القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

 

أقاصيص 

زكريا تامر

أقاصيص - زكريا تامر - بيت النص


انتظار امرأة


ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى.

ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر.

ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره . 


خضراء

وقفت المرأة في الحديقة، يطلّ عليها من الأعالي قمر من حجر أصفر، وكانت قدماها اللتان تطآن التراب عاريتين. وتناهى إلى سمعها غناء خشن ناء، فأحنت رأسها بانكسار. وكان الخوف في تلك اللحظة طيرًا أبيض، مذبوح العنق.

وارتجف جسد المرأة، واغرورقت عيناها بالدموع، وابتدأ لحمها يتصلب شيئًا فشيئًا، ونمت جذور في باطن قدميها، وشقّت التراب الجاف، وراحت تتغلغل فيه بينما كانت المرأة لا تزال تبكي منكّسة الرأس. وبغتة ندت عن المرأة صرخة ذعر خافتة، ورفعت ذراعيها إلى أعلى محاولة التخلص من التراب غير أن ذراعيها تيبستا وبقيتا مرفوعتين. وتمايل الجسد يمنة ويسرة، ونضبت دموع العينين رويدًا رويدًا، وتحول اللحم خشبًا اكتسى بقشرة متشققة. وأقبل الشتاء فيما بعد، وغسلت أمطاره المرأة المثبتة في التراب. ثم أتى الربيع، فبدأت تنبت أوراق خضر صغيرة في ذراعي المرأة وشعرها، ثم ما لبث أن انبثق زهر كثير.

وسطعت شمس الصيف على الحديقة، وعندئذ أقبل صاحب الحديقة، وكان رجلاً هرمًا، فألفى أشجار التفاح في حديقته مثقلة الأغصان بالثمار عدا شجرة واحدة لم يتحول زهرها تفاحًا، فاستاء منها، وسارع إلى إحضار فأسه، وراح يهوي بها على جذع الشجرة، وتوالت ضرباته حتى سقطت الشجرة على الأرض ميتة 



الأدغال


جرت في المقهى مباراة صاخبة في لعبة الكونكان بين معروف السماع ورشيد القليل، كثر مشاهدوها وتطايرت في أجوائها التعليقات الحماسية الساخرة المتحدية، وانتهت بهزيمة رشيد، فتباهى معروف بانتصاره، ونصح خصمه بلهجة ممازحة بمواصلة التدرب ليل نهار قبل اللعب مع أساتذة مثله. فاغتاظ رشيد، ومزق أوراق اللعب، وقذف بها إلى الأرض، ونصح معروف السماع بصوت مرتفع سمعه كل رواد المقهى بأن يخجل قليلاً ولا يتمادى في التباهي أمام رجال يعرفون جسم أخته أكثر مما تعرفه أمها. فأحنى معروف رأسه، ولم يفه بكلمة، وأنصت لأصوات هامسة يسمعها عادة وحده.

همس الأرنب: (اهرب تنج).

همست النعامة: (دفن الرأس اليوم يليه دفن بقية الجسم غدًا).

همس الضبع: (من لا يأكل يؤكل).

همست الحية: (ملمسي ناعم، والموت في أنيابي).

همس الذئب: (إذا لم تكن ذئبًا أكلتك الخراف).

همس الغراب: (لكم أنا مشتاق إلى النعيب!).

ولم يتكلم الأسد، واكتفى بالزئير الحانق متأهبًا للانقضاض على فريسته. ونهض معروف واقفًا كأنّه يهمّ بمغادرة المقهى، وفجأة لطم رشيدًا لطمتين على خده الأيمن وخده الأيسر، فبوغت رشيد وبهت إذ كان يتوقع شتائم متبادلة يليها تماسك بالأيدي يليه تدخل الوسطاء. واستل معروف سكينه بحركة سريعة، وطعن رشيدًا في صدره وعنقه ثلاث طعنات، فصاح رشيد: (أخ! قتلتني!).

وابتعد الأسد عن فريسته ملطخ الفم بالدماء، وغادر معروف المقهى هاربًا ويده لا تزال ممسكة بالسكين التي تقطر دمًا. وتنبه وهو يركض بأقصى سرعة إلى أنه وحيد أبويه، لا أخت له ولا إخوة. 


الأغصان


ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث. ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).

فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).

واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).

ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).

فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).

فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).

فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).

فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).

فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا .


 الساحر


أُوثقت يدا طفل في الخامسة من عمره خلف ظهره، وعُصبت عيناه الخضراوان بقطعة قماش قاتم، ووقف قبالته خمسة جنود وقفة استعداد متنكبين بنادقهم متأهبين لتنفيذ الجديد من أوامر ضابطهم المتوقعة.

وتعالى صوت ضابطهم آمرًا، فسددوا بحركات سريعة فوهات بنادقهم نحو قلب الطفل، وأمرهم ضابطهم بإطلاق النار، واختلط صوت الضابط الصارم الآمر بضحكة ندت عن الطفل، وبلغت مسامع الجنود الخمسة، فتذكر الأول زوجته الجميلة حين تضحك، وتذكر الثاني سريره قرب نافذة مطلة على نهر، وتذكر الثالث شارعًا مشجرًا يمشي فيه مثرثرًا مع صديق، وتذكر الرابع يوم كان صغير السن يعلمه أبوه صيد السمك على شاطئ بحر، وتذكر الخامس أمه تكبر في السن فجأة يوم مرض.

وبادر الجنود الخمسة إلى إطاعة الأمر العسكري، وأطلقوا نيران بنادقهم على صدر ضابطهم الذي تهاوى أرضًا مثقوبًا خمسة ثقوب دامية، وانتظروا غير آسفين أن تُطلق النار عليهم، ولكنهم ظلوا أحياء ومات كل آمر بإطلاق النار .


الطائر الأخضر

أحرق أبو حيان التوحيدي كل كلماته المكتوبة على الورق، ورمق رمادها بتشف متنهدًا بارتياح. وأحسّ بالجوع، ولم يجد في بيته ما يصلح لأن يأكله، فمسح فمه بظهر يده، وحمد الله. ووقف أمام المرآة، فلم يعجب بما رأى، وتحوّل خروفًا تحوّل هرّا تحوّل ذئبًا تحوّل طائرًا أخضر الريش، وخرج من النافذة المفتوحة، وطار فوق البيوت، وحطّ على غصن شجرة، وراقب بفضول رجلاً يجلس في حديقة قصره محاطًا بالكثير من ندمائه وخدمه وحراسه، وقد تطلع الرجل حوله، فرأى كل شيء جميلاً، فالعشب أخضر، والأشجار خضر مثقلة أغصانها بالثمر الناضج، والسماء زرقاء، والشمس مشرقة، والورد متنوع الأشكال والألوان، وتساءل الرجل بصوت مرتفع منتش: (هل هناك رجل في العالم أسعد مني?).

فتنافس جميع الذين كانوا متحلقين حوله على التأكيد له أنّه أسعد رجل وأقوى رجل وأرحم رجل وأغنى رجل وأسخى رجل. فاغتاظ الطائر الأخضر، وتحوّل غرابًا أسود، ونعب نعيبًا أجش أزعج الرجل، ودفعه إلى أن يأمر حراسه بطرد الغراب من حديقة قصره، فحاولوا وأخفقوا، وحنوا رؤوسهم خجلين بينما ظل الغراب يطير من شجرة إلى شجرة مواظبًا على إطلاق نعيبه. فاضطر الرجل إلى ترك الحديقة غاضبًا، فاغتبط الغراب، وطار مبتعدًا عن الحديقة بأقصى سرعة حتى بلغ أحد الأزقة، وحطّ على سلك كهربائي، ونظر إلى أطفال يلعبون بمرح صاخبين، فزال عنه حنقه، وتحوّل عصفورًا مغردًا، فلم يتنبه الأطفال إليه، واستمروا يلعبون ضاحكين. فطار العصفور، ورأى في أثناء طيرانه معركة ضارية بين جيشين، فتحوّل طائرة حربية ألقت قنابلها فوق الجيشين، وأبادتهما أجمعين. وطارت الطائرة بعيدًا عن أشلاء الجثث الممزقة، وحلقت فوق ساحة سجن يضرب حراسه سجناءهم بالعصي الغليظة، وقذفت بناءه بقنابلها وهدمته. فبادر السجناء توّا إلى بناء سجن جديد ذي أسوار شاهقة. ورأت الطائرة سفينة تمخر البحر، ويظن ركابها أنّ الطوفان يجتاح الأرض بكاملها، فتحوّلت الطائرة حمامة بيضاء طارت وعادت بعد حين إلى السفينة تحمل في منقارها غصنًا أخضر يقطر دمًا أو حبرًا أحمر .      

 

تعليقات