مختارات من شعر تشارلس سيميك / ترجمة حيدر الكعبي

 

مختارات من شعر تشارلس سيميك

ترجمة حيدر الكعبي


مختارات من شعر تشارلس سيميك - بيت النص


ضيف الشرف


كان لي دور قصير، صامت
في فيلم دموي،
كنتُ فيه أحدَ الهاربين من القصف.
وعلى البعد كان قائدُنا العظيم يصرخ
مثل ديكٍ من إحدى الشرفات
أم لعله ممثلٌ كبير
يمثّل دورَ القائد؟
قلتُ لأطفالي: هذا أنا
المحصور بين الرجل
الذي يرفع يديه المضمدتين
والمرأة العجوز بفمها المفتوح
كأنها تعرض علينا سِنَّها
شيء مؤلم حقاً. لقد أعدتُ الشريط مئة مرة
ولم يتمكن الأطفال من رؤيتي، ولا مرة
في ذلك الحشد الرمادي الهائل
الذي يشبه أي حشد رمادي آخر.
هيا اذهبوا ناموا، قلتُ لهم أخيراً
أنا متأكد أنني كنت هناك
لم يكن لديهم وقت ليعيدوا التصوير
كنا نركض والطائرات تَكشِط شعرَ رؤوسنا
ثم اختفت الطائرات، ووقفنا دائخين في المدينة المحترقة
لكن هذا لم يُصوَّر في الفيلم طبعاً.


وظائف شاغرة

يطلبون سكّيناً
فآتيهم ركضاً
يريدون خروفاً
فأقدم نفسي بوصفي خروفاً.
آسف جداً، جداً،
فهم يريدون سُمَّاً للجرذان
لا، بل يريدون راعياً
لقطيع الأرامل السود.
ولحسن الحظ، فقد جلبت معي
رسائل التوصية اللعينة
وشهادة وفاتي
موقعة ومختومة من كاتب العدل.
لكنهم غيروا رأيهم مرة أخرى
الآن يريدون طائراً غريداً، والقليل من الربيع
يريدون امرأة
لتصوبن خُصَاهم وتقبِّلها
فأسرعتُ أؤكد
أن هذه إحدى مواهبي العديدة
ورحت أزقزق وأصفِّر كقفص مليء بالطيور
فارشاً لهم خدَّي مؤخرتي.


تساؤلات آخر الليل

هل قدَّمتَ نفسكَ لنفسكَ
كما يفعل زائر غريب يطرق بابكَ؟
هل استطعتَ العثور في غرفتكَ على كرسي
لكل نفس من نفوسكَ المشاكسة العديدة
لكي تنسحب داخل أفكارها ذاتها
أو تحملق في الفراغ كما لو كان مرآة؟
هل لديك عود ثقاب يمكنك إشعاله
لتجعل ظلال نفوسك ترقص على الجدار
أو تطفو كالأحلام على السقف
كما تطفو أوراق الشجر في أصائل الصيف
قبل أن تلقي التحية بانحناءة عندما يُسدَل الستار
بينما يحترق عود الثقاب حتى يَبلُغَ اصبعَك؟


قراءة التاريخ

أحياناً، وأنا أقرأ
هنا في المكتبة العامة
تُتاح لي لمحةٌ
على المحكومين بالإعدام
قبل قرون
وعلى من أعدموهم
فأرى كلَّ وجهٍ شاحبٍ أمامي
مثلما يراه
القاضي حين يُصْدِرُ حكمه
وأَعْجَبُ لفكرةِ أنني
لم أكن وقتَها قد وُجدتُ بعد.
وبعينين مغلَقتين، يمكنني أن أسمع
طيورَ المساء
إنها ستَسكُت بعد قليل
والليلةُ الأخيرة على الأرض
ستبدأ
بكل ما تَزْخَرُ به من حزن.
يا لَسماء الفجر الباكر
ما أوسعَها، ما أشدَّ ظلمتَها، ما أعصاها على الفهم
لأولئك المقتادين إلى الموت
في عالمٍ لا وجودَ لي فيه
ومع ذلك، يمكنني أن أراقب
الظَّهْرَ المَحْنِيَّ لشخصٍ ما
شخصٍ يمشي مبتعداً عني
يداه مربوطتان
رأسُه الأشيبُ ما زال على كتفيه
شخصٍ، في ذلك القليل الذي تَبَقَّى له من حياة،
يعرف بطريقة غامضة شيئاً عني
وقد يظنني الله
أو الشيطان.


ظلال السجّانين منعكسة في السماء

لم أُعِرْهم اهتماماً أبداً
مرتْ سنوات طويلة. سنوات طويلة جداً
واليوم كنت أجلس على كرسي طبيب الأسنان
حين دخلتْ مساعِدتُه وتظاهرتْ بعدم معرفتي
ففتحتُ لها فمي في طاعة مطلقة.
كنت أختبئ معها في الأعشاب على ضفة النهر لأداعبها
وطلبتُ منها مرة أن تزلق حمالة النهدين
كانت السماء تزداد دكنة، ثم سمعنا الرعد
فأزاحت الحمالة أخيراً، وسقطتْ أولى قطرات المطر الكبيرة
على حَلمتيها السمراوين.
كان ذلك أجمل مما تفعله الآن في فمي
وأنا ألوي قسماتي ألماً، منتظراً منها غمزة
منتظراً أن تنفجر بالضحك على ذكرانا نحن الإثنين
ونحن نزرر بناطيلنا، ونركض منقوعَين بالمطر
عابرَين سجن الولاية بحراسِه المسلحين فوق الأبراج
وظلالِهم المنعكسة في السماء.


في دكان الخردوات

سلة صغيرة من القش
مليئة بأنواط الشجاعة
من حروبٍ عادلة قديمة
لا أحدَ يتذكرها.
قَلَّبْتُ أحدَها بيدي
لأتحسس الدبوس
الذي غُرز ذات يوم
في صدر البطل المنتفخ.


الدرس

يخطُر في بالي الآن
أنني طَوالَ السنوات الماضية
كنتُ تلميذاً أبلهَ
لمعلمٍ نصّاب.
كنتُ أدوِّن بهمَّة
وبتبجيلٍ أحمق
ما كنتُ أَحْسَبُه
قراراتِه الحكيمة
بشأنِ حياتي على الأرض
وكالببغاء
كنتُ أخربش تواريخَ الحروب والثورات
وأفرح لموت من عذَّبوني
حتى أنني ٱقتنعت
أنهم يتناقصون.
بدا لي بصورةٍ ما
أنَّ معلمي كان يكشف شيئاً فشيئاً
أنَّ كلَّ ما قيل لي
كان حَبْكةً مُحْكَمة
لروايةٍ عن العيّارينَ والشُّطَّار
تُروى أقساطاً
وأنَّ آخِرَ صفحاتِها
سوف تُترَكُ برُمَّتِها
لإيحاءاتِ الطبيعة الشاعرية.
ولكنني لسوء الحظ
صِرتُ مع الزمن
أعجز عن نسيان أتفهِ التفاصيل
ويوماً بعد يوم
رُحتُ أطيل التوقفَ عند البدايات:
الجنديّ الحليق الرأس
الذي كان يبول
على سياج بيتنا
ظلال الأشجار على السقف
اليوم الذي لم نجد فيه
أنا وأمي
شيئاً نأكله
لم أستطع أن أنسى
قطارَ السجن
الذي كان يوقظني كلَّ ليلة
ولا أن أُخرِجَ تلك الصافرةَ
وذلك الهديرَ
من رأسي . . .
والآن في غرفة الدراسة المتقشفة هذه
المؤثثةِ بأرقي
وعلى منضدة الكتابة المكونة من ركبتيّ
وللمرة الأولى في هذا التدريب الطويل المرعب
أنفجر بالضحك
سامحوني
فحين أتذكر عمي وهو يهجم على أحد السواتر
برمّانةٍ محليةِ الصنع
لا أتمالك نفسي من الضحك.

 
الطفل العبقري

نشأتُ محنيَّ الظهر فوق رقعةِ شطرنج
عاشقاً لكلمة "نهايات"
كان القلق يرتسم
على وجوه أبناء عمي
فبيتنا الصغير
قريبٌ من مقبرةٍ رومانية
والطائرات والدبابات
تهز ضلفات نوافذه
الرجل الذي علمني الشطرنج
أستاذ فلكيٌّ متقاعد
ولا بد أن هذا كان في عام 1944
كانت قطع الشطرنج السوداء شبه متقشرة
والملك الأبيض مفقوداً
وعلينا أن نعوضه
يقولون، وأنا لا أصدق هذا،
إنني في ذلك الصيف
شَهِدتُ الرجالَ يُشنقون
على أعمدة التلفونات.
أتذكر أن أمي كانت تَعْصِبُ عينيّ كثيراً
وكانت لها طريقتُها الخاصة
في تغطية رأسي خطفاً بمعطفها
وكما قال الأستاذ الجامعي
ففي الشطرنج أيضاً
يلعب المحترفون معصوبي العيون
أما الكبار منهم فيلعبون
على عدةِ رقعٍ في آنٍ واحد.

 
معمل اللُّعَب

هنا تعمل أمي
وهنا يعمل أبي أيضاً
في الدوام الليلي
في خَطِّ التجميع
يلفان اللُّعب
يفحصان النوابض
العسكريون السبعة
في لُعبةِ فصيل الإعدام
يسددون البنادق
ثم يخفضونها بسرعة.
حين يطلقون النار
يسقط المحكوم ثم ينهض
يسقط ثم ينهض
وعيناه معصوبتان بالصبغ.
لُعبةُ حفاري القبورِ
لا تعمل جيداً
الحفَّارون مساحيهم ثقيلة
مساحيهم ثقيلة جداً.

 
الميكانيك للجميع

المشاكل الكبرى التي تواجهك
وأنتَ تحاول أن تصلب نفسك
بلا مساعدين، ولا بكرات، ولا عجلات مسننة
أو أيةِ معدّاتٍ ميكانيكية ذكية أخرى—
وأنت في غرفة صغيرة، عارية، بيضاء
وليس معك غيرُ كرسيٍّ مخلخلِ السيقان
لتصعدَ به إلى السقف
وغيرُ حذاءٍ لتدقَّ به المسامير
ولا داعي للقول إنك عارٍ بالمناسبة
لكي تبدو أضلاعُك وعضلاتك
وقد ٱنتهيتَ من تسمير يدك اليسرى
وبقِيَتِ اليمنى لتمسحَ بها العرق
ولتلتقطَ بها عقب سيجارة
من المنفضة الطافحة
لكنك لا تكاد تصل إلى الأرض
والليل، الليل الذكي، يوشك أن يحل.


فندق الأرق

أحبُّ هذا الجحر الصغير
الذي يطل شباكه على حائط الطَّوب
حيث أسمع، في ليالٍ معدودة من الشهر
صوت بيانو يأتي من الغرفة المجاورة
ثمة عجوز مُقعد يأتي ليعزف أغنية
إسمها "سمائي الزرقاء"
لكنَّ الفندقَ في معظم الأحيان هادئ
لكل غرفة من غرفه عنكبوتها الخاص
عنكبوت بمعطف ثقيل يصطاد الذباب
بشبكته المصنوعة من دخان السجائر وأحلام اليقظة
الجو مظلم
حتى أنني لا أستطيع أن أرى وجهي في مرآة الحلاقة.
في الخامسة فجراً
أسمع فوقي صوت أقدام حافية
إنها العرَّافة الغجرية
صاحبة الدكان في ركن الشارع
ذاهبة لتبول بعد ليلة حب
ومرة سمعتُ طفلاً ينحب
كان قريباً جداً
حتى تهيًّأ لي أنني أنا الذي أبكي.


الأضواء مشتعلة في كل مكان

يجب ألا تقول للإمبراطور إن الليل قادم
فجيوشه تطارد الظلال
وتعتقل طيور السُّبَد والسُّمْنة
وتشعل النار في القرى.
وفي العاصمة، راحوا يصادرون الساعات
ويحرقون الكفار
ويرسمون مناظر الشروق فوق السطوح
لكي يمكن لأحدنا أن يقول للآخر صباح الخير.
وجيء بالديك مغلولاً لكي يصيح
وأُجبرتِ الأزهارُ في الحدائق على أن تبقى متفتحة دائماً
ومع ذلك، ما زالت هناك لطخات مظلمة تنتشر فوق أرض القصر
لا يمكن لأكبر قدر من الحك والفرك أن يمحوها.


مزمور

لقد ٱستغرقتَ وقتاً طويلاً، أيها الرب
لتقرر ما الذي ينبغي فعلُه بهؤلاء المجانين
الذين يديرون العالم. إن ذراعهم طويلة
ومخالبهم حادة. وربما كنتَ تخشاهم.
أحدُهم ألقى ظلَّه فوقي
فأصابتْني الرعدة. وصرتُ أتأرجح
بين الرعب والغضب الأخرس
في زاويةٍ في غرفة ٱبني.
بحثتُ بعينيَّ عنكَ، أنت الذي لا أؤمن بك
كنتَ مشغولاً بتجميل الأزهار
وبالحملان التي تركض خلف أمها
وربما لم تكن تفعل حتى هذا؟
كان الوقت ربيعاً. وكان القَتَلة مليئين
بالتصميم والمعنويات العالية، وكان أصحابُك من رجال الدين
في صفِّهم. لا همَّ لهم سوى التأكد
من أن آخر كلماتِنا لن تتضمن شتيمة لك.


البحث عن المتاعب

لم أكن أعرف أنني كنت أفعل هذا
كنت أعتقد أنني أعيش
شيخوخة طيبة، هادئة
أربت على رؤوس الأطفال
وأطعم الحمام في الحدائق.
لكن راحة بالي انتهت
في الليلة التي وجدت فيها رجلاً نائماً
على عتبة بيتي
قلت لنفسي: "كيف يمكن هذا؟"
وخطوت فوقه بحذر شديد.
ثلاث مرات نهضت ليلاً
ومشيت على أطراف أصابعي إلى الباب
محاولاً أن أسمع تنفسه
وفي الفجر أخذتُ إليه كوباً من القهوة
فلم أجده. كان قد نسي قبعته.
قلت لنفسي إنه لم يذهب بعيداً
فخرجت بثياب النوم وبنعليَّ أبحث عنه
في الشارع المغطى بالثلج
متلفتاً لألقي نظرة على عتبات البيوت
منادياً: "يا سيد، يا أخي."


اِبنةُ قاطعِ الرؤوس

إنني أنتظر أن تأتي
بعد أن تنتهي من فَرْكِ الدم
عن قميص أبيها
إنني أسمع قدميها الحافيتين
على أرض الزنزانة الصُلبة
وبينما أفكر في الطريقة
التي أَشْغَلُ بها يديَّ
وهي تخطو خارجةً من تنورتها
رحتُ أشرح لها بين القُبَل
كيف أنني، بعد أن هَدَرْتُ حياةً كاملة
أناضل من أجل قضايا خاسرةٍ عديدة
أجد السعادةَ الآن بين ذراعَي
أجملِ بنات الموت
ملبياً حاجاتِها وقتَ النوم
ما دام لي رأسٌ على كتفيَّ.


بين زواري المتأخرين

هناك أيضاً بقرة
قَلَعَ الجنودُ عينيها بسكين
وأشعلوا قَشَّاً تحت ذيلِها
لكي تركضَ عمياءَ
في حقل الألغام
وفيما بعد في رأسي
بين الحين والحين.


الحرب

إصبعُ امرأةٍ مرتعش
يَمُرُّ على قائمة القتلى
مساءَ هبطَ الثلجُ أولَ مرة
البيت بارد والقائمة طويلة
وأسماؤنا جميعاً فيها.





تعليقات