كيف ترى أورنداتي روي الكتابة؟ / سارة حامد حواس

 كيف ترى أورنداتي روي الكتابة؟

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس



كيف ترى أورنداتي روي الكتابة؟ - سارة حامد حواس - بيت النص


كانت علاقتي باللغة مبكرة ، منذ طفولتي البعيدة. لكن ما كان يبدو مستحيلا هو أن أجد نفسي في موقعٍ يسمحُ لي بأن أكون كاتبة لأنه لم يكن هناك مال. كيف سأعيش؟ وكيف سأدفع الإيجار؟ في سنواتي الأولى، كان طموحي الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، أن أؤمِّنَ قوتي اليومي، وأدفع ما عليَّ. لم يكن هناك مجال للتفكير بأن يأتي يوم يمكنك فيه الجلوس لكتابة شيء ما. كنت منشغلة تمامًا بمحاولة العيش. كان السؤال ببساطةٍ: كيف تنجو؟
كنتُ أعمل في مكان يُسمَّى ''المعهد الوطني للشؤون العمرانية''، وكان الراتب يكاد لا يُذكر. كنت أعيش في غرفةٍ صغيرةٍ تكاد تكفي للنوم بالقرب من ضريح نظام الدين في دلهي، وكنت أستأجر درَّاجة هوائية بروبية واحدة في اليوم لأذهب بها إلى العمل. كانت كل أفكاري تدورُ حول شيءٍ واحد: المال!
فاللغة هي جِلْدُ فكرتي، إنها ما يكسوها. وأحيانًا أتساءل إن كانت تراودني فكرة قبل أن تأخذ شكل الكلمات، فكرة ما قبل اللغة. بالطبع، الأمر يتطلبُ عملًا وجهدًا. فروايتي ''إله الأشياء الصغيرة'' لم تكن شيئًا كتبته دفعةً واحدةً. إنه أقرب إلى نحت الدخان، الدخان يتصاعدُ، لكن لا بد من منحه شكلا وهيئةً وبنيةً. ورغم أن الرواية استغرقت مني خمس سنوات لكتابتها، فهي ليست رواية طويلة . أما عدم وجود “مهنة” عندي، فليس معناه الكسل أو عدم العمل، بل أن أعمل في كل ما أفعلهُ بجدٍّ، من دون أن أنمو في اتجاهٍ واحد فقط، وأن أتعامل مع كل ما أقوم به بمهنيَّةٍ، لا أن أختصر نفسي في مجالٍ واحد.
الرواية هي أبسط طريقة لعرض عالم شديد التعقيد. ولهذا أنا كاتبة، لأنني لا أستطيعُ تبسيطه أكثر من ذلك. ولو كنت أقدر، لكنت سياسيةً، عندي شعارات، وبرامج، وبيان، لكنني لست كذلك، أو ربما كنت سأصبح مهندسةً معماريةً أو شيئًا من هذا القبيل. فالكتابة عندي عملية داخلية جدًّا، محاولة لفهم العالم لنفسي أولًا، وحين يتحوَّل هذا الفهم إلى شيءٍ يمكن أن يلامس الآخرين، فهناك متعة في ذلك. لكن الحقيقة هي أنه سواء فهمه ثلاثة أشخاص أو ثلاثة ملايين، فسيبقى هو الكتاب نفسه. كنتُ أظن أن أقصى نجاح قد تحققه روايتي ''إله الآشياء الصغيرة'' التي نلت بسببها جائزة البوكر، هو أن يقرأه ثلاثة آلاف أو ثمانية آلاف شخص. ففكرة أن بإمكانك أن تصنع نفقًا عبر هذا العالم على هذا النحو مذهلة، لكنها أيضًا مخيفةً جدًّا.
عائلة والدي من بنجلاديش. لكن في الحقيقة، لم أعرفه أبدًا. وأمي من كيرلا، وقد انفصلا حين كنت في عامي الأول، فكبرت من دون أن أعرف شيئًا عن تلك الجهة من العائلة لسنواتٍ طويلة. تنتمي أمي إلى طائفةٍ صغيرة تقليدية للغاية في كيرلا تُعرف باسم المسيحيين السوريين. هم، بخلاف غيرهم من المسيحيين في الهند، مجتمع منغلق وشديد الطبقية ومحافظ إلى حدٍّ بعيد. ولذلك كان زواج أمي من رجل من خارج الطائفة، ثم طلاقها وعودتها إلى البلدة، أمرًا صادمًا تمامًا، كأنها خرجت للتو من صفحات ''إله الأشياء الصغيرة''.
لقد نشأت دائمًا خارج هذه الشبكة الحديدية التي تُحكم قبضتها على المجتمع الهندي، شبكة الطائفة والطبقة والمجتمع. جميع المجتمعات فيها درجات من التسلسل الهرمي، لكن الهند حالة فريدة، لأن نظام الطبقات(الطوائف) يُضاف فيها إلى الطبقة الاجتماعية. فكبرت وأنا أرى كيف تُهان أمي أحيانًا، رغم أنها أكثر النساء قوةً وطاقةً أعرفها.
لكن هذا الغضب العظيم الذي كانت تحملهُ في داخلها عن التجارب التي مرَّت بها، كان أحيانًا يُفرغ علينا نحن أطفالها. حتى البيت نفسه لم يكن مساحة آمنة تمامًا. ومنذ صغري كنت أحاول أن أفهم: لماذا يحدث كل هذا؟ هذا ليس تفسيرًا لكوني أصبحت كاتبة، فأخي مرَّ بالتجربة نفسها، لكنه لم يصبح كاتبًا. لكن بالنسبة إلى كاتبٍ محتمل، تكون هذه خلفية غريبة وثريَّة في آن، لأنك لا تنتمي حقًّا إلى أي شيءٍ، فتجد نفسك دائمًا تراقب وتفكّر وتحاول الفهم. لا أقول: “آه، كنت مظلومة أو مضطهدة”، لا لم أقل هذا. لكن كانت لي تجربة خاصة جدًّا في النشأة. لم يُلقَّنني أحد، لأن السلطة التي يفترض أن تلقّنني لم تكن موجودة أصلًا.
عندما كبرتُ، غادرت المنزل. أمي، هذه المرأة المهيبة التي كسرت روح مدينة محافظة بأكملها بمفردها، كانت أيضًا قوة معقدة. عندما يسألني الناس عنها، أقول دائمًا إنها تشبه شخصية هربت من أحد أفلام فيلليني. فهي امرأةٌ حرَّةٌ إلى أقصى الحدود، لكنها شديدة السيطرة، وكانت العلاقة بيننا، رغم الحب، مليئة بالصدام.
وفي سن السادسة عشرة، غادرت البيت لدراسة العمارة. قلت لها إنني لن أعود، وفعلًا لم أعد بعد السنة الأولى. كنت أعمل في مكاتبٍ صغيرة أو في الرسم لأُعِيل نفسي وأدفع مصاريف الدراسة. في تلك السنوات، كنتُ مهندسة معمارية فقط، ولم أكن أرى نفسي ككاتبةٍ على الإطلاق. لكن، كما اكتشفت لاحقًا، كانت دراسة العمارة أساسًا خفيًّا وجوهريًّا لطريقتي في الكتابة. فلم يكن تدريبي في الهندسة المعمارية مجرد مساعدة بل هو أساس طريقتي في الكتابة لأن الرواية بالنسبة إليَّ تشبه خريطة مدينة أو تصميم مبنى. كل شيءٍ فيها تركيبي: طريقة الدخول إلى السرد، والخروج منه، والتنقُّل داخله، ولا شيء بسيط أو خطي. فبالنسبة إليِّ، الزمن والتسلسل والتاريخ كلها مواد بناء. لذا، فالهندسة المعمارية بالنسبة إليَّ جوهر أسلوبي في الكتابة. ولا يوجد أي خوارزمية في كتابتي. فكلها إحساس وإيقاع خالص.
في الحقيقة، ليست لديَّ أي طقوسٍ ثابتة في الكتابة. هي مجرد مواجهة مفتوحة بيني وبين نفسي وبين الكتابة، لا أكثر. ولا أفهم تمامًا ما الذي نعنيه بعبارة “حين تكتبين”،
لأنني أتساءل: متى لا أكتب؟ فأنا أكتب طوال الوقت في رأسي.
في الواقع، أشعرُ الآن أنه لو قِسْتُ وزني سأكون بنصف وزني الحقيقي، لأن السنوات العشر الماضية كانت كلها كتابة داخل رأسي، فقط أفكار تدورُ بلا توقفٍ.
الآن على الأقل (تشير إلى الكتاب الموضوع على الطاولة) أصبح ما كان في داخلي ماثلًا أمامي، لكنّه لا يزال خارج الميزان، وبلا وزنٍ ماديٍّ، تفهمين ما أعني؟
في الفترة التي كنت فيها أكسر الأحجار، أقصد المعنى المجازي بالطبع، أي حين كنتُ أبحث عن طريقي لأفهم ما أحاول فعله، لم أكن أستطيع العمل إلا لساعاتٍ محدودةٍ كل يومٍ، بضع ساعاتٍ فحسب.
كانت هناك مرحلتان في كتابة الرواية :
الأولى هي مرحلة توليد الدخان، والثانية نحته. ولا علاقة لأي من المرحلتين بمفهوم الكتابة وإعادة الكتابة أو “المسودات”.
في مرحلة توليد الدخان، كنت أكتبُ ثلاث جمل مثلًا ثم أتعب بشدةٍ وأغفو فورًا من الإنهاك. لكن عندما كانت الرواية تتضح تمامًا في ذهني، كنت أعمل لساعاتٍ طويلةٍ من دون مللٍ. وهذا بالضبط ما حصل مع ''إله الأشياء الصغيرة'': كانت هناك تلك الجملة الواحدة التي تُدخلني في ما يشبه غيبوبة لطيفة.
أنا لا أشعر بأنَّ عليَّ أن أكتب، ولا أفرض على نفسي كمًّا معينًا من الكتابة. فأنا لا أكتب إلا عندما أُقنَع تمامًا بأن عليَّ أن أكتب. كنت أمزح مؤخرًا مع صديقة وقلت لها:
في يونيو سيصدر كتابي الجديد ''قلبي المتمرِّد''، مجموعة مقالاتي الكاملة، ويا للمفارقة، ثلاثة كتب فقط تشكل حصيلة حياتي الأدبية! لا يبدو رقمًا كبيرًا، أليس كذلك؟ بطريقةٍ ما، أنا لست شخصًا طموحًا في المعنى التقليدي،
لكن عندما أكتب، أكون شديدة الطموح تجاه عملي ذاته. أتدخَّلُ أحيانًا بطرقٍ صغيرة، مثل مقالي الأخير في هافينجتون بوست. لم أكن أنوي كتابته، لكنني قضيت ليلتين غير قادرةٍ على إغماض عينيَّ من التفكير في كيف أن الجميع يتحدث عن كل شيءٍ باستثناء ما يجب أن يُقال حقًّا. وكان ذلك عارًا لا يُحتمل. وحينها لم أستطع أن أهدأ حتى كتبت ما يجب أن
يُقال.
أمَّا متى شعرت للمرة الأولى بأنَّني كاتبة، لم يكن إدراكًا مفاجئًا لقدرةٍ، بل إحساسًا بأن الكتابة طريقتي في التعبير منذ البداية. في طفولتي، كانت هناك مُعلِّمة أسترالية شديدة القسوة تُدعى الآنسة ''ميتن''، كانت أول من علَّمني، وكانت تقول لي كل يوم: ''أرى الشيطان في عينيك.” في يومٍ ما عدت إلى البيت وكتبت: “أنا أكره الآنسة ميتن، وأظن أن سروالها الممزق يبدو مضحكًا.”
منذ ذلك الحين، كانت هناك دائمًا رغبة في التعبير عن نفسي بالكلمات.
مقطع من مقال مُطَّول من ترجمتي للروائية الهندية ''أورنداتي روي'' الحائزة على جائزة البوكر عام (١٩٩٧)
تعليقات