دليل آخر حول رامبو/ محاولة للاقتراب من قصيدة "النائم في الوادي" / خضير النزيل

 دليل آخر حول رامبو:

محاولة للاقتراب من قصيدة "النائم في الوادي"

خضير النزيل




النائم في الوادي (Le Dormeur du Val)، من أشهر قصائد رامبو، هذه المرثيّة الرعويّة التي تُعّلّم في المدارس الفرنسيّة، عن اقتحام الموت غير المرحب به للحياة، وعن فظاعة الحرب. وهو ما يقدّمه آرثر رامبو هنا في صورتين متناقضتين .حيث يقارن جمال الوادي أو هذا"المُنخَفَض الأخضر الذي يغنّي فيه نهر " بوحشية الحرب وعبثيتها.
في البداية تتحدث القصيدة عن جندي يافع ينام وسط الطبيعة بسلام.في وادٍ ريفي. المكان أخضر، هناك عشب طويل، هناك زهور زرقاء، وهناك أيضاً بعض الغيوم في السماء، الشمس مشرقة. ، يبدو الجندي بين زهور الجرجيرِ الزرقاء النديّة وكأنّه ”يأخذ قيلولة“. ولكن في السطر الأخير، تنكشف الحقيقة القاسية. ”هناك ثقبان أحمران في جانبه الأيمن.“
رغم أن هذه القصيدة بسيطة جداً و”تقليدية“جداً لكنها تصدمنا بنهايتها البودليريّة غير المتوقعة ، نعم لقد تعلّم رامبو من بودلير كيف يمكن للشاعر أن يصدم القاريء، وأكثر من اللازم عند مواجهة كل ما هو غير متوقّع، وإذا ما انتبهنا إلى القصيدة وأعدنا قراءتها بعد أن تجاوزنا صَدمة سطرها الأخير، يمكننا أن نعود ونرى أن النهاية لم تكن مهيأة لنا، حتى أن المفتتح، وهو المقطع الاستهلالي الأجوف المنفصل عن العالم، قد يكون تمهيداً لهذه النهاية. بالتأكيد، فالمقطع الثاني حيث الجندي ورأسه في الزهور وهو ”شاحب“ يوحي عندما نعود إليه بأن هناك شيء ما غير طبيعي. وبالتأكيد فإن المقطع الثالث حيث تبدو قدماه - يا لها من صورة غريبة! -وهما تستريحان بين نباتِ الدّلبوثِ في العادة يتجنب المترجمون هذه النبتة المحرجة. إذ كيف يمكن في هذه القصيدة الرعوية الهادئة، البعيدة عن عالم الحدائق المتحضر، أن تعبث قدماه بهذه السنابل الطويلة من الزهور، وهي زهور تحيلنا إلى الحدائق والمزهريات وليس بالوديان الريفية؟ ثم هناك التشبيه التالي - إنه يبتسم، ولكنها ليست مجرد ابتسامة الرضا والفرح، ، بل إن الجندي النائم يبتسم ”كما يبتسم الطفل المريض“.
ثم تُخاطب الطبيعة مباشرةً: تقول الفاصلة للأم الرقيقة أن ”تحضنه بدفء“ لأنه ”يشعر بالبرد“. كيف يمكن أن يكون برداناً وهو نائم في الشمس؟ لماذا يتم استحضار الطبيعة ومخاطبتها فجأة؟
في بداية المقطع الأخير، لا يستجيب للروائح. ولا حتى جسديًا: وما عادت العطور تُرَجِف منخرية"ومع ذلك لا بد من وجود الكثير من ”العطور“ في يوم مشمس تتفتح فيه الأزهار. إنه غافل: جسده لا يستجيب للإشارات الطبيعية. يمكننا أن نرى كذلك الانفصام بين العالم البشري والعالم الطبيعي. أربع مرات الشمس مشرقة، والنهر يتحرك ويغني، والزهور (نوعان!) تتفتح، والطبيعة تُرى كأم قادرة على الاحتضان وجلب الدفء. تستمر الطبيعة، حتى بعد أن تتوقف حياة الإنسان. يبرز السطر الأخير هذا الانفصال.
كان رامبو معجباً جداً ببودلير. وبودلير شاعر صدمة عظيم، وربما كان أعظم شعراء الصدمة الذين كتبوا على الإطلاق. لكن هناك شيء مختلف جداً في صدمة بودلير وصدمة رامبو. بودلير يعمل في عالم جمالي، وهو يصدم باستمرار وعينا السهل بالجمال والملاءمة. أما في قصيدة رامبو هذه، فالصدمة ليست جمالية: إنها صدمة أن نرى ما هو أمامنا في الواقع. بعد أن ضللتنا حواسنا وكأننا نرى ولا نرى في الحقيقة.
قلت أن هذه قصيدة عظيمة عن عناد الموت، عن اقتحام الموت غير المرحب به للحياة، وعن فظاعة الحرب. حيث يظهر لنا الجندي الميت مباشرة أن هناك عواقب للحرب، عواقب لا نحبها ولا نتوقعها. وكل ذلك وسط عالم موجود في الخارج، ولا يريد لنا أي ضرر - لكنه لا يساعدنا أبداً. الشمس ”تشرق . . . تتلألأ بالأشعة ...أنّها تشرق علينا أيضاً نحن الذين نحدق في مشهد هذا الجندي النائم بينما هذه الشمس نفسها تضيء لنا من جنبه الأيمن "ثقبان أحمران"، جروح الرصاص هذه التي تنتهي بها هذه السونيتة أو الصدمة، من دون أي تعليق أو رد من قبلنا وكأننا ما عدنا نرى ما هو موجود، بل ما نتمنى لو كان موجودًا: جندي نائم تحت الشمس. بينما هو في الواقع ميت، مثل إعلان فاضح لبقايا قسوة الإنسان على أخيه الإنسان.

(النائم في الوادي
آرثر رامبو
ترجمة: كاظم جهاد)

هوَ مُنْخَفَضُ خُضرةِِ يُغنّي فيهِ نَهر
يُلصِقُ بالعُشبِ كيفما أتّفقَ نُثارَ فضّة
ومن على الجبل ِ الأشمِّ تبعثُ بِلألائها الشّمس:
هوَ وادِ صغيرٌ بالأنوار يرغو.
جنديُّ يافعٌ، فاغرُ الفم، مكشوفُ الرّأس
سابحُ العُنقِ في الجرجيرِ الأزرقِ النديّ،
ينامُ مضطجعاً في العشبِ، تحت غيمة،
شاحباً في سريرهِ الأخضرِ حيثُ ينهمر النّور.
في نباتِ الدّلبوثِ قدَماه،راقدٌ هو.
يبتسمُ كما يبتسمُ طفلٌ عليلٌ، إنّهُ يغفو:
هَدهديهِ أيّتها الطبيعةُ بِحرارةِِ: هوَ يَشعُرُ بالبَرد.
ليسَ تُرجِفُ العطورُ منخرَيه،
راقدٌ هوَ في الشّمس، يدهُ على صدره
المتطامِنِ. ولهُ في جَنبهِ الأيمنِ ثقبانِ أحمران.


تعليقات