درست مع الأغنياء، في ثانوية دار السلام، بينما سكنت مع الفقراء في الحي الكارثي البعيد. أحببت نجمة لم يكن بمستطاعها أن تنزل إلى الأرض. كان الحب شبيها بالمخدرات والانحراف الخطير في تلك الأيام، تنصحنا أمهاتنا باجتنابه.
في الجامعة كان هناك فقط الماركسيون والإسلاميون. كلهم كانوا فقراء. ساحة الجامعة شاسعة بحيث تستوعب كل أشكال التجمعات المحتدمة والحلقيات والنقاشات الساخنة، دون كَراسٍ، ودون شاي أو حلوى أو أوراق نقدية في الجيوب.
كانت الجامعة المكان المثالي لتجمع الفقراء، المكان المثالي للسخافة.
في امتحانات آخر السنة كان مطلوبا من البنات التبرج بالمينيجيبّات والعطور الفاغية والصدور المطلة بحلماتها النافرة باجتهاد على الأساتذة. أغلب الأساتذة كانوا يملكون شققا مفروشة في حي مجاور كحي أكْدال لأجل الامتحانات. أغلب البنات الجميلات كن ينجحن بمجموع كبير. أما الذكور فيتسكعون في الساحة مبحلقين عيونهم في لاشيء، منتظرين الرسوب الأكيد، بمعدلات مخزية.
كنت أستعين على درس السوسيولوجيا ببيرة باردة، ولفافة حشيش، ضامنا الرسوب بأقل جهد ممكن. لكن، لأن الأقدار مقلوبة كطاولة بعد انتهاء العرس، كنت أنجح.
في الليل، في غرفتي ذات الضوء الشحيح الملائم لطيران الصراصير المفاجئ من سريري إلى الحائط، كنت أقرأ ماركس وأستنتج أن الذين يفهمون ماركس حقا، عليهم أن لا يصيروا أبدا ماركسيين، بل فوضويين: أناركيين.
أناقش البيان الشيوعي مع الصراصير مندهشا ومعجبا بتلك الصداقة الكبيرة والأنيقة التي كانت بين ماركس وإنجلز. في الرسائل بينهما كان إنجلز يكتب: صديقي الحبيب ماركس، وكان ماركس يرد عليه بالمثل.
لم يكن بمستطاعي شرب البيرة علانية في البيت، لن تقبل أمي ذلك، وأنا لن أقبل أن أتمايل أمام أمي التي تدعو لي بالخير والتوفيق بعد كل صلاة. كنت أملأ قنينة الليمونادة بالبيرة، وأسكر دون أن أتمايل.
في ساحة الجامعة أجلس دائما على الأدراج، قبالة الساحة، باحثا عن نجمة لا تنزل إلى الأرض. كانت الساعات مرتخية والمدرجات كئيبة بهندستها الشبيهة بمسارح رومانية مهجورة، ولم يكن فوق ساحة الجامعة نجوم.
كنت طالبا ومناضلا طبقيا على الطريقة التاوية ولصا وفي في بعض المناسبات بائع حشيش في الجامعة. كان زبنائي من الماركسيين خصوصا، كانوا مفلسين في الغالب وشحاذين ويفضلون التدخين مجانا على الدفع المسبق أو على السرقة لتدبير المصروف. عدد كبير منهم لم يكن من الرباط، بل أغلبهم، يأتون من مدن بعيدة مهمشة وقرى ومداشر مجهولة، كي يسكنوا بالجامعة ويدرسوا بها ويأكلوا من مطعمها الشبيه بمطعم المستشفى. ينامون على أسرّة متوازية كأسرّة السجن، يأكلون طعاما شاحبا عديم المذاق، يتبادلون القبل مع البنات الشيوعيات والمحجّبات، وفي الليل يلعبون الورق دون قمار، ويحلمون بالثورة، بالثروة.
لم يكن هناك شيء صالح للسرقة في غرفهم، فالثوريون دائما مفلسون. كان عليّ التخطيط لأشياء كثيرة خارج الجامعة. صديقي مراد كان في السجن، سيخرج بعد شهر. فكرت في سرقة سيارة أستاذ وبيعها في الشمال كقطع غيار لكني لم أكن قد اجتزت امتحان السياقة بعد. حين يكون الأستاذ داخل المدرّج يعطي المحاضرة للطلبة الماركسيين والإسلاميين تكون السيارة في كراج الجامعة الذي بلا حارس مدة ساعتين على الأقل. مراد خبير في السياقة وفي فتح باب السيارات بِبُوجِي الدراجة النارية، يبصق فوقه ويقرعه فوق زجاج النافذة الأمامية فينكسر الزجاج دون إحداث صوت ليتحول إلى رسم هندسي شبيه بعش العنكبوت، يدفعه بكفه ليسقط فوق الكرسي داخل السيارة على شكل حبيبات بَرَدْ، يمد يده ويفتح الباب من الداخل، يلاقي سلكين ببعضهما فيشتغل محرك السيارة، كما في الأفلام المصرية القديمة الرديئة، يضغط على دواسة السرعة ويدير المقود يمينا أو يسارا حسب المنعرجات، هذا كل شيء.
مر شهر ونصف. انتظرته قرب سكة القطار القديمة. حين انتهت المحاضرة كنا على مشارف القنيطرة. حين بلّغ الأستاذ الشرطة ووَصَلَتْ إلى الجامعة كنا قد شربنا أكثر من بيرة في بار صغير بالعرائش وطلبنا قنينة روج.
الفقراء مستعدون بالفطرة للجريمة وللتمرد على القانون وللفوضى دون حتى أن يقرؤوا ماركس. على المفلس أن يجد المال، المال غاية تبرر كل وسيلة، ليس مقبولا أن يكون هناك أغنياء وتكون أنت مفلسا، هذه هي حكمة الشوارع الخلفية الواضحة في مدن الشمال كما في الجنوب والشرق والغرب وفي كل مكان.
في طنجة الأسطورية تجد كل شيء تريده، ابتداء بسجائر المارلبورو المهربة إلى تهريب البشر عبر زوارق إلى إسبانيا. الحشيش والهروين والكوكايين والكيف والدعارة الراقية في شقق فخمة أو في الأوتيلات والدعارة الرخيصة حيث بإمكانك مضاجعة امرأة واقفا في الشارع خلف سور حديقة أو داخل أسنسير عمارة. مدينة مزينة بعدد كبير من المتشردين والمجانين واللصوص الطنجاويين أو من مدن أخرى هاربين من أحكام قضائية يتحينون فرصة للحريك، يشربون الجانكا، أو يشمون السيليسيون على رصيف الميناء محدقين بأسف في البواخر العملاقة المبحرة ببطء إلى إسبانيا، في كل مكان وفي كل لحظة هناك شجار أو طعنة مفاجئة في الظهر بسكين، وأسواق خاصة ببيع المسروقات تنشط ساعة وتختفي لتغير مواضعها في الغد إلخ..
بعنا السيارة بثمن دراجة نارية عبر وسيط وعدنا بسرعة في الكار، كان علي أن أظهر في اليوم الموالي في المدرجات بشكل عادي حاملا كتبي في يدي أمام الطلاب كأي طالب. كان في جيبي حشيش طنجاوي صلب داخل المدرّج.
حتى في الجامعة عدد كبير من الطالبات كن يزاوجن بين التحصيل الدراسي وبين تحصيل المصروف من الليالي الحمراء. حين تجد الطالبة أن الليالي الحمراء أفضل بكثير من الدراسة تهجر الجامعة، تتعلم اللهجات الخليجية في ستة أيام، تنطقها أفضل من الخليجيات، تواظب على الحانات، بأقل مجهود تحصل على المشروب وعلى المال، بالرقص فقط أحيانا. بينما لا يحصل الذكور على شيء مهما رقصوا.
في ثانوية دار السلام تعلمت أن أسوأ شكل من أشكال البشر هم الفقراء، فقررت أن أصير من الأغنياء بأي طريقة ممكنة، بالعمل أو بسرقة بنك. المهم هو أن أمتلك فيلا في حي الرياض أو في السويسي وسيارة لأبتعد عن أولئك الحثالة. سوى أن الجامعة كانت هي التجمع الأكبر للمفلسين والأواكس، حيث لم يكن بمستطاعك هناك سوى تدبير مصروف صغير للشرب والتدخين والسياحة الجنسية الرخيصة.
كنت طالبا فاشلا ومناضلا فاشلا ولصا فاشلا، أكره الملك وأكره الشعب، ولم أستطع القفز من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى. الماركسية لم تنفعني بشيء، والأيديولوجيات الإسلامية لم تنفع الإسلاميين بشيء، إذ كان دائما ممكنا القفز من الطابق العاشر لعمارة إلى الأرض من أجل الانتحار، أما القفز من الأرض إلى الطابق العاشر فكان دائما وما يزال مستحيلا..
أجلس على أدراج الجامعة، بشعر كثيف فوضوي، محدقا في الساحة التي تعج بالطلبة والحلقيات والنقاشات الجادة المحتدمة والصراعات بين الماركسيين والإسلاميين، التي تصل إلى حد إشهار السواطير والهراوات، محدقا جيدا بعينيّ الذئبيتين في مصيري الأسود بينهم، متأكدا أني سأظل إلى الأبد حثالة وسط هذه الحثالة.
كان اكتشافا عبقريا مبكرا لي أن أعرف أني حثالة، وكان علي أن أتعايش مع مصيري دون ضغينة ودون بكاء. أدخن الحشيش جالسا على أدراج الجامعة كأني أدخن فقط سيجارة، وأشرب البيرة في البيت كأني فقط أشرب الليمونادة، وأخطط لسرقات صغيرة لا تغني ولا تسمن من جوع، وأسمع موسيقى الهيفي ميطال الصاخبة في غرفتي الشبيهة بزنزانةٍ رأسمالية للشيوعيين..
أحببت طالبة شيوعية من القنيطرة، نجمة لا يمكنها أبدا الصعود إلى السماء، كانت هي أيضا تحب أغاني الهيفي ميطال العدوانية بعد منتصف الليل، ولا تعتبر السرقات عيبا. تدخن معي الحشيش على أدراج الجامعة قبالة الساحة، وتشرب معي البيرة من قنينة الليمونادة في البيت، بينما تحضر لنا أمي بعض الأطعمة اللذيذة معتقدة أننا "نذاكر". كانت تضطر أحيانا للمبيت في بيتنا بحجة أن القنيطرة بعيدة، فنضطر لممارسة الحب في السطح تحت سماء بلا نجوم.
أحببت طريقتها المستهترة في الحياة، وحفظها عن ظهر قلب لأقوال ماركس وأغاني أحمد قعبور وأشعار مظفر النواب، وقَصة شعرها الغلامية، وجسدها الأنثوي الناعم المناقض لمعتقداتها، وسروالها الجينز الديلافي اللاصق على مؤخرتها البارزة، أحببت تهدج صوتها في الظلام على ضوء توهج لفافة الحشيش، وجلستها قربي على أدراج الجامعة في شمس العاشرة صباحا الساطعة، ساهية، متكئة بمرفقها على ركبتها وبذقنها على كفها.
أحببتها كثيرا وكان لابد أن أصير شيوعيا مثلها ومن أجلها ليزداد عدد الحثالة، فصرت شيوعيا، أتزعم حلقيّات صغيرة أحيانا، محرضا الطلبة الجدد على التظاهر والفوضى والتخريب..
تعليقات
إرسال تعليق