قبل نقطة الوصول
ميادة قداح
ذات يوم ، حين لم يكن ثمة بد ، حملن أنفسهن ونهضن متكئات على بصيص ضوء برفقة حلم ، ودونما تريث ، فالوقت قد حان . كل منهن تنام ، واليأس ديدنها ، يعانقها ، ويكسوها جليداً ، دونما سلام ، يشب فيها نهاراً ، كي لاتخطفها الريح من على أرصفة الخريف ، إلى ملاعب الشمس .
شروق فتاة يداعب النسيم خصلات شعرها الفاحم ، لكن غبار الطباشير لاينام تحت أظفارها الملونة ، لايتطاير كالثلج على ثيابها ، الصباح ....لاتعرف له شكلاً مذ أنهت دراستها الجامعية ، وعلقت شهادتها زينة على الجدار .
شروق هذه ....تطيل الوقوف أمام المرآة ، تسأل نفسها : وهل أنا جميلة ؟ قد أكون أجمل لو ارتديت هذا الثوب ؟ يجب أن أكون جميلة ، ولو بالمساحيق ، فالجمال الوسام الذي نحقق من خلاله أحلامنا ، قد اثقلت كاهلي مثاليات أمي ، فأنا قاربت الثلاثين ، لاعمل ، لازوج ، ولا أولاد ، ولا ولا .....
يجب أن أبدو جميلة ، يجب ، بل يجب جداً ....
أما غادة .... تلك الفتاة المخبئة في عينيها غابة نخيل ساعة السحر إذ تغازلها الشمس ، فترقص كفراشة دافئة ، ولها جسد نخلة تناجي الإله في خشوع ، معرشة كشجرة ، تأبى الانحناء، شعرها خيوط شمس على أطراف مغيب ، لكنه المستقبل ، المخبأ بحضن الساعات المعلقة على الجدران ، التي لم تعد تطيق تكتكتها ، لقد ملت انتظار الوقت المتثائب .
وحين نسمع صفق أجنحة لليل يلطم وجنتيه حنقاً وغيرة ، تكون ليلى قد أطلت على شرفتها ، فغار من طلتها . سوداء ، تقف على بوابة الليل ، تنتظر قيس أحلامها . كم مرة مدت يدها ، أغمضت عينيها ، دعت نجماً للسهر على شرفتها ، لم تأبه لاستيقاظ أمها ، أو لهمس جارتها ، لكن النجم ، إذ يقرر النزول يرتطم بالأرض ، فيهوي نيزكاً .
وها هي عبير ، المقطوفة من الزهور المغروسة في الأصائص ، والحدائق ، المنتشرة في الصباح كالضوء ، تقف على الرصيف كل صباح مرغمة على الذهاب لتلك العيادة المقرفة ، تنتظر آخر الشهر ، لتقبض ثمن حبات العرق النازف ، ها هي تنظر للعابرين في متاهة الكون .
- إلى أين .... هم .... نحن .... كلنا ؟ أما من نقطة للوصول ؟
نعم .... الوصول ، إذ ربما اليوم أصل ، ربما بدأت ، وربما أقف على حافة السقوط ، كهذا الصمت المخيم ، الاشبه برائحة العفن التي تزكم الأنوف ، خيم الحلم على أهدابهن ، فسلمن خطواتهن نهباً لطريق ، لا اشواك فيه ، ولاحجارة ، ميسرة فيه كل العثرات إلا غصة تقف في الحلق ، كحد سكين .
لم يبتر هذا الصمت إلا لافتة كتب عليها بخط عريض :
-《 انا الساعة .... بعد الساعة ... احلل شخصيتك بالساعة 》.
تصلبت الاقدام ، حدقت العيون في الفراغ ، راحت التساؤلات تتقاطع من خلال النظرات الحيرى ، الولهى ، وتتساءل :
- هل جئنا لمعرفة شخصياتنا ، أم لمعرفة مايخبئه لنا المستقبل؟ .
تقاطع النظرات كان مشابهاً لتقاطع سيفين ، يتعانقان على الباب ، ليحرسا الحق ، وربما الباطل ! أو ليس الباب مغارة ، كلما اقتربنا منه ، ضاقت فوهته ، واتسع من الداخل ؟. ماذا علنا نجد هنا ؟ تساءلت غادة .بتوتر طقطقت شروق أصابعها ، وبحيرة عضت شفتها عبير ، ومبتهلة حدقت ليلى في السماء. وإذ هي هنيهات حتى دعاهم صوت للدخول :
- تفضلن ، أنا من تبحثن عنها .
تجمد الدم في اوصال الحلم ، توقف عن المسير ، لكنه الفضول ، دفعهن للدخول ، وعلى بساط سرمدي وضعن خطواتهن الأولى ، ثم جلسن ، وران الصمت ، لاسؤال ولا دخان يتطاير في الفضاء ، فالاندهاش بات سيد المشهد المريب .
طرد من الأقلام الملونة وضع أمام كل واحدة منهن ، مامعنى هذا ؟ أمن أجل هذا جئنا ؟ هل سندون سيرنا الذاتية مثلاً ؟
صوتها قطع عليهن تلك الحيرة حينما قالت :
- فلتأتي كل منكن بقلم .
أشجعهن كانت ليلى ، اقتربت وفي يدها قلم أسود ، خاطبتها قائلة :
- لون قلبك كلون قلمك ، وطريقك مسدود .
واردفت أمام دهشتها :
-ثمة في نهاية النفق نور ، قد تبصرينه يوماً ما .
اقتربت غادة مختارة قلماً أحمر ، تنهدت بعمق وقالت لها :
-مسفوكة أنت كالدم ، ولايعرف مصيرك إلا الأرض .
ولمع قلم أخضر بيد عبير ، كما لمع الخوف في عينيها ، فقالت لها :
- للخير والجمال وهبت ، فليباركك الله .
حارت شروق في أمرها ، وهي تحمل قلم رصاص : ماعساها تقول لي ؟ . اقتربت وجلة ، فاترة ، ثقيلة الخطوات ، شاردة الذهن وباغتها الصوت :
- تسكنك الحيرة ، فكلما فكرت بالاقتراب خطوة للأمام ، تترددين ، وتقفلين راجعة ، وكلما كتبت كلمة ، مسحت سطراً ، قلمك يأبى السكون والاستقرار ، مترددة أنت في الحياة كقلمك هذا ، كل شيء عندك قابل للتغيير ، وشخصيتك لاتستقر على قرار ، كل شيء على اللوح مكتوب ، وعندك يصير قابلاً للإزالة بمسحة ممحاة ، فالثبات صفة الصخر ، والتنقل صفة الرمل المنثور في الفيافي ، انتبهي فالحياة قرار يكتب بلحظة .
سقط القلم من يدها ، وراحت ترتجف ، ثم هوت على الأرض ، وحين استعادت وعيها ، غمغمت متسائلة:
- أيمكنني اختيار غيره ؟.
تعليقات
إرسال تعليق