المولودة في الكساد الكبير
إبراهيم البجلاتي
(١)
المولودة في "الكساد الكبير"
رآها أبي
بعد الحرب العالمية الثانية
واقفة أمام بيت أبيها
فعاد مسرعا لأمه قائلا:
زوجوها لي
لم يكن الخيار بين نعم ولا
كانا فردين صغيرين
في عائلة واحدة
كبيرة
من الفاشيست
والإنطوائيين
(٢)
صباح الخير أيها الحزن الطويل
لا تسل كيف نبت الشوك في سريرها
ولا تسل كيف انتفخت بطنها
سنة وراء سنة
بالعيال
ولا تسل ـ أيضا-
كيف فاض النهد
بكل هذه المحبة
والحليب
(٣)
الحياة الآن
مربع صغير
حرفيا
مربع أخير
تجلس القرفصاء فيه
إذا كانت غاضبة
أو تنام في وضع الجنين
لا تعرف أحدا
لا تنتظر شيئا
فيما ننتظر نحن
نهاية الليل
والنسيان
(٤)
عيناها كبيرتان
كأنهما عينا أبيها
تنقصها مظلة بيضاء للصيف
وسوداء للشتاء
أو بالكاد تنقصها عمامة
والقليل
القليل جدا
من النمش
والكبرياء
(٥)
أصابع كفها اليسرى
طويلة
نحيلة جدا
ومضمومة
على نظارة طبية
على زجاجها غبش
لا ينقشع بالغسيل
ذبابة كبيرة أمام عينها
وليس من بهجة في العمى
ربما ضرورة درامية
للفصل بين الناس والأشباح
أو بين المقابر
والبيوت
(٦)
حبتان ورديتان
في الليل
ومثلهما في الصباح
يحفظان اليأس
في مكانه
في غرفة الضيوف
أو تحت السرير
من هنا
ينهض العالم المفكك
في الفاصل بين الجرعتين
خائفا
فيما يسأل كل واحد نفسه
كيف كانت تبتتسم
وأين كانت تخبيء
كل هذا الغضب؟
(٧)
ولدت بقائمة طويلة من العيوب
لا ألوم أحدا عليها
- ربما ألوم الطبيعة أحيانا-
وليس هنا مقام شرحها
اعتقد أنني
كنت طفلا غاضبا
ومراهقا حزينا
ورث الغضب من أبيه
والحزن من أمه
الآن
وأنا اضع حبتي الدواء في كفها
أعرف كم كنت مخطئا: لم أرث الحزن من أحد
وكان كلاهما غاضبا
ليس هذا مزعجا جدا
المزعج أكثر
أنني في هذه السن العالية
أشعر بخلل في النمو العاطفي
يجعلني أخلط دائما
بين الحزن والغضب
ولا أميز كثيرا
بين الحب
والكراهية
(٨)
قبل ثلاثة أعوام
هبطت من قلعة بالجبل
نزلت على ركبتي في صالة البيت الطويلة
جلسنا علي مقعدين متقابلين
تحت شباك أثير
قالت: عبرت بالجميع إلى بر الآمان
دوري في هذه الحياة قد انتهى
ولم تعد بي طاقة لحراسة الليل أو الكتب
راضية عن نفسها
بسيطة وحاسمة
كأنها تسلم عصا صغيرة في سباق التتابع
كأنها
كأنني آلة الحكي البديلة
قل ما تشاء
عني
عما حملته في القلب
أو على ظهري
قل ما تشاء
لكن
إياك أن تكذب
وإياك أن تأخذ أي كتاب من هنا
قبل أن أموت
(٩)
قبل أسابيع قليلة
سافر ابن بطنها الأول في رحلة قصيرة إلى الشمال
رأيتها بعد يومين
قلت للأصغر بيننا:
لا أذكر اسم من قال:لا نموت عندما نريد
نموت عندما نستطيع
قال: ماذا تقصد
قلت: أمك أخذت القرار
لكنها -كما تعرف - عادلة دائما
وستنتظر حتى يعود
(١٠)
ملفوفة في البياض
حملتها
نزلت سلالم البيت القديم
حملتها
وصعدت سلالم المسجد العالية
حملتها
حتى عشها الأخير
حملتها
رأسها على صدري
وظهرها على يدي
خفيفة
حملتها
وأنا أقول لنفسي:
مثلما حملتني صغيرا
للحياة
لم أنتبه للمفارقة اللعينة
إلا وأنا أنظر إليها
نظرة أخيرة
من الفتحة الضيقة
لباب القبر.
٣١ يوليو ٢٠١٧