رسول مكسيكو
جبّار ياسين
ترجمة : عاطف محمد عبد المجيد
مساءً جرى اللقاء في حي الـ " كونديسا
" غرب المدينة.كنتُ أقيم في بيت أرستقراطي، بدعوةٍ من مؤسسة خيريّة.في
المدخل، كان هناك بلاط يأخذ شكل رقعة شطرنج وسُلّم رخامي، ذكّراني ببيت كنت أقطن
فيه منذ زمن طويل.سكنت في غرفة بالطابق الأول تطل على الحديقة.قبل اللقاء بعدة
أيام، كنت قد صادفت الرجل أثناء عودتي في المساء.ظننته شحّاذًا، لكني تذكرت وجهه
وأنا في غرفتي.في الواقع، كنت قد قمت برحلة، منذ عدة أسابيع، إلى " تكيلا
".كنت أتنزه في المدينة برفقة سائق من سكانها.تنزهت معه، مثلما اعتدتُ، في
شوارعها المُشجرة تحت شمس ديسمبر الفضية.اقترح عليّ زيارة معصرة خمر تاريخية وبدوري
قبِلْت عن طيب خاطر.دائمًا ما تسليني زيارة الأماكن العتيقة، وإن كنت، حقيقةً، لمْ
أرَ فيها أية منفعة.ذات مرة وأنا في البهو، لمحت فراشة صفراء
ضخمة تحط على جذعية بردي تنبثق من
النافورة.بعد ذلك بساعة، حال خروجي من
المعصرة، كانت الفراشة لا تزال على الجذعية.لكنها، في اللحظة التي
اجتزت فيها باب المعصرة
، طارت وحطّت فوق رأسي.راح سائقي يضحك كطفل، مما اضطرني أن أشاركه
الضحِك.بعدئذٍ تناولنا غداءنا معًا، في مطعم صغير على موائده شراشف مطرية على شكل
مربعات حمراء وبيضاء، حيث كان هناك صبيٌّ وفتاة منهمكين بعملهما على مقربة منا.في
تمام الرابعة، طلبتُ من سائقي أن يعود بنا إلى مدينة " غوالدا لاخارا
".قطعنا المدينة ثم انعطف إلى الشارع الرئيس، وفجأة انحرف إلى أزقّةٍ منازلها
حمراء اللون.واصلَ انحرافه في الأزقة لوقت طويل، قبل أن يخبرني أنه ضل الطريق
المؤدّي إلى الخروج من المدينة.دلُفْنا حينذاك إلى شارع يوازي الطريق السريع، لكن
دون أن نعثر على مكان للخروج.طلبت منه أن يسأل المارة. رد عليّ قائلا إنه لم يعد
منهم أحد هنا.نظرت يمينًا ويسارًا فأدركت أنه كان مُحقًّا. كان المكان مُقْفرًا
تمامًا.توغّل بعدها داخل ساحة لمزرعة مهجورة.نزل من السيارة ونادى، كأنه كان يعرف
المكان.من بين الخرائب خرج رجل يمتطي حصانًا.كان الرجل هنديَّ الملامح يحمل بندقية
صيد في حمّالته.دلَّنا على طريق ترابي يقطع المزرعة ويؤدّي إلى الطريق السريع في
نهاية منعطف، بين تلال تغطيها نباتات الأجاف.كان المساء قد حل منذ قليل .
داخل غرفتي، في ذاك المساء، وقبل أن أخْلُدَ للنوم، جعلتُ الرجل الذي رأيته
لحظة الخروج من تكيلا يترجل من على حصانه.كان هو الرجل الهنديّ نفسه الذي كان
ينتظرني مساءً في مدخل محل إقامتي.كان اليومُ التالي يومَ أحد، وحين استيقظت أحسست
أن الحي يسوده الهدوء.غادرت غرفتي خارجًا لتناول إفطاري في مقهى قرْب الحديقة.في
ذاك الوقت كان هناك عدد ضئيل من الزبائن.دخل الهنديّ متوجهًا إزائي، حاملا في يده
لفافة من الكرتون.حدّق فيّ، وطلب مني أن أتْبعه.خرج من المقهى مثلما دخل.
في
الحال غادرت المقهى، رأيته واقفًا بجوار تمثال نصفي لـ " أينشتاين " في
الحديقة.تقدمت متجهًا إليه دون أن أدري ماذا يريد.الحق يُقال إنني ظننت أن الأمر
يتعلق بالنقود، أنَّ الرجل جاء يطلب مُقابلًا للخدمة التي أسداها إليَّ منذ
أسبوعين مضيَا، يوم أن أنقذنا من متاهة الخرائب.لحظة أن اقتربت منه، اعتراني إحساس
أن كل هذا قد عِيش من قبل في حلم بعيد.حلم رأيت فيه حياتي كلها في هذا المكان،
ورواه هذا الرجل الهنديُّ الذي جاء، هو أيضًا من بعيد جدًّا.
– لقد دار الزمن دورات عديدة في ما مضى ! قالها لي بصوت حادٍّ جدًّا.
– لقد دار الزمن دورات عديدة في ما مضى ! قالها لي بصوت حادٍّ جدًّا.
- أأنتَ الرجل الذي رأيته في خرائب تكيلا
؟.. ابتسم على مضض.
–
ليست خرائبا بعد.لكنّ المكان الذي رأيتني فيه قد استحال خرائبا منذ زمن طويل.
- أمسكني من يدي وقادني إلى ممر تحيط به
أشجار عملاقة.كان ثمة صوت موسيقى قادم من بعيد، من الناحية الأخرى للحديقة، كلحنِ
كمانٍ مصحوبٍ بصوتِ بوقٍ غريبٍ وصَفّير.دون أن ينظر إليّ راح يُنْشد بصوت
وئيد:
- " في الحد الذهبيّ للعالم، أفكر في
مذاق الخراب المُر ! الخراب الذي دمّر " كتزالكوتل " ! حيث الأمل يزأر كأسد
لحظة نهاية العالم ! "
- توقفَ ناظرًا إليّ كأنه كان ينتظر ردًّا
مني.لم أكن مُهيّأ للرد، لأني لم أكن قد استوعبت بعْدُ ما كان يحدث، وإن كنت قد
تركْتُني ليقودني هذا الغريب القادم من أحلامي ربما، أو من كوابيسي.عندئذ فكرتُ في
لحظة الخروج من تكيلا، في مزرعة الخرائب التي كانت صورةً لعالم بائد، لمكان يلائم
الطيور الليلية والزواحف، ومَن ليس لديهم مأوى على هذه الأرض، كي يتأملوا السماء،
ونجومها التي تقرر مصائرنا.
- " نحن لا نزال على الحد الذهبيّ
للعالم.كل شيء سيصير خرابًا.أنت رأيتني في مزرعة تكيلا، نعم.غير أني أمضيت حياتي
كلها بين الخرائب.أخرجُ من إحداها لأتوغل في أخرى.الزمن يجلب لنا خرابنا.لقد
اخترعَتْه الآلهة كي تثأر منا ".
كان يتحدث عن كل شيء بيقين، محافظًا على الإيقاع ذاته، مُحدّقًا فيَّ.كان
يعرف وجْهته درجةَ أنه لم يكن ينظر أمامه وهو يتقدم.
-" لكني أعرف كلَّ هذا.ولأجل هذا جئتُ
إلى هنا، كي أتأمل ما كانَ ذات يومٍ عالمًا مثاليًا .
- مثاليًّا ؟ لقد أمضينا زماننا في انتظار
وقت الخرائب.من أجلها كنا نبني.آمل أن تكون قد رأيت " تويتويكان ".
- أجل.لقد ذهبت إليها منذ أسبوع مضى،
وارتقيت السُّلّم رغم كبر سني.كل الضواحي لم تكن سوى خرائب، حتى تلك التي كانت قد
شُيّدت منذ عهد قريب.
-
نعم، كل شئ محكوم عليه بالخراب هذا من قبل، وفي كل حجَر ثمة بذرة خراب تنمو مع
مرور الوقت.
- ربما...رأيت حمامة تُعشّش في الأعلى، بالقرب مما كان ذاتَ يومٍ هيكلًا للقرابين. الغريب أنها لم تكن تكترث بأحد ".
- ربما...رأيت حمامة تُعشّش في الأعلى، بالقرب مما كان ذاتَ يومٍ هيكلًا للقرابين. الغريب أنها لم تكن تكترث بأحد ".
- رسم ابتسامة على شفتيه وأضاف:
" إنها الحمامة نفسها التي دائمًا ما
تكون هناك، إنها رسول، والبشر مختفون بالنسبة لها.إنها تراقبنا وهذا هو كل شيء
".
كنا قبلها في منتصف الحديقة، قرب نافورة
يتدفق الماء منها.حيثما كانت هناك عائلة تتنزه على حافة حوضها، وطفل يلعب مع كلب
لابرادور أسود.راح صوت الموسيقى يعلو أكثر فأكثر.كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر
ظهرًا تقريبًا.
- "
أتركك الآن، لكن لتبْقَ هذا المساء في مسكنك وقت هبوط الليل.سأُعيد إليك ما
نسيتَه وأنتَ تترك المتحف ". ثم انصرف واختفى وراء الأشجار.
حين عدتُ إلى غرفتي في محل إقامتي، فكرت في المتحف، في كل الأشياء الكامنة
خلف الواجهات الزجاجية، دون أن أتمكن من تَذَكّر ما نسيته هناك.لم أشترِ نسخة
مُقلّدة من تمثال صغير، ولا مخطوطًا من متجر المتحف.كما لم يكن معي التقويم الشمسي
الحجريّ الذي أهدتنيه ڤاليريا.
بعد الظهر وأنا في فِراشي أخذتني سِنة من
النوم، فراح الهنديّ يعاود الظهور لي في أحلامي مرات شتى: مرة في الحديقة، ومرة
أخرى على شُرفةٍ في شارع بغداد وهو يصيح: " – كل الأشياء متشابهة ! انظرْ !
".أما أنا فرأيت الميدان الدائري الفسيح حيث تكدست الأنقاض وبقايا العربات
القديمة كخُردةٍ.حين أفقت من نومي كان قد حلّ المساء.هُيِّأ لي أنني أسمع صوت صفير
طويل
ينبعث من بئر السُّلّم.تركت غرفتي كي أرى،
بينما راح الصوت ينأى تدريجيا.
وصل الرجل الهندي في تمام الثامنة.كنت
أنتظره أمام محل إقامتى.جاء يحمل معه لفافة صغيرة من ورق مُقوّى في حجم كتاب
كبير.حيَّاني ثم صافحني بحرارة. ارتقينا السلم متجهين مباشرة إلى غرفتي.ظننته يعرف
المكان، وأنه هو من كان يُصْدر صوت الصفير الذي أيقظني.بيد أني لم أتفوّه
بكلمة.حالما دخل وهو في غرفتي اتخذ مكانه على مقعد جلديّ مُشيرًا إليّ أن أجلس على
السرير.راح يبسط المخطوط فرأيت آلاف الرموز التي تشبه حروف الهيروغليفية المنقوشة
باللونين الأحمر والأخضر.كان المخطوط الذي انبسط بين يديه لا يزيد طوله عن متر،
ولم تكن النقوش تظهر لي إلا من جانب واحد.
- " كانت هاتيك الليالي ليالي
بغيضة.وكانت الضجة في كل مكان، كنا نحتفل بنهايتنا.أنت أيضًا علمت بهذا، ولك أن
تتخيل الضجة.لم تَكُفّ الطبول عن الدق، كان الرجال يرقصون في دائرة قبل أن يرتموا
داخل النيران.كذلك لم يتوقف صوت الصفير، ونحن منهمكون في تخيّل الخرائب التي كنا
سنبقى فيها على قيد الحياة. توقفَ وأمال رأسه فوق المخطوط كما لو كان يريد أن يفك
رموز كل ما لم يكن مكتوبًا فيه بعْدُ.كنت أراقبه غامرًا إياي إحساسُ أنّ كل هذا قد
حدث من قبل.كان يتحدث عن حلم قد عشته قبل أن تطأ قدماي أرض هذه المدينة.رفع عينيه
اللتين كانتا مغرورقتين بالدموع.
- " عليّ الآن أن أرتاح من هذا
المخطوط.هو لك.مهمتي ستنتهي عما قريب.حين تكمل القراءة، سأكون أنا في خرائبي حيث
مأواي، وربما ستوافيني المنيّة هناك بعد كل هذي السنين ".ثم راح يقرأ المخطوط
بلغة أخرى.
- " لقد وصل الغرباء ذوو اللُحى
البيضاء في الحادي عشر من أكتوبر، أبناء الشمس، الأبناء ذوو البشرة المضيئة.وحيث
إننا نتحسر لوصولهم، فستسقط عصا الرجل الأبيض فوق ظهورنا.سيُقبل من السماء، سيقبل
من كل النواحي.ستكون حزينةً كلماتُ " أوناكو " إلهنا الوحيد.حين ستُنْثر
كلمات السماوات على الأرض، ستكون هذه هي بداية تنفيذ الإعدام، سينبجس البرق من
ذراعيّ الرجل الأبيض. عندئذ ستهوي على الإخوة حُمّى المعارك، وستسقط علينا ضرائب
العبودية مع ماء السر المقدس.هناك ستختفي عِلّة التقديس، وستتأوّه الشعوب تحت سوط
الرئيس، وستقطن التعاسةُ الأرضَ ".
- توقف يجفف جبهته.من جديد حدجني بنظرة
استشففتُ منها تعاسته.
-
" ستكمل القراءة بعد رحيلي.
- لكني لا أعرف كيف أقرأ هذه الكتابة.
- لا تقلق، ستنفتح لك الصفحات وستفهم باللغة
التي تفكر بها.هذه الوصية كُتبت بكل لغة يتم التفكير بها، لكنها رُصدت لأولئك
الذين عاشوا..."
لم يُنْهِ جملته، لفّ المخطوط ثم مدّه
لي.تناولته منه وحينما حاولت أن أبسطه، أمسك الهندي يدي.
-
" ليس الآن، لحظة رحيلي لم تحِن بعد.
وضعت المخطوط على المكتب، فيما اتجه الرجل
ناحية الباب.
- " احتفظْ به بعد قراءته، مهما ذهبت
بعيدًا جدًّا ".
بعدها فتح الباب ومضى مسرعًا. سمعت وقْع
خطواته على السلم الرخامي، حين توقفت خطواته، اجتاح الصفير المكان مرة أخرى.اتجهت
ناحية النافذة فرأيته يتجه إلى الحديقة متواريًا في عتمة الليل.
فيما بعد، فتحت المخطوط ورحت أقرأ صفحة لم
تكن لتنتهِي أبدًا.في غضون سنوات، قرأت مخطوط التعاسة، ولم أنْتَهِ منه بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جبار ياسين..كاتب وروائي عراقي، يكتب، بجانب
اللغة العربية، بالفرنسية ويقيم في فرنسا منذ 41 عامًا.له العديد من الأعمال
الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية، ترجمت أعماله إلى لغات كثيرة كالأسبانية
والإيطالية والإنجليزية والفرنسية والهندية
وغيرها.مُنح جوائز أدبية أوربية عديدة.هذه القصة نُشرت في كتاب ضم أجمل القصص عن مدينة مكسيكو باللغة الأسبانية أعده وقدم له الناقد
الأرجنتيني المعروف ألبرتو منغويل.ضم الكتاب قصصًا لبورخيس وكورتزاز وماركيز
وكاليفينو وجراهام جرين وأتود و د.ه
.لورنس وسيغرز وشوارز وجبار ياسين.
تعليقات
إرسال تعليق