إشارات المرور نجوم ثلاث / جيهان عمر

إشارات المرور نجوم ثلاث

جيهان عمر


إشارات المرور نجوم ثلاث - جيهان عمر - بيت النص


"لن تكتمل حياة الشعراء سوى بالتخلص منها". لا أدري من قائل هذه العبارة، ربما أنا من قالها؛ لهذا أتتبع أثر الشعراء الذين أنهوا حيواتهم. أحاول أن أمسك بخيط البداية كأنها جريمة قتل أريد كشف غموضها.

يطمئنُّ المحقق لو تأكد أنها ليست جريمة، لأرتبك أنا.. قد تكون كلمة مؤلمة، كلمة واحدة يلمع نصلها على أرضية الغرفة باتت ليلتها هناك..
لن تكتمل فكرة الشعر إذن سوى بالقصيدة الأخيرة. قبل التحليق التام، أقلب الصفحات، أقارن بين الطرق المختلفة، أشفق عليهم، أفرح لأجلهم، أعدل طريقة الموت.
لا أحب كيف ماتت سيلفيا، ليست ميتةَ شاعرةٍ أبدًا. ماتت كأي شخص عديم الخيال..
بينما أحب تحليق آن سكستون مع كأس الفودكا الأخيرة..
عربة حمراء مكشوفة..
عبور الجسر بدلالاته الانتقالية.. بعض الشعراء يعرفون كيف يذهبون، جربوا الانتقال حين حطموا الأبواب لمجرد الخروج رغم وجود المقبض قريبًا ولامعًا في متناول أيديهم.
ماتت سيلفيا بلاث في الثلاثينات، لم تبقَ لتشاهد تحوُّل جمالها.
لم تَرَ صندوق المجوهرات الذي تتسلمه المرأة في الأربعين، فتحب الحياة ثانيةً من دون مبرر هذه المرة.. اختارت آن سكستون الوقت المناسب للموت، الأربعينات تبدو قرارًا صائبًا..
أما لو طالت السنوات، فلا يجب أن نخاف من انزياح الجمال. فقد رأيت أمي وهي تزداد جمالأً كلما رق جلدها، حتى إنني أستطيع تتبع ممرات الحب في أوردتها عبر بشرتها الشفافة.
يمكننا أن ننشغل بتأمل الشعرات البيضاء كل يوم كلعبة جديدة أو أن نصنع القوارب الورقية من القصائد القديمة. الاستسلام أيضًا له طعم الحرية.
انتظر هنا على هذا الجسر، حرك قدميك كطفل، وراقب المتعة وهي تتدفق بالداخل كعسل مُصفّى.
لقد حلمتُ قبل الحادث بثلاثة أيام أن العربة تطير من فوق الجسر..
استيقظت وأنا معلقة في الهواء. لم أسمع صوت الارتطام، لكن الحادث لم يكن على جسر، خدعني الحُلْم ولم يتحقق بدقة، لكنني أحببت إشاراته المرئية كفيلم رديء.
في اليوم التالي، فتحت باب العربة بيد مرتعشة، وفي اليوم الثالث بعد أن نسيت الحلم تمامًا انقلبت العربة عدة مرات دون أدنى رغبة مني في إنهاء الحياة. مات كل من فيها، وبقيتُ أحدق في وجه الموت.
كنت أتأمل عربة الإسعاف من الداخل، حيث تتدلى يد أنجلينا من أثر غيبوبة لم تفِقْ منها،
انشغلتُ بتفسير موت كل واحد منهم على حدة، ثم سألني المسعف فجأة:
"هل احتسيتم الخمر مع هؤلاء الأجانب؟"
أجبته دون تفكير: "أنا لستُ آن سكستون يا عزيزي".
ظن الرجل أنني أهذي وأن عقلي قد تشوَّش من جراء الحادث، صرت الناجية الوحيدة..
وفكرت طويلاً في معنى النجاة. إنه الموت.. قصيدة الشعراء الغامضة، أُفلته بمرونة فائقة، كما أنني تعافيت والتأم ضلعي المكسور في وقت قياسي.
ربما لست شاعرة، ربما هذا هو الخطأ الذي عليَّ تعديله، فأنا أشاهد الحياة من مقاعد المتفرجين، أشاهدها كفيلم قديم أقف على حافته، لكنني أفضل مشاهدته حتى تتر النهاية.. أريد أن يبقى في الحياة لغز واحد لا نخرقه مثل بالون، أريده أن يذبل من تلقاء ذاته.
لن يعرف أحد كيف أسير، هذا الطريق غير المرئي يتسع أمامي،
إشارات المرور نجوم ثلاث تحدق من السماء. أتوقف أحيانًا حين أسمع وقع أقدام، لا أخاف..
بل أخطو نحو المجهول بخُطًى ثابتة.

تعليقات