للجزء الذي تحتله اللغة الأم القديمة. هذا ما حدث ولا أدري لماذا عندما بدأت أكتب
إرهاب كتبتها بالفرنسية وبفرنسية إلى حد ما قديمة وليست حديثة. عندما عرضت
المسرحية سألني أحدهم: " لماذا وكيف كتبتها بلغة الثورة الفرنسية؟ " لا
أدري بالضبط! ما حدث أنني كنت أقرأ في ذلك الوقت الكثير من الوثائق عن فترة
الإرهاب التي أعقبت الثورة الفرنسية وعندما بدأت الكتابة كتبت بلغة قريبة من لغة ذلك
الزمن. لم أقرر الكتابة بالفرنسية وإنما حدث الأمر هكذا، إن مضمون العمل الفني
يفرض الشكل وكذلك اللغة التي يتخذها، بالذات في حالة كاتبة مثلي تعيش على الحدود ...
حدود اللغات، وحدود الأماكن، وحدود الحالات والأشكال، وعلى حدود الماوراء بين هنا
وهناك.
ـــ لبعض التيمات كالألم والموت حضور كبير في إبداعك.
فهل كنت تسعين عبر أعمالك لاستكناه معانيهما وإعطاء معاني جديدة لفكرة الألم
ومفهوم الموت؟
أعتقد أن مفهوم الألم وحدث الموت يختلفان من إنسان لآخر،
كل إنسان بل كل كائن حي يعيش على الأرض لديه ترجمة دقيقة تخصه كبصمات الأصابع
لمواضيع الألم والفقد والموت، وأنا كغيري الحياة علمتني أن أتعامل مع الألم وفرضت على
أن أتعامل مع فكرة الموت، ليس مع فكرة الموت وإنما مع واقع الموت مع سؤال الموت. في
أعمالي تناولت تساؤلي هذا عن الموت بجانب التداعيات الميتافيزيقية المنفتحة
لعلاقتي بهذا التساؤل. الاستجابة الأدبية لهذا التساؤل تقع في نطاق التأمِّل الحالم
الماورائي الذي يرتقي بالألم إلى عوالم طوباوية في الوقت الذي يعانيه ويحاول أن
يتخطاه دائمًا إلى نوع من الخيال والبهجة والتواجد مع أصغر الأشياء وأقلها أهمية.
مثلًا في ديوان " ثورة وحائط نعبره " فكرة الألم هي المحرك الأساسي
بينما في الجزء الثاني من الديوان وعنوانه " لقطات " أتحدث عن طرائف
الثورة ومصادر البهجة فيها.
ـــ من تشعرين أنه أكثر قربًا لقناعاتك الفكرية: المثقف العربي أم الأوربي؟ ولمن تقرأين هناك وهنا؟
القراءة النظرية أغلبها لمفكرين من الغرب، طبعا قرأت
قراءات نظرية لمفكرين عرب منهم جورج طرابيشي مثلا وغيره ولكن أغلب قراءاتي النظرية
هي باللغة الفرنسية.
ـــ ما رأيك في قصيدة النثر والجدل الذي يثار حول
أصالتها من حين لآخر؟
قصيدة النثر هي القصيدة المعاصرة التي يكتبها الشعراء، وهي الواقع الذي ينبغي أن نتعامل معه. لن تتوافق روحي مع كتابة قصيدة عمودية أو قصيدة تفعيلة لو حاولت ذلك رغم وجود إيقاعات وقوافٍ يمكنها أن تصنع موسيقى خاصة غير مقصودة في كتابتي، أذكر أن ترجمة صدرت لمجموعة من قصائدي بالفرنسية بعنوان " حيث لا نولد " قدم لها جان لوك نانسي ومعه أقمنا ندوة في المركز القومي للكتاب، أحد الحضور أخذ يحصي الأوزان الخفية الفرنسية في النصوص رغم أنها نصوص مترجمة إلى الفرنسية، تحمل اللغة إذن ذاكرة شكلية غير واعية كما يحمل الكاتب ذاكرة لغوية دون أن يدري بحملها أو دون أن يدرك الأشكال الفنية التي يكن أن تظهر من خلالها. في قصيدة البئر والصورة، من ديوان اسم يسعى في زجاجة، على سبيل المثال فإن النص الأساسي الذي يشكل خلفيتها هو الكتاب المقدس، وعبارة " التي كانت ولم تكن الآن " الواردة في القصيدة مأخوذة من سفر الرؤيا ليوحنا اللاهوتي، ولقد استخدمت اللاتينية لترجمة العبارة عند نقل النصوص إلى الفرنسية. ما أعنيه هنا أنه حتى الأشكال القديمة كالشعر العمودي وشعر التفعيلة متضمنة فيما نكتبه الآن، لا يصدر إبداع دون خلفية ولا يحدث خلق من فراغ. أنا لست الإنسانة الوحيدة التي أحبت أو فقدت أخاها، هي تجربة إنسانية عامة وهناك تجارب عديدة في موروث الإبداع الإنساني قادرة على جعلنا نرتبط بها ونقدم بدورنا تجربتنا الشخصية ورؤيتنا لتيمات أساسية كالحب والموت مثلما فعل السابقون علينا. وما نتبنى من أشكال للكتابة تحمل في لاوعيها وتنطوي على ما سبقه. لذا أرى أن هذه الإشكالية إشكالية عقيمة.
ـــ ما
هي الفكرة الجوهرية التي قامت صفاء بتفكيكها ولم تكثرت لإعادة تركيبها لأنها في
رأيها تبدو وكأن مصيرها كان الهدم لا البناء؟
التفكيك ليس شغلي الدائم، العكس هو الصحيح
فالمرء يحيا في تجارب طوال الوقت شكلها مترابط ومتماسك ومتناغم كوحدة واحدة،
بالنسبة لسيرتنا الذاتية كمثال، فإنه يوجد لدينا رواية عن نفسنا لها شكل معين وقد
جرى اعتمادها من قبلنا وأضفنا اليها نرجسيتنا، السيرة الذاتية هي روايتنا النرجسية
بكل ما فيها من حلو ومر، لكن يحدث أحيانًا أن تقع هذه الرواية أثتاء الكتابة، فعندما
ما نحاول أن نكتبها أو نكتب أجزاء منها ونتعامل معها بأمانة تأخذ في التحول وتصير رواية
للكتابة وليست الحكاية التي شرعنا في حكيها، أي حكايتنا كما نعرفها وتعرفنا عليها، كما تدربنا على قصها
على أنفسنا. الحقيقة منفتحة وتمر وتعبر بأنواع من التشكل منها ما هو خيالي ومنها
ما هو واقعي. أنا مقتنعة أن فكرة السيرة
والرواية في لحظة مساءلة الكتابة عن النفس تنتج نصًا لا يمكن تصنيفه كسيرة ذاتية
أو كرواية، لأن الكاتب في طور الكتابة أي في لحظة خلق الحكاية من رواية الذاكرة قد
يضطر بحكم بحثه عن الحقيقة لهدم فكرة السيرة أو الرواية وأن يخلق أو أن يكتشف حكاية
جديدة من داخل الحكاية التي يحكيها. وأنا أعمل منذ خمس سنوات على كتاب من هذا النوع،
كتابا نثريا وليس شعرا، يمكن تسميته رواية وهو رواية غير الرواية أو رواية مغايرة للرواية.
رواية بالمعنى التاريخي لمفهوم الرواية، الخبر الذي يقع بين الواقع الشعور
المتخيل.
ــ هل هناك فلسفة عربية آخذة في التطور أم
أنه يوجد فقط تقليد للفلسفات الغربية؟
لا توجد لديّ فكرة حول الفلسفات العربية، قد
تكون موجودة ولكنني لا أعرف عنها شيئًا. أعتقد أنه يوجد استلهام للفلسفات الغربية
في العوالم غير الغربية. هذا مع أن الفلسفة الغربية أيضًا تمر الآن بأزمة؛ المدارس
الكبرى التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنحصر، وقل عدد الفلاسفة الكبار
وبوفاة جان لوك نانسي لم يعد هناك إلا عددا قليل جدا من الأسماء. إلا أننا لا نعيش
في لحظة تعتمل فيها الأفكار الكبرى، نحن نحيا في لحظة استيعاب للأفكار السابقة
ومحاولة قرائتها وتمثلها ولسنا في حالة ابتكار أو إبداع لأفكار جديدة، يمكن أن
يكون ذلك لأن ما تشهده الإنسانية الآن بحاجة إلى وقت لاستيعابه، فكرة انتفاء
المكان مثلا حيث يتواصل البشر مع بعضهم البعض من أماكن مختلفة عبر شبكة الإنترنت
بالتأكيد هذا الأمر يحتاج إلى وقت لاستيعابه.
أو ربما على الأرجح لأننا بحاجة لنوع جديد
تعددي للتفكير لا يمثله شخص واحد بل العديد من الأشخاص منهم الأحياء ومنهم
الأموات. ربما نكون في لحظة التعددية هذه التي لن يكون لها أن تتمحور حول اسم
واحد.