عن زرافةٍ جميلةٍ يُمْكِنُك
أنْ تطلبَها للزواج !
محمود قرني
الغُصنُ الذي نَبَتَ في شجرةِ العائلة
أكَلَه جنودٌ جائعون
العشبُ داسته أقدامٌ تجري
نحو أعداء نعرفهم جيدا
الحربُ سُبورةٌ سوداء
لا تصلح إلا لِتَدْوين أسماء الموتى
والقاهرة لا تحتاجُ إلى ملابس جديدة
كانت تحتاجُ إلى سماءٍ بيضاءَ
خاليةٍ مِن أنصاف الآلهة
الرعدُ الذي سمِعَه الشعبُ
كان يُعيدُ قراءةَ مَجَرَّةٍ أكلَها المُطَفِّفون واللصوص
والجالسون عِند رأسِ الخليج
ليقيسوا النبضَ للنهرِ العتيق
تأكدوا أنه ليس بِخير
المراكبُ التي تأتي مِن الجنوب مُحَمَّلَةً بالحُبوب
أوقَفَها المُحتلون
وحولوها إلى أطباقٍ مقلوبةٍ على وجهها .
المتصارعون على كعكةِ الفقراء
يتكاثرون كالذباب
وكَسَّارةُ العظام
لا تَكُفُّ عن العَويل .
المُؤنُ التي أتى بها الفلاحُون للعاصمة
سرقها رجالُ المُحْتَسِب
باعةُ الخبزِ والحلوى والمطاعم والمَشافي
جميعهم أغلقوا أبوابَهم
بَعد أنْ ثقبَ المُحتسِبُ أُنوفَ الجزارين
وعلَّقَ بها قطعةً
مِن اللحم
لمَّا كانوا يذبحون نِعاجا هزيلةً
ويبيعون الناسَ عِظامَها
ولا يبعثون إليه بنصيبِ لصوصِه
القاهرةُ تخلعُ مَفاتِنَها في يومٍ عاصفٍ
وتحاول أنْ ترفعَ الليلَ عن حاجِبَيها
لكن الشروقَ لمْ يأتِ إلا بمئاتِ الجرحى مِن الميدان
الناسُ هنا يسيرون مِثل جماجمَ أكلتها النيران
كأنهم ينتظرون قيامةَ آخرِ الزمان
"الشيخ محمد عليش ، وحسن العدوي ، والإمام أبو العلا الخلفاوي "
يَقْضُون بِمُروقِ الخديوي
لأنه انحاز لِجيشِ الاحتلال
" العُرابيون " المُتجهون لقصر
عابدين
كانوا يَرْكبون خيولَهم
يعْبُرون بين السُوقَةِ والرِعاع
فيهتفُ الناسُ بِصيحاتِ النصر
أمَّا الذين يكنِزون العَلائِفَ
ويحتكرون أقواتَ الناس
فتم ربطُ أعناقِهم
وقَطْعِ شحمةِ آذانِهِم
لكن الرُسُلَ الذين جاءوا بأخبار الحرب
كانوا يبحثون عن مَصَارِفَ للحزن والانكسار
فأطفأ الناسُ المشاعلَ
وانتظروا الموتى مَتْبوعين بالصرخات والعَويل
الأَشْرافُ والفلاحون والعُمَد والمشايخ
الذين أرسلوا لعرابي الجنود والمؤن
ينتظرهم الآن حكمٌ بالإعدام
كانت الرؤوسُ التي ترتدي كابَ الإمبراطورية البريطانية
قد أسكَتَتْ ، ببنادِقِها ، صوتَ الأَرْغُن
لكن الزعيم كان قد قال كلِمتَه
فشقَّتْ قلْبَ الأصداف
وأحجارَ البازلت
كما اهتزتْ لها أبدانُ الزُرَّاعِ والصُنَّاعِ وأهلِ الخُطوة
كان الخائِنون الذين اختبأوا في الأقْبِيةِ
قد غادروا أقبيتَهم
لِيشموا الهواءَ في أَفْنِيةٍ خَلَت مِن ثُوَّارِها
ومع ذلك كانوا يَحْتَمون بِكِلابِ الاحتلال
بعد أنْ حصلوا على نِيشان الإمبراطورية
الضباطُ الشراكِسَةُ كانوا قد خرجوا
أيضا من مخابئهم
وهم يقولون :
إن اللهَ خلَقَ الأعلى والأدنى
خلق السيدَ والعبدَ
ومِن حكمته أنْ يبقى العبيدُ عبيداً
كان " عرابي " قد أعلنَ الهزيمة
فساقته سلطاتُ الاحتلال
إلى " قُشْلاق"
العباسية
أما الجنرال الإنجليزي فقدْ ألجَمَ لسانَ
عرابي
كما قطعَ لسانَ المُحتسِب
بعد أنْ سرق بيوت النصارى ومنعهم من ركوب الخيل
علَى ساحل بُولاق
هتفَ آلافُ الناسِ
ضد المُحتسب وضد المُحتَلين
فأسكَتَتْهُم كرابيجُ الهجَّانة
بعد أنْ أسمَعُوهم مِن القولِ أفْحَشُهُ
فتفرقوا
وصوتُ الهزيمةِ يُعَمِّقُ مَذَلتَهُم .
بعد عشرين عاماً مِن هذا التاريخ
عادَ الزعيمُ مِن مَنْفاه
حزيناً
كدمعةٍ يحبِسُها الكِبرياء
مريضاً ..
كقائدٍ خانَته يُمْنَاه .
في الميدان
كنتُ أضعُ يدي علَى جانِبي الأيمن
وأشعرُ ببعض الأَلَم
نتيجةَ جِراحةٍ غائرةٍ بالكبد
اقترب مِنِّي رجلٌ ذو سحنةٍ إنجليزية
كان يتحدثُ العربيةَ بِطَلاقة
عرَضَ الرجل علَّيَّ المُساعدة ، فشكرتُه على ذلك
وفهمتُ أنه هنا كغيره
تمثيلاً لِبقايا الكُلونيالية
ولأسبابٍ لا تخلو مِن حُلمٍ أثِيريٍ
باستعادةِ مُستعمَراتِها القديمة
وأنًّ حاكِماً ما
ربما تأتي به الثورةُ
يستطيع أنْ يؤلفَ مِن أجْلِهم
حكاياتٍ ضاحكةٍ لتسليةِ وَحدَتِهم
في بلادٍ لازال لَحْمُها بين أنْيابِهم .
تحدثنا عن الثورة
وعن هُتافات الثوار
وانتظارِهِم قَمَراً يهدُونه لأمةٍ أكَلَها ظلامُ القُرون
ويدفنونَ معه وجوهًا مَعْطوفَةً علَى الخَراب
أعمدةُ الإنارةِ تبدو كَقَناديلَ لحريةٍ مَعْطُوبة
وساحةُ الميدانِ وردةٌ عذراءَ لَوَّثَها الرصاص
اللِحَى التي تتكاثرُ بيننا تبدو كخنجرٍ في خاصِرَةِ الثورة
لَمْ نكن نرى الغروبَ
وكُنا نعرفُ أنه عندما يأتي
سريعاً ما سَيَسْحَقُه الليل
العشيقاتُ والعشاقُ يُعِيُدون تعريفَ الحُب
كأنه كان مَسِيحاً مصلوباً
حَرَّرُوه مِن خِيانةِ الرِفاق
وَليِمَتُنَا كانت تَسَعُ الملايين
ومائدةُ البلادِ كانت تُشبِه القمرَ في كاملِ اسْتِدَارَتِه
أقولُ للأرضِ تَعَالي إلى هُنا
أنتِ الآن في بُرج العَذْرَاوات
فلا تَمْضُغي فرحتَهم بأسنانِك الحادة
قَطَعَني الرجلُ قائلا :
لكَ الحُلمُ وَلَنا الحقيقة
أنتمْ تعرفونَ التاريخَ
لكن غَيركُمْ مَن اكتشفَ قانونَ الحركةِ في الزَمَن
النِضَال في تلك الساحاتِ
يبدو كَزَئِيرٍ في كُوبٍ فارغ
لذلك فإنَّ القِشْرةَ المُتَمَدِنَةَ مِن هذا العالم
ليست هنا
والحضارةُ ليست مِيراثا جِينِياً
هذا ما يقوله عُلماءُ ما بعدَ التاريخ
أمَّا علماءُ ما بعد الإنسان
فيذهبون بعيدا
حيث يُمكِنُ للتكنولوجيا أنْ تُنجِبَ زرافةً جميلةً
سوف تَرُوقُ لِرَجُلٍ مَا فيَطْلُبُها للزواج
وَلِمَ لا
فقد تجاسَرَ فنانٌ يحتقِرُ الماضي
وكتبَ علَى فِنجانِ " دافِنْشي " :
" أنا أتَسَوق إذن أنا موجود "
أنتمُ الآن تتبادلون الصورَ والنِكَات
عبر مئات الأميال
لكن هذا لا يعني أنكم تجلسون مع العالمِ
علَى الأريكَةِ نفسِها
نَعَم .. حديثي ربما كان مُثِيرا للسُخْطِ
لكنني لا أتمنى أنْ يكون مُثيرا للغضب
فدَعْني أسعدَ بإهدائِك ميدالية
تحملُ شِعارَ الإمبراطورية البريطانية
فقلتُ له :
دَعْ مِيداليتك في مكانها
فربما هي المِيدالية ذاتها
التي مَنَحَتها الإمبراطوريةُ كَمُكافأةٍ
لِمَنْ خانوا تلك البلادِ قبل عشرات السنين .
عند ذلك أنهى الرجلُ حديثَه
لكنني لَمْ أَتَبين ما إذا كان عليَّ أنْ أتوجه مِن فَوري
للبحث عن المستقبل
أمْ أنَّ مخالبَ الرجل
أصابتني بِجُرحٍ غَائرٍ
أقْعَدَني عن الحِراك
وما استطعتُ قولَه
للرجل
أنَّ حديثه ربما لا يستحقُ الثِقَة
لكنه يستحقُ الانتباه
لكنني لا أعرفُ لِماذا
تذكرتُ ، وأنا استمعُ إلى هذا الدَرْس
أن ه عندما باركَتِ الكنيسةُ صعودَ نابليون إلى عَرْشِ فرنسا
،
قال شاعرٌ مَلْعون * :
" إني لَأعْجَبُ كيف لِشعبٍ
أنْ يأخذَ درساً مِن كَلْب " !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق