1
كما أنك تعلمين أنني خجول، ولا أتحدث أمام الغرباء بسهولة، ولذلك فأنا أفشل في توديع الأحباب بما يستحقون.. أنا مثقل بالكلام.
ولعلك تتذكرين هذا المساء الذي قضى فيه حضرة الشيخ "رضا".. لقد توقفتُ عن الكلام نصف نهار كامل، وقتها كنت أشعر أن صوتي أبيض كالسحاب، وأن ريحا عاتية تقتلع ذاكرتي..!
لقد أخذتِ يدي في صمت وقلتِ لي:
لقد مات الشيخ رضا...!
يا محمد.. ! يبقى الرجل معافى حتى يُوَدِّع صديقا، فإذا ودَّعه، لا يعود كما كان.. يفقد شيئاً من بريق ضحكته، ومن خفة مشيته، ومن أنس جلسته، يصبح رجلاً بنصف جسد، وتتكاثر حول راحتيه الظلال.
ولعلك تتذكر ذلك الشاعر الذي منعه الحياء من بكاء صاحبته:
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ
وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
لقد كنتَ تسخر منه، وتقول:
هذا رجل خائب، وما كان ينبغي له أن يخجل.. وكنتُ أعترض عليك وأقول: لقد بكى واستعبر، وقال لها كل الكلام..
لا عليك أيها الفتى، لا عليك أيها العابر، لا عليك يا حبيبي!
2
أنا مطمئن تمامًا، سأجلس تحت هذه الشجرة المباركة وأحدثكم مثل حكيم صيني عن فوائد الموت المبكر:
سوف تموت أيها الفتى، ستموت ليزداد حضورك، الأجساد مثقلة بذاتها، وروحك تواقة، وأفكارك محجوبة بك..!
نحن نموت بطريقة حلوة، نموت في سكون وهدوء، نتلاشى كنسمة حنون في صيف قائظ، لا تشغل بالك بجسدك، فجسدك يعرف طريقه جيدا إلى مدارات الريح، وسيغدو شجرة ممتلئة بالثمار، أما نفسك الحلوة فسوف يلتقطها منقار عصفور أخضر، لتستقر بهدوء داخل حوصلته الشفافة، هناك حيث ينعم آباؤك القدامى، يمكنك - لو أصخت السمع قليلا - أن تراهم وتسمع كلامهم وضحكهم وابتسامتهم الرائقة،
أتسمع هذا النداء الشجي؟
أيها الفتى العذب:
هنا مقامك،
هنا في حوصلة العصفور الأخضر.
يُقَال إن الأستاذ العقاد قد تنبأ بموته في مارس، ولأني أعرف العقاد جيدا، فأنا على يقين أنه اختار الموت في مارس. العقاد رجل المنطق والعزم، فلا تستبعد هذا.. ولكن اللافت أن الأكابر يحبون أن يشرقوا - أيضاً- في مارس؛ فلم تكن ولادة محمود درويش صدفة؛ الشعراء لا يأتون مصادفة، هناك اتفاق ضمني بين السماء والأرض على قيمة الشعراء، ولذا فنحن نتلقى الأمر بحساب مقدر...!!
العقاد ودرويش ومحمد عبد عبد الوهاب وجوه شتى لنغم كبير ممتد، لا أحد يغيب على الحقيقة، كل ما هنالك أنهم يولدون بطرائق مختلفة، وبصور شتى، وأنهم يقضون بعض الوقت في حوصلة العصفور الأخضر.
مارس شهر الموت وشهر الأرض أيضًا، لو كنت رسامًا لصورتُ لك قلبها الوردي يخفق بالوجيب، ولو كنت شاعرًا لحدثتك عن رائحة التراب الخصب.. نعم للأرض شبق حنون، وتأوه هائل، إنها تهتز..!
لا يمكن للمارين العابرين العجلين أن يلتقطوا نغمات عشقها، وحدهم العشاق يمكنهم أن يفعلوا ذلك.
الأرض اكتمال الدائرة، دائرة الفصول هي عينها دائرة الإنسان.. لعلك في حاجة إلى بعض الوقت لترى اكتمال ظلك..!
3
هذا الصباح يا عزيزتي جميل... !
أريدُ أن أحدثك عن رسالتك المحذوفة على الواتس، والحذف- كما تعلمين- مثل الإثبات، وخيال الإنسان لا حَـدّ له؛ فقد انتبهت إليها وأنا أستمع إلى صوت نجاة الصغيرة وهي تشدو بأسى:
"وكم ذهبتُ لوعد لا وجودَ له..!
أنا مثقل الذراعين.. وأفكر في عينيك اللامعتين وفي هذا الغلاء الذي يضرب البلاد، وأقول لنفسي:
إن الرجل الذي اخترع استعارة (الغـول للغلاء) كان شاعرًا تداوليًا، والناس يقولون الشعر حين يعشقون وحين يتألمون وحين يعجزون عن شراء هدية تليق بأعين حبيباتهم ..!
نظرتُ مجددًا إلى رسالتك المحذوفة، وحاولت قراءة ما تحتها من كلمات، على طريقة "ديريدا" فيلسوف التفكيك. هذا الرجل مُلْهم، وأظن أنه قد تلقى رسالة محذوفة على الواتس ذات صباح قارس مثل هذا، فتمنى لو أن حبيبته التي ترسل شعرها بطريقة ما بعد حداثية مذهلة كتبت له قائلة:
وحشتني..!
ولكنها - لأسباب غير معلومة - تراجعت بعد أن كتبت له هذه الجملة الساحرة، ربما خافت على قلبه من الوجيب، وربما ضَنّتْ عليه، ولجأت إلى خيار (الحذف لدى الجميع)، فتركتها مغلقة هكذا، أو ربما كانت تستمع مثلي إلى أغنية نجاة، ولعلها كتبت فيها:
"ارجع إليّ فإن الأرض واقفةٌ .."
تذكّرتُ سنواتي الأولى وأنا أضع الحَبّ في أرضنا السمراء العفية، كنت أطمسه برفق ومحبة، وأرش عليه الماء الذي جلبه إلينا النهر العتيق، فينبت بعد قليل برعمًا لينًا يعدنا بالسنابل..! والعجيب أن ديريدا أطلق على رسالتك المحذوفة مصطلح "الطمس"..!
فهل كان الرجل فلاحًا مثلي؟ أم كان عاشقًا تلقى كثيرًا من الرسائل الفارغة التي تقول كل شيء ولا تقول أي شيء ..!!
لعله كان وحيداً ويشعر بالندم..!
هذا الصباح يا عزيزتي جميل..!
الفلاحون في الحقول الممتدة يحرسون القمح، رغم أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك فيما سبق، ربما يشعرون بالخوف من جنون العالم وسفه الحكومة. الفلاحون لا يفكرون في الطرق المرصوفة ولا يعرفون كيف تبدو القاعات المترفة التي يتحدث فيها المسؤولون عن رغيف الخبز المدعم وعن فشلهم في الصحة والتعليم.. لا يعرف الفلاحون سوى القمح، يقيمون عليه، ويعلِّمون أبناءهم كيف "يطمسون" الحبّ بطبقة رقيقة من التراب، يصونون بها كرامتهم أمام حبيباتهم.
يقول العاشق:
من أجل عينيك اللامعتين وصوتك الذي يحرسني أزرع وأطمس وأرقب الحَبّ وأفكر في رسالتك المحذوفة..!
4
أعرف الطريق إلى عينيك جيداً، ولكني منهك إلى أقصى حد، لعلي أعالج عجزاً تاريخياً ناءت به روحي التي تركتها في ذلك الميدان البعيد.
أدرك أن الحياة هبة لا مثيل لها، وأنها تعطى لمرة واحدة، ولكني منذ سنوات أعاني خوفاً غامضا، فأقف على مسافة بين العالمين.
يتملكني أحياناً شعور عدمي، يمنحني راحة من يحلق- دون مبالاة- بجسده النحيل فوق هاوية سحيقة.
حين قابلت العرافة ذات مساء قالت:
أنت تنتمي إلى قبيلة قديمة، وإني أرى غبار جدودك في كفيك، لقد وضعوا قانوناً صارماً:
"يموت الرجل من أجل رحيق أنثاه، يستقبل الموت واقفاً، ثم ينظر في عينيه وهو يبتسم.!"
حقا..؟!
فلماذا أنا هنا إذن؟!
تقول العرافة وقد أدارت ظهرها الطويل الممشوق:
لكل حقيقة وجهان،
ولكل حي موتان،
ولكل جسد حفرة تمتص رحيقه.!
في الفراغ البعيد رأيت السحب تمطر أطفالاً من بياض كالثلج، يتراص الأطفال في صفوف طولية، وفجأة يكبرون ويشيخون وتسَّاقط أجسادهم في العراء...!
ملتاعا ناديت على العرافة، لم تلتفت، غير أني سمعتها تقول:
أنت تعرف الحقيقة، فلا تكذب..!
تعليقات
إرسال تعليق