القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

 

شمس وغيم

غادة سعيد


شمس وغيم -غادة سعيد - بيت النص
 

 

يُوجعني انتظاركَ كما الألم الخفيّ، وتُوجعني أكثر لغتكَ التي تكبر في دمي حتى يقتلني الدّوار. دعني فقط أسند بعض خوفي عليكَ، وأسألُكَ كما سيّدة العشق الأولى: أما زلتَ تُحبّني أم صنع لكَ الغياب أوجهاً أخرى لم أعد أعرفها؟ أخاف عليكَ منكَ ولن أدعكَ تفلت من قبضة الرّيح نحو شجن القيامة.
صغُرت مطالبي يا قلبي، ولم أعد قادرة على اقتفاء الطائرات التي تسرقكَ منّي كلّ ساعة، وترميكَ حيث يُزهر الغياب. أحبّني يا قلبي، وامضِ حيث شهوة الأسفار.
صغُرت مطالبي ولا شهوة لي سوى أن أُغمضَ عينيّ وأفتحهما عليكَ، قبل أن تنام.
لملمني كي لا أنطفئ كما الغيمة أو أنفاس العاشقة. شيّدني من عدم في برج حنينكَ، وازرعني فيكَ كي أُنبت من جديد.
هلمّ إليّ يا مجنوني، أنا التي فيكَ.
سنة تمضي وأخرى تجيء. وأنتَ تكبُر في منافي الروح وتُؤنسها. سنة تأتي وأخرى تنتظر، وبحرُكَ بحري، ولونكَ لوني، وحقول الحنين والشوق تحتل كلّ عطري. كم كنت وحيدة قبل مجيئكَ مُحمّلاً بالياسمين والخزامى والزعتر البلدي. سنة تهرب وأخرى تستنجد بي، فكيف لي ألّا أراكَ وأنتَ لي!؟ كيف للظلمة أن تغرقني وأنتَ منْ أنبتني فيك؟ كيف لا أنحني لكَ وأنا مثقلة بكَ؟ مفعمة بتاريخ الوجع الذي بيننا، وبشعلة حنين يُعيدني كما الموجة الهاربة، إليكَ. كيف لي ألّا أضع يدي في كفِّكَ بعد أن ضاعت منّي المسالك والسبل قبل أن أعبرَها فيكَ؟ كيف لي ألّا أسكنكَ وأنتَ بيتي الأخير الذي منحني الدفء وألبسني الانتظار ودثّرني في زمن العراء؟ أنت تعرف سرّ ألمي، فلماذا كلما غفوتُ رأيتكَ تسحبني نحوها؟
كلمّا رأيتُ الخوف في عينيكَ تحوّلتُ إلى رماد عند قدميكَ. لا أريد أن أموتَ إلّا فيكَ. البرد خارجكَ يؤذيني. عيني في عينيكَ ولا شيء أراه فيكَ غيري، وإذ أراني لا أراني إلّا بكَ.
نكبر معاً في الظلّ وعندما توقظنا نجوم الفجر الأولى نبحث عن ملامحنا، ونركضُ في عرض سماء نشتهيها لنا فقط.
منحتني قطرة الماء التي تسبق الموت عطشاً، فسحبتني نحوي. قلتَ لي يوم جفّت السواقي وتبعثر زجاج السماء، تعالي إليّ أنا الذي فيكِ. أنت من دسّ البحر في عيني، ثم أخذتني من كفي على حين غفلة، وركضت بي على كلّ حواف الدنيا ولم أرَ شيئاً غير قلبكَ وابتسماتكَ التي سرقتني من غفوة العاشقة.
يوم خانتني الألوان كلها، وتخلّت عني موجة الشوق، سحبتَ قوس قزح، ألبستني زنّاراً من حرير الغيم، وأوقدتَ شعلة القلب ولوّنته بالنار.
من يملك سحرَ اللّون بالنار سوى عاشق يمضي في الحياة ولا يلتفت إلى السؤال. تنهكه الأسئلة التي تعيدُه إلى بدءِ الخليقة وكونٍ لن نُغيِّر في الشيء الكثير.
يوم احتل السّواد قيامة الحنين، لم أجد غير كلماتكَ التي قادتني نحو مزارع الشمس وأجنحة الفراشات التي مدّت أجنحتها لتنوّمني على سرير الورد.
كلمة واحدة تكفي لتُوقف العواصف عند بوابات المهالك، وتنحني للصمت الذي فيها.
كلمة واحدة تكفي أيضاً لتُوقف الزلازل عند منبت الشجر، وحافة البحر، وحرقة الغيم، وتُصالح الشمس بالمطر، دون أن تلمس المدينة.
كلمة أخرى تكفي، فقُلها.
قلْ أحبُّكِ، لتجعلني أرقص عارية، في عين الخوف، بلا أدنى سؤال، فكلّ المسافات التي رافقتني تنام الآن في كرّاسة البنفسج الطفوليّة التي صنعتُها من ورق الغياب وأنفاس الفرح وركض التيه.
أجبْني يا هبلي اللذيذ:
هل رأيت يوماً الأرض تعلو على السماء؟ هل رأيت النجمة تستلقي في الرمل وتنام؟ هل رأيت الغزلان تطير؟..
أشهد أنّي رأيتُها ولمستُها، ونمتُ في حضنها على متن غيمة الفرح.
منحتني كلّ شيء. أعدتَ لي أناي، فكيف لي ألّا ألتفت صوب الحائط عندما تمرّ بالقرب من البحر، أو في الشارع المطل على نافذتي وقلبي؟ كيف لي ألّا أراكَ وأنا لا أرى ما ترى فيكَ، طفلاً لم يمت. رجلاً لم يكبر. امرأةً ظلّتْ واقفةً تحت المطر والحرّ وثقل الغيم، في يدها شيءٌ من روح الله وملمس الملائكة. كم من الكلمات أحتاج فقط لتفهمَ أنّ هذه الحفنة من الفرح والرماد ليست أنا فقط، ولكنّها أيضاً تجلّيكَ فيها. سأموت إذ ترحل يوم تُسدَل ستائر النور في عينيكَ، لا لأنّ بي شهوة القبر ولا فتنة المطلق، لكن لأنّي كلّكَ حين تنسى بعضكَ، وبعضكَ حين ينساكَ كلّكَ.
سأسبقكَ نحو صمت النهاية لأكون فراشتكَ وظلّكَ، وأوقظكَ لأشارككَ أنفاسي وبقايا الشعاع الذي في عيني. لا تسألني كيف!؟. لكنّني سأكونكَ: جسدكَ المتمادي في الغيِّ والجنون، لغتكَ التي تخترقُ صمت القبور. ضحكتكَ وشمسكَ حيث تغيب العصافير والغيم وقمم الجبال التي لوّنت طفولتكَ.
كيف تريدني ألّا أراكَ يا هبل التفاصيل والقلب، وأنا إذ أُصلي لقطرة الحياة الأخيرة، ينتابني الله فيكَ. حين أطلبُه، لا أسمع صوتاً غير صوتكَ يأتيني، ليُنبّهني أنكَ مازلتَ تغرس قدماً في الحياة، وأخرى في شهوة الركض عبر المحيطات لتلقى شمساً، كلّما وجدتَها، فلتت من بين يديكَ. ألم تقل لي هذا يوم التقينا!؟
شمسكَ وغيمكَ أنا، وأكثر. ربّما كنتُ قدركَ الأوحد.
دعني الآن أغفو إذن، ربّما لمحتُكَ في الرّعشة الأخيرة وأنتَ تركض نحو جوعي إليكَ. ربّما مددتُ يدي التي لن تجمعَ هذه المرّة الغيوم وغبار الرّيح.
ازرعني فيكَ فقط، ودعني أكبرُ كما أشاءُ، نجمةً عاشقة، بين ملايين النجوم.
 
 

تعليقات