لقد رأيتُ أياديَ سوداء
ريتشارد رايت
1
أنا أسود، وقد رأيتُ أياديَ سوداء، ملايينَ وملايينَ الأيادي السوداء
ومن بين الملايين من بالاتِ القطن والفلانيلا، رأيتُ أصابعَ صغيرةً سوداء
تتطلعُ إلى الحياة بشراهة، تتطلعُ بلا هوادة
أصابعَ صغيرةً سوداء تتلمس طريقَها إلى الحَلَماتِ السوداء، في الأثداءِ السود، للأمهاتِ السوداوات
أصابعَ صغيرةً سوداء تُمسك بقوة، باستحواذ، بدُمىً حمراءَ، وخضراءَ، وزرقاءَ، وصفراءَ، وبرتقاليةٍ، وبيضاءَ، وأرجوانية
تُمسك ببيوض الشوكولاته، بعِصِيِّ النعناع، بالحامض حلو، بلقيمات القاضي، بأكواز الآيس كريم، بالكَعَكِ المحلّى بالسكّر، بأصابعَ صمغيةٍ دبقة
تُمسك بالكُرات، بمضارب البيسبول، بالقُفّازات، بالخَرَزات الزجاجيّة، بالمُدْيات المطويّة، بالمقاليع، بالدوَّامات، وهي منتشيةٌ بلعبها ولهوها
تُمسك بالفلس، بالخمسة فلوس، بالعشرة فلوس، بالدرهم، وأحياناً، في عيد رأس السنة، أو عيد الفصح، أو عيد ميلاد لنكولن، أو عيد أيّار، تُمسك بدولارِ كاملٍ جديدٍ أخضر
تُمسك بالأقلام، بالمساطر، بالخرائط، بالدفاتر، بالكتب، براحاتٍ مبقعةٍ ملطخةٍ بالحبر
وتُمسك بالنَّرد، وورق اللعب، ورُبْعيّات الخمر، وعِصِيِّ البليارد، ولُفافات التبغ، والسجائر، وهي فخورةٌ ببلوغها سنَّ الرُّشد . . .
2
أنا أسود، وقد رأيتُ أياديَ سوداء، ملايينَ وملايينَ الأيادي السوداء
الأيادي المتعبة، الخرقاء، المقّرَّنَة، الملوَّثة، ذات الأظافر المُعَضْعَضة
الأيادي التي تَلَقَّفَتْها أحزمةُ المكائن السريعة، فاقتلعتْها وهشَّمتْها وطحنتْها
الأيادي المضطربة، التي ترتفع وتنخفض مع نبض المكائن، الأيادي التي راكمتِ الذهبّ للملَّاكين حتى تضخمتْ أموالُهم وٱنفجرت خزائنُهم
الأيادي التي كَوَّمَتْ أكداسَ الفولاذ، والحديد، والخشب، والحنطة، والشَّيلم، والشُّوفان، والذُّرة، والقطن، والصوف، والزيت، والفحم، واللحم، والفاكهة، والزجاج، والصخر حتى فاضتِ البضائعُ عن الحاجة
الأيادي التي ٱختطفتِ البنادق، وعلقتْها على أكتافِها، وسارتْ، وتحسستْ طريقَها داخلَ الخنادق، وقاتلتْ، وقَتَلَتْ، وأخضعتْ شعوباً كي تشتريَ البضائعَ التي صنعتْها الأيادي السوداء
ثم عادتْ لتكدِّسَ البضائعَ فوق البضائعِ حتى فاضتِ البضائعُ عن الحاجة
عندها قَبَضَتِ الأيادي السوداء، وهي ترتجف أمام بوابة المعمل، قبضتْ على الورقة الرهيبة، ورقةِ الفصل من العمل.
فراحتِ الأيادي السوداء تتسكع عاطلة، وتدلَّتْ خاوية، وأصبحتْ ناعمة، وأصبحتْ ضعيفة، وأصبحتْ عظميّة من شدة العطالة ومن شدة الجوع
وأصبحتِ الأيادي السوداء عصبيّة، وأصبحتْ نديَّة بالعرق، وٱنفتحت وٱنغلقت في ألم، وفي شك، وفي تردد، وفي حيرة . . .
3
أنا أسود، وقد رأيتُ أياديَ سوداء، ملايينَ وملايينَ الأيادي السوداء
تمتدُّ مترددةً، في أيام الموتِ البطيء، إلى البضائعِ التي صنعتْها بأيديها، لكنَّ الملّاكين أنذروها أنّ البضائعَ ليست لها
أنَّ البضائعَ مِلْكٌ خاص
فٱنتفضت الأيادي السوداء، ودافعتْ عن حقها في الحياة، وسال دمٌ، لكن الملّاكين الساخطين قرَّروا أنَّ ذلك، أيضاً، كان خطأ
وشعرتِ الأيادي السوداء ببرودة قضبان الحديد، قضبان السجن الذي صنعتْه بأيديها، وٱندفعتْ في يأسٍ وجرَّبتْ قوَّتَها
وعجزتْ عن لَيِّ القضبان، أو كَسْرِها
وقاتلتِ الأيادي السوداء، وخَرْمَشَتْ بأظافرها، وصَمَدَتْ، ولكنَّ الأيادي البيضاء أمسكتْ بها ووضعتْ فيها القيد
وفي رجاءٍ أخرسَ عقيم، رفعتِ الأيادي السوداء راحاتِها نحو الوجوهِ البليدة، الوجوهِ المتوحشة للغوغاء الراتعة في ساديَّتها
وتقبَّضتِ الأيادي السوداء، وأنشبتْ مخالبَها، وناضلتْ في يأس لتُرخيَ الحبال الملتفة حول الحناجر السوداء
ولوَّحتِ الأيادي السوداء، وضربتْ في رعب أعمدةَ اللهب الشاهقة التي طبختِ اللحمَ الأسود، وحوَّلتْه إلى فحم . . .
4
أنا أسود، وقد رأيتُ أيادي سوداء، ملايينَ وملايينَ الأيادي السوداء
ترفع قبضاتِها الثائرة، جنباً إلى جنب، مع القبضات البيضاء للعمال البيض
وذات يوم - وهذا هو ما يبقيني حياً –
ذات يوم ستكون هناك ملايين القبضات
ذات يومٍ أحمرَ ستتدفق ملايينُ وملايينُ القبضات نحو أفقٍ جديد.
---------------------------------------------------------
ريتشارد رايت (1908- 1960) روائي وكاتب قصة وشاعر أمريكي من أصول أفريقية. ركز في كتاباته على التمييز والعنف العنصريين في المجتمع الأمريكي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. من أعماله روايتاه (ابن البلد) و(الصبي الأسود)، وكتابه القصصي (ثمانية رجال)، وكتابه الشعري (هايكو). ويعتقد بعض النقاد أن كتاباته ساهمت في تغيير العلاقات العرقية في أمريكا.