مقاطع من يوميات الغراب الأعرج والألماظة القرمزية
(* مسودات دفتر يوميات وملاحظات آبل ٢٠٢٠)
أشرف يوسف
- لقاء حيوان منوي وبويضة
كل منا يخترع ما يريد بشأن أبويه ليصل إلى معنى يخصه.. كان الفراغ ينهش آدم بنفس الدرجة التي ينهش بها حواء؛ فكلاهما أنقذ نفسه بنفسه، وحمل بين ضلوعه وردة المقاوم وذلك اللحن لمجهول من وادي بو في تلك اللحظات الشبيهة بالتواء جذعي وارتطام كتلتي بين مدينة خرسانية وأخرى، فلا ريشة تنفصل عن جناح حمامة قروية ولا يحزنون إلا في المجاز..
(١)
ألم المغادرة حال شبيهة بالتعرف إلى فتاة من بائعات الهوى.. وأنت مريد مكبل بأخرى بين ضلوعك في أحشائك بداخلك، هذا التشبيه غير اللائق هو ما أشعر به الآن وأنا في طريقي التي بلا علامات إرشادية لاستكمال كتابة قصة قصيرة في يوم واحد، اكتفيت وشعرت بالملل من عوالمها ابنة التجربة، وكما يقال باللغة الدارجة.. مليت من كتر ما بصيت في هذه الرحلة للانتهاء من الكتابة فهي نعيم الكاتب الشاب، أي كاتب شاب في بداية الطريق ويحلم بالشهرة والتحقق، ما بعد ذلك تفاصيل.. بالنسبة له وللقصة المسودة أيضا ككائن حي، وهي في طريقها لاتجاه آخر: في حال نشرها من عدمه، رحلة أنه تعرف إليها وبالتبعية رأى بالعين المجردة جسدها وأعضاءها المنثورة وعليه أن يدفنها في عالم النشر المتاح للجميع، نعم لقد فات الأوان ولا يمكنه اللعب معها وإعادة تشغليها مرة أخرى، هي صارت تخص قراءها السبعة النخوبيين.. وتحديدا ذلك الذي يولد من رحمها القرائي ويؤمن إنه (واحدها وهي أعضاؤه انتثرت)، وببركته تواصل تجويد نفسها تلقائيا، دون تدخل من أحد وبمعجزة تخص المصادفات.
عرفت كاتبا وكاتبة مخضرمين كانا يمرضان بالتجربة، أي أنهما بمجرد الجلوس للكتابة والتوغل فيها يصاب بلا أعراض جانبية جسداهما بالعلل. لكل منهما تجربته الحية، ولكن جمعهما سقف واحد عاشا تحته كصديقين أو رفيقين أو عاشقين، دعك من هذه المسميات فليست هي المغزى.. (كن مثلي معاديا للمغزى)، عدهما في حال روحية أو زوجين لو أردت. منزلهما ضيق للغاية، عبارة عن غرفتين وصالة وحمام ومطبخ، ولكنه دال على روحيهما المحبة لبعضهما البعض، منسق وذو رائحة طيبة، كنت كلما دخلته أشم رائحة حديقة موالح وأسمع أصوات طيور من كوكب الآلهة القديمة في الكتب، وكالعادة أمارس معهما البذاءة والتنكيت عن حياتهما الجنسية، فقلت لهما بعد الجلوس في ركن الكاتب: أين تمارسان فعل الحب، فخجل الكاتب وردت الكاتبة بجسارة: نحن نحب بعضنا البعض بالكتابة، وهنا بدأت المرأة في حكي دمر علاقتي بالقصة المسودة كشاب خرج من بيته ليوثق قصتهما في يوم واحد.
تحركت من مكاني، واتجهت إلى الثلاجة الصغيرة الشبيهة بثلاجات الاستعلامات في الفنادق الضخمة، وسحبت شيئا ليس مقرفا آكله من طعامهما، وتوجهت بعيني مباشرة لأرى جسد الكاتبة الذي يضخ بالحياة وترضى بالأوهام، كما أعتقد أنا، وهذا ما ثبت فشله بعد ما قالته لي كأنها تدعوني لعقيدة جديدة ورجلها الكاتب تتحرك قدماه من بقعتنا المشتركة لإصلاح كالون الباب.
لا أذكر من أين بدأت الحكي، فلقد وقعت في فخ الزمن العمومي حتى أستوعب ما تقوله المرأة عن زمن نادر وخاص، ولو صح ما يقال على لسانها باعتباره واقعهما، أي إنني ألتقط ألفاظها الصادقة عن حالهما بأذني، ووعيي يلعب بقبحه ويأمرني أن آمرها بالتمنطق الجالب للظاهر والمعادي لبصيرة الباطن، لماذا لا يخجل رجلها الصديق أو الرفيق أو العاشق أو حتى الزوج من تصريحها لضيف طارئ أنهما مخيلتان بلا إيلاج في فتحات مرئية.
أي عالم محاط بهذين الكائنين، أردت التأكد أنني لست في شرود متخيل من هراءاتي، فتركت المرأة وهي تتكلم ووقفت بجانب الرجل وسألته مباشرة عن مشكلة الكالون، فرد هو الآخر كالواثق المطمئن: العصف الذهني مساء أمس في ما بيننا كان في أوجه، ويبدو أن عاطفتنا الحميمة حركت أشياء من أماكنها، تعرف أن رمز أي مسجونين الباب، ومن آليات التحرر التخلص منه ومن أداته المسيطرة الكالون التي تحد من انطلاقك، وأظن أن عاطفتنا الحميمة ترشدنا لحافة لم نبلغ فردوسها بعد، تخيل أنك بلا مفتاح وبودك أن تدخل من الباب.. على الفور ستنادي على آخر أنثوي متضخم الوجدان لتكسرا معا كالون سجنكما الحبيب.
(٢)
عدت متمتما يالهما من مخبولين، لا يزال الأمر كأنهما مجرد مسودتين لقصة واحدة ادعي تأليفها في يوم واحد وبزيارة لهما وبالحركة التي وصفتها من ركن الكاتب للثلاجة لآكل شيئا ليس مقرفا، ومن الثلاجة لصوت المرأة وعقيدتها الجديدة، ومن صوت المرأة إلى الرجل وكالون الباب فلا يصدق البيوت إلا المساجين. قالت المرأة الكاتبة هل تعرف شيئا عن الخلود، كان ردي: الخلود وهم، فردت بمعنى، فقلت ما يتبقى منا أثر لا علاقة له بفنائنا، حتى لو شكرنا وحمدنا الآخرين بسببه وتعملوا واستمتعوا ونهلوا من بحره، فلم يأت أحد عزيزتي من العالم الآخر وأخبرنا بالذي صار معه هناك وهل يستشعر تلك النداءات التي ترسل له في عالم النشر المتاح للجميع من السبعة النخوبيين والذين يرون موته خسارة فنية، بما فيهم: ذلك الذي ولد من رحم مسودة قصته، وكان واحدها وهي أعضاؤه انتثرت أو حتى أولئك العاديون الذين يحبونه بعد مماته ويهمسون الله عليك يا فنان، فضحكت المرأة وقاطعتني بذكاء لانظير له يطل من عينيها الملونتين بلون الخضرة الفاقعة: أنت تريد أن تتأكد من وصول (الله عليك يا فنان) للميت، ثم حسمت الأمر وتوجهت للكاتب قائلة: ما رأيك أيها الحبيب في ما يقوله الضيف الطارئ.
أعتقد أننا في العام 2000، كما أكرر في أرجاء هذه القصة المسودة، أذكر أنني نظرت لآلة فحص الفميتو الزمني والأجساد وعندما لمست زرا نطق بالتاريخ، وهو نفس العام الذي من المفترض أن أكتب قصتي الأولى عنهما حسب نفس الآلة ودراستها التلقائية لمقاومة جسدي للبقاء بمجرد المرور من أمام شاشاتها المعلقة في كل جزء من أجزاء عوالمي كشخص عادي بوده أن يصير كاتبا، ولكن قد أموت في مايو ونحن الآن في منتصف يناير من نفس العام. أي إنني في رحلة، ولم يتبق لي منها سوى أربعة شهور، ولا أعرف ما الذي أتى بهذه الحكاية وأنا في طريقي لدفن القصة المسودة في عالم النشر وبين عيون قرائها السبعة النخوبيين، على كل لست بصدد إجابات.. اعتدت نفسي رجل أسئلة أو هكذا أظن. عادت المرأة بطبق فاكهة غريبة، وقشرت لي ثمرة، وقالت تعال غير مكانك من ركن الكاتب واجلس في ركن الكاتبة لعلك تهدأ، استجبت لطلبها وكان الكاتب لا يزال مع كالونه الذي دمرته العاطفة الحميمة بالعصف الذهني بينهما، المهم دخلت غرفتها الغارقة أرضيتها بشتى أنواع الزهور وتعرفت على نوع آلتها الكاتبة والورق البلكي البيروتي الذي تقوم بمراقبته وهو يخرج إلى المنضدة والكلمات مرصوصة بداخله بعد كد وتعب لسنين، ثم عقبت بنداء شبيه بندائي لها منذ سطور فهي دقيقة ووجدانها خلاب وكفت عن وصفي بالضيف الطارئ: عزيزي لم أفكر في نشر أي من مسوداتي أو اطلاع أحد عليها سوى الكاتب الذي يحبني وأحبه، آه أعرف ما الجديد في حكيك سيدتي، ردت ببساطة النجاة من الزيف.
غريبة هذه المرأة، وكيف يتحملها هذا الرجل الكاتب إنها مزعجة وصريحة، كيف هي أصلا ككاتبة تحتمل نفسها، إنني في بداية الطريق وأحيانا أضيق من الازدحام والعمق المسيطر على عاطفتي ووعيي وأذهب بكل طاقتي للتخفيف عن نفسي بالتفاهة والانغماس في السطحية، أي رعب هذا الذي يعيشانه مع بعضهما البعض، حتى الورق الذي يستهلكانه في بروفات مسوداتهما ليس مزيفا وبلكي بيروت. أمسكت بفرجار هندسي، وناديت عليها بصوت عال، أنت حمقاء، فضحكت، ورجلك أحمق فضحكت، السحر يغطيك من رأسك إلى إخمص قدميك وهذه المرأة الجادة لا تزال تلقي بأفراحها في الهواء، وأكملت: سأغادر منزلكما ولن أعود مرة أخرى، فهمست عزيزي ألا تريد أن تشاركنا اللعبة، لاتناديني عزيزي مرة أخرى وأي لعبة تقصدين، هي بحسم الرجال: محاربة الزيف.
تعجبت من عرضها، فهما ككاتب وكاتبة وبحالهما هذه منفصلان عن العالم الخارجي تماما، هما شبيهان باثنين موجب وسالب يتبادلان الأدوار في عربة فاخرة بقطار النوم الذاهب إلى أقصى نقطة في الجنوب، وفوق ترابيزتهما المشتركة بتلك المساحة المسماة الكافتيريا بيرة ومكسرات ملونة للتسلية، فيعتقدان أن رغبتهما المعطلة عن الاستغراق بالراحة في الكابينة مرتفعة السعر الخاصة بهما عوضت خسارتها قوة شرائية مكتسبة مع كل ما هو مهتز ومتحرك حسب قوانين الحركة وخارج قطارهما الوهمي، فحتى هو بعجلاته وقضبانه الحديدية وستائره ومناضده الوثيرة ثمثيل في تمثيل.. فأنا معكوس صورتهما، منغمس بكليتي في العالم الخارجي ولا أرغب سوى في نشر القصة المسودة عنهما وما سأكتب ولا أكتفي في بداية طريقي بامرأة واحدة، وانتوي مع كل قصة مسودة أن أتعرف إلى امرأة جديدة وسكنى جديدة، ملول وسريع الغضب كالأطفال (قبل وبعد وأثناء) التجربة وأفكر الآن حرفيا في مضاجعة القطط.
دعك من تلك الارتباكة بسب تلك المرأة التي ظنت بي الخير، فإنني أقاوم أن يظن بي الخير أحد.. فما بالك لو كانت الفاعلة هي كاتبة وامرأة زاهدة. بصراحة خشيت أن أفقد أرض النعيم التي أنا فيها وراض عنها وتحت قدمي، فهما لا ينشران ويكتفيان بالكتابة ودفن المسودات في بيت الحب، وفوق هذا وذاك لا يتلامسان بل في ليلة ممارسة الحب الشبقي يفعلان ذلك بالكتابة، وكل منهما في ركن عوده الأبدي ومنعرجه البيولوجي الحميم، ربما يليتقيان في لحظة نيرفانا بذئبهما المشترك.. ذئب السهوب.. لتكون الحقائق بشكل ما صورة للمرض حسب جاك لاكان.
كيف أرضى بتغيير نمط حياتي وأنا لم يعد أمامي سوى أربعة شهور متبقية للمرح ومواصلة العيش في العام 2000، وبعدها سأكون نائما في مقبرة مثل أي كائن كان حيا وصار ميتا، حقيرا أو عظيما مثل هذه المرأة الكاتبة أو الرجل الكاتب. لن أوافقها الرأي، قررت وأنا أرتجف من دنو كتلتها وكسر المسافة القدرية المحتومة بيننا كأي نقطتين على خط مستقيم، كررت لنفسي في قاعها الباطني: لن أوافقها الرأي، ثم صحت مخاطبا الهواء، كعادتي وأنا خارج السيطرة: سأظل عربيدا، قلتها ثلاثا، وفي الرابعة حل كمفردة مكتوبة بالخطأ الصمت.
لماذا لا يريد رجلها الكاتب أن يريني مسودته المعنونة ب: كيف تأكلها وهي نائمة فوق الجدران، حدثتني عنها المرأة وهي تستشهد بطرق محاربة الزيف، أي الطرق آمنة لأخرج من باب كالونه وهو لا يزال قيد إعادة التشغيل، وسجيناه لا يزالان يرددان بصوت تلاوة المنشاوي للذكر الحكيم: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء، إلا أسماء سميتوها أنتم، أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم وقعت عيناي على جملة رددتها بلغة لا أتكلمها ((Dishes: The Untold Story))**
كانت بقعتنا تعج بتطور كبير، والعالم في الخارج متاح وممتع، وهما كامنان، وبودهما على ما أظن أن أسجن معهما، كيف سأترك نسائي اللواتي يساعدنني على إضاعة الوقت لدرجة أنني من كثرة الانحراف والشطط معهن في فراش الحب، كما قلت سلفا، أفكر حرفيا في مضاجعة القطط، ولو عطلت عضوي ذا الحجم الميني عن مغامراته السادية، وأخذت بطريقتهما.. من أين لي بامرأة مثالية كتلك الكاتبة لتلهمني أن أكتب قصة مسودة ثانية و بنفس العنوان: كيف تأكلها وهي نائمة فوق الجدران، وأغير خطتي عن الإلهام بزيارة بيت الحب.
ضمت شفتيها وعزفت لحنا يونانيا بلا آلة موسيقية، وصنعت صوتا أوبراليا جذب أذني، وهرع رجلها من أمام الكالون، ترك سجانه الذي يدوايه جريحا كما هو وعاطل عن العمل.. منذ نعتهما لي بالضيف الطارئ و حدوث العصف الذهني، وبقية مفاصل الحكاية التي نعرفها جمعيا بلا اسثناء، بما فينا أميو بقعتنا.. (يقول واستر مارك: لم تكن العادات في المجتمعات القديمة هي القانون الأخلاقي فحسب، بل لم يكن هناك من يفكر في قانون أخلاقي سواها، وكان المتوحشون يشددون تشديدا قاطعا بألا يكون لأي فرد ضمير خاص أو ذاتية معينة). و(يقول رجل آخر تعذر علي التقاط اسمه من كتاب مزامير الكاتب والكاتبة وأوراقهما الملقاة بفوضى: يجب على الأفراد المتوحدين في ما بينهم ألا يعتنقوا آراء جيدة، وألا يتبعوا أي سبيل لتنفيذها، بل عليهم أن يتبعوا المجموع ليفعلوا معه الشر ويتبعوه كذلك في فعل الخير، فيقوموا بالفعل كجماعات).. شعرت بالخجل وانسحبت مودعا كليهما على وعد بلقاء، ألا تريد أن تجلس لتكتب بضع سطور من أجل تعاقدنا وصفقة الانضمام إلينا ولو كعضو منتسب بين عالمين: عالم الحقيقة عالمنا وعالمك المزيف عزيزي الأجنبي، لا أعرف لماذا لقبتني بالأجبني ونادتني بلفظة عزيزي التي أمقتها من بين شفتيها الشبهتين بهلال خافت في سماء جرداء بلا زينة وشبيهتين بشفتي أنجلينا جولي المشقوقتين كرمانة معطوبة من أسفل بمطواة، ربما درست المرأة الكاتبة الإسلام وأصول الفقه ولذلك تلقبني بالأجنبي، وربما لانتقالي في حضورها الطاغي من موقع المتفرج عليها وعلى من هي بالنسبة له ملهمة بكسر الهاء إلى موقع متضخم الوجدان الذي بوده احتضان جبروت خفي لكتلتها، وبملاحظتها ذلك واستشعاره تخبرني بشكل لائق أنني بمثابة شخص عادي بوده أن يكون كاتبا لا أكثر ولا أقل، وما هي في هذه العوالم سوى ثمرة الكاتب الناضجة ولا أحد إلاه.
تعليقات
إرسال تعليق