القاهرة
علي قنديل
وكان المساءُ خواتمَ ذهبيَّة في الأصابع
تورَّدَ للقلب ما يعجز الصمتُ أن يحتويه
وكان المدى صاريا لا يقيم.
فمن فتَّح الصدر بيَّارة للنجمياتِ (إذْ يتساقطن بين المواويلِ )؟
من أشعل الوجدَ أرجوحةً ؟
والطفولة جنيَّةً ؟
والسديم رحيلا إلى الجنة؟
سألت النخيل:
على البعد ماذا ترى يا نخيلُ ؟
- دخانا طويلا، صراخا قليلا
وفي التحت نملٌ وشيءٌ كثير، فعذرا بُنيَّ أنا لا أميل.
سألت البريد :
- أتيتُ طريدا، وعدتُ شريدا فدعني بُنيّ طريقي طويل
سألت القطارات، كان شريط ُالقطارات زغرودةً لا تُحَدُّ
أجابت: تعالَ، فمن طرَّز الرأس بالاشتهاءات ؟
حرَّر كعبَ الصغيرِ من النوم ؟
أطلقَ هذا الصفيرَ / الغرابة ؟
……
غفوتُ قليلا،
وكنت أرى النهر يجرى .
(1) يقظة الدخان في سماء الدهشة
ــــــــــــــــــــــــــ
دخانٌ يتكاثف وعواءٌ يقترب
تخللت مدى مربَدًّا
وحيث تقاطعَ لحمُ الدهشة مع ساقية الأرق
انغرست لافتةٌ أولى:
القاهرة
دخانٌ يقترب
سماءٌ مدرَجَةٌ في قائمة الأعمال
وفيما بين الحلم ومائدة الإفطار:
توابيتٌ تتناسل،
فطرٌ يتكاثر
والساعة في عكس إيقاع القلب تدق.
أفتح نافذة:
يتهدَّج موجٌ يصل الشرق بأعصاب الغبطة
أفتح عمقا:
تنشطر اليقظة في أَلَق الشيخوخة،
فأعدّل هندامي،
أفتح.. أفتح تجربة
القاهرةُ تتربع على العرش:
دائرةٌ تتضخم،
نصفُ القطر بديهياتٌ شرطية
آلهةٌ تنظمها الفاتريناتُ لكي يصطفقَ رنينُ الأصباغ،
وآلهة أخرى
( أعطِ المشهد رقَّته )
سقفٌ يتدلى، يتدلَّى في هيئة قبَّعةٍ غريبة
فنظل يدحرجنا الليلُ وشمس لا تشرق إلا
من ورق العملة
هل أنت عواءٌ يتكاثف ؟....
أم ذاكرة المعدن والفحم يبخِّرها وَجَعُ الإسفلت ؟
سمعنا وأطعنا:
دائرةٌ تتضخمُ.. تزحف فيها العرباتُ
وتزحف في الجسد كسيفٍ يفصل بين:
الممكن
والمعقول !!
شهدنا..
آمنا
ماءٌ يتدفق للعامة
( وفيما بين اتجاه العَزْق واتجاه الريّ
شاعرٌ لم يأتِ بعد )
لماذا لا يضطرب النيل ؟..
لماذا دائرة تتضخم ؟
يصبح نصفُ القطر هلالا للبيع.. مناخا للبيع،
وتمثالا يُتَّفقُ علية ؟
هل خارج دائرة تتضخم غيبٌ يتضخم ؟
أبحث عن فيروز وهى تهرب من يوتوبيا
إلى أخرى..
أو أفتح " دفتر الصمت " حيث
عفيفي مطر يتسلق مئذنةَ الدمع
أو أدخل في حركة طَلْعٍ يقاوم فتك العفن
أبحثُ.. أفتحُ..أدخلُ :
رَهَجٌ في الصدر ومجمرةٌ في العينين،
وفعلٌ يركضُ صوبَ الأبد
(أجرب)
القاهرة تؤذن لصلاة العصر
ــــــــــــــــــــــــــ
تشبُّ المآذن فوقًا .. لماذا ؟
يسائلني رأسُه الكربلائيُّ وهو قطيعٌ عن الجسد العربي
أنظرُ حولي :
لا طيرٌ حي
لا طيرٌ مقتول
لا أوراقٌ خضر
لا نارٌ حمراء.
لا أبوابٌ تفتح،
لا أركانٌ تتهدم،
لا حفيف.
لا زهر
لا خرير
والنيل لا يضطرب ولا يريم
وأنظر حولي :
غابةٌ من كهرباء لزجة تعلق بين الحلم والإقامة
قائمةٌ بالعطلات والكتب الدراسية
وحينما ينبجس الرأس في الليل..
يبدأ ميدان الحسين في الضيق.. في الضيق
يلتف كخيّةٍ ملهمة على رأس الحسين
ويخلو الطريق
آهِ .. شريطُ القطارات بعثرني في فتوق الليالي،
وجرجرني للفجيعة !!
من أين يبدأ وهمُ الرجوع ؟ ،
ومن أين ينفذ طعن الخديعة ؟.
جرَّبتُ أن ألبس النيل صدارةً
كي ألوذ به بالفرار،
وجربت أن أعشق النجمَ
أدخلَ فيه حوارا يهاجر
أو أُقلق الريح في الليل أسكن
رحلاتها المستباحةَ...
لكنني
كنت أُلقَى وحيدا إلى القاهرة
تخضع القاهرة لبعض القوانين:
ــــــــــــــــــــــــــ
1 - عثرتُ على قانونها الهندسيّ
إد – أسرةٌ لينةٌ وغابة ارتكاس.
إد – كلُّ امرأةٍ وسوسةٌ، كلُّ عجوزٍ خناس.
إد – سكينٌ تنمو، تصبح بيت السرقة والحراس.
إد – قدمٌ تتغلغل تخمد لهب القلب وتكسر ذاكرة الأجراس.
إد – ينقطع الخيط الواصل بين الصرخة والأنفاس.
2 - عثرتُ على قانونها اللهبيّ
يظل الراجل يبنى العمائر حتى إذا اكتملت
هنيئةً للساكنين... أُشهر دونهم وعتباتها
سيفٌ محلى ودم مرتقب.
3 - عثرتُ على قانونها الجدليّ
قـ هـ ر
قهرت تقهر فهي قاهرة ومقهورة.
( 2 ) المدى زورق
ــــــــــــــــــــــــــ
المدى زورقُ
غير أن المدينة / وجع في عظام النهار،
كلسة تغرقُ.
ورخام القرار
الثلوج التي تحرق،
لحن الفرار
يعلو
غير أن المدى زورقٌ مُشعَلُ
من خلال الغبار
صوته المهمَلُ
صوته / الجميز والحنظلُ.
يعلو ويعلو فوق لحن الفرار
ليالٍ تتراكم في عينيّ
كالنوافذ المغلقة
أغوصُ داخلي :
تحاصرني وجوه أصدقاء ماتوا،
وأصدقاء خطفتهم عربات النسيان،
وتفاحة شائكة.
أغوص :
كبريتٌ بلله الدمع،
وقصائد تجهلُ طرق اللغة.
أسمع :
في الليل يتجشأ المقطم، ويمشي كالعمى
ناثرا ترابَه، يصل النيل فيهمد فيه،
وما خلفه جثثٌ خامدة يبرق منها
سُلٌّ يُدعى الجنس / القاهرة،
ويظلم فيها إسفلتٌ يدعى الغد / القاهرة
وأسمع :
في الصباح عواءٌ يتجشأ.. يذهب إلى العمل
وعمل يتبدّد في العواء
صلصلة قيودي تجرّني،
في الصباح:
أتوبيس 124،
كلية الطب – دخان الغليون في
الكافيتريا – بعض المثقفين.
وتتضخم دائرة / زنبقةٌ وحشية
يا الله ! زنبقة وحشية.
ساجدٌ
من بدء أول وردةٍ قامت وصمتك ضفتان
عطش السنين صفاؤك السطحي؟ أم أَبَدُ الحوار؟
رأيت , أدركت، اختبأت مقلدا حزن اليمام موحِّدا.
إني وحيد مثلك ــ الآن ــ التجأت إليك
دفِّئني فثلج القاهرة ..!
.....
ساجدٌ
من بدء أول وردةٍ قامت وصمتك موتتان
أرق السنين نسيمك المطوي؟ أم شوك الديار؟
سبحت في الزمن استبحت تمثُّل الموت، انقطعت
عن الكلام مسهَّدا
إني وحيد مثل وحدتك الطويلة..
شدني لخلودك المعقود
....
ساجدٌ
من بدء أول وردة قامت وصمتك طعنتان
لا شمس،
لا كبريت،
لا تبغي الحوار
رأيت ياما قد رأيت ولم تحركك المنى
لم تغرك الأشعار
لم تضطرب للريح،
لم تصعد لأعلى !
ـ .....
( آه من لحن الفرار :
صار منفاي الوطن
وطني صار الفرار)
يقترب
دخان يقترب
ساعة على عكس إيقاعات القلب تدق
لكنني أرى
أرى يوما - ربما قريب كأصابع اليد – يأتي
يقف العالم معصوفا، ويثبت كل ذي حال
على حاله :
اليد القاتلة يشهد عليها دمُ القتيل،
والكتاب الخائن تنحل عنه أحرفه
والماء المغتصَب ينتفض،
الذبائح تستيقظ والخوف يصير التيَّارَ الجارف
النهر الذي سكت ينطق، ومن تكلم يسمع
يوما – ربما قريب كدم محتقن.
اقترب يا دخان،
ويا عربات ازحفي
وانطرق يا حديد على قبَّرة القلب
لا القاهرة تبقى قاهرة
ولا الدلتا دلتا
ولا الشاعر مسجونا في لسانه.
ساعة تدق
" الوقت متأخر "
والسماء تترك الغرفة للأجنحة السوداء ينثرها
طائرُ الرعب الأليف،
آه شريط القطارات،
يخرجون للشوارع نَزْفا من جرحٍ أبله،
يسابقون الضوء الخائب
ويقومون من سقطةٍ إلى أخرى كالديدان المشرقة
ما أبهج المرارة !!
نام المقطم فوق جفني
وظل قفص الصدر يحبسني
غيبا وعصفورا خريفيَّا
أقذف حصان النار يرفسني
أو صبني في النهر محلولا هلاميَّا
تعليقات
إرسال تعليق