مختارات من شعر جلال الدين الرومي
ترجمة : مريم كساب
أنت البهجة :
يا إلهي ! إن عيوننا المُسمّمة قد ضبّبت رؤيتنا.
أحمالنا أصبحت ثقيلة .. اغفر لنا.
أنت محجوب ولكنّك قد ملأت العالم بإشعاعِك .. من الشرق إلى الغرب.
إن نورك أكثر روعةً من الشروق أو الغروب.
وأنت أعمق تُربة للوعي الذي يكشف عن الأسرار التي نحملها.
أنت قوة مُتفجّرة .. تجعل أنهارنا اللعينة تتدفق.
أنت يا من تحتجب ماهيتك .. ولكن عطاياك جليّة.
أنت كالماء ونحن كالأحجار.
أنت كالرياح ونحن كالتُراب.
الريحُ مُحتجبة ولكن التُراب ظاهر للعيان.
أنت الربيع الخفيّ .. ونحن حديقتك الغنّاء.
أنت روح الحياة .. ونحن كالأيدي والأقدام.
الروح هي من تجعل اليد تنقبض وتنبسط.
أنت العقل .. ونحن صوتك النافذ.
إن العقل هو من يجعل اللسان يتحدث.
أنت البهجة .. ونحن الضحك.
لأننا نِتاج نعيم بهجتِك.
جميع حركاتنا إعلان مُتواصل عن الإيمان .. تشهد بسُلطانك الأبدي.
كما يُعلن الانعطاف الحاد للحجر .. عن الإيمان بوجود النهر.
يستقر الغُبار فوق رأسي وفوق مَجازي.
لأنك أبعد من أيّ شيء .. قد نُفكّر فيه أو نقولُه.
ومع ذلك لا يستطيع هذا الخادم أن يتوقف عن التعبير عن بهائك.
في كلّ لحظة .. دع روحي تكون بِساطك !
(المثنوي الجزء الخامس : 3307 – 3319)
وحدهُ الحُب يستطيع التعبير عن ذاته :
الحُب هو اسطرلاب* أسرار الله.
العاشق قد يكون مجذوباً لهذا الحُب أو ذاك
ولكنّه في النهاية مسحوبٌ إلى سُلطان الغرام.
مهما أعطينا الحُب أوصافاً وشُروحاً ..
حين نقع في الحُب نخجل من كلماتنا !
إن الشرح باللسان يجعل الأشياء واضحة
ولكن الحب يغدو أوضح حين لا يُفسّر.
حين دنا القلم من موضوع الحُب .. انكسر !
وحين أتى الحديث عن مسألة الحُب .. انشطر القلم وتمزّقت الورقة !
إذا حاول العقل تفسيره .. يسقط عاجزاً كحِمار في طريقٍ مُوحِل.
وحدهُ الحُب يستطيع تفسير الحُب .. وتفسير أحوال العشّاق !
إن الدليل على وجود الشمس هي الشمس ذاتُها.
إذا أردت رؤيتها .. لا تشِح بوجهِك عنها !
*اسطرلاب : كلمة ذات أصل يوناني ( (astrolabos.. وهو أداة فلكية قديمة يعود النموذج الأول منها للحضارة الهلنستية اليونانية وتُرجّح بعض المصادر صناعته إلى عالم الرياضيات "بولونيوس بيرغا".. ولقد برع العرب في استخدامه في رصد المسافة الفاصلة بين الأجرام السماوية وتحديد ساعات الليل والنهار والجهات الأصلية.
(المثنوي الجزء الأول : 110 – 116).
شهود الجَمال :
إن الإنسان هو اسطرلاب الله .. ولكن يتطلّب الأمر فلكياً يعرف كيف يستخدم الاسطرلاب.
لو أن بائعاً للبصل أو بقّالاً امتلك اسطرلاباً .. أيّ نفعٍ قد يَجنيه ؟
ما الذي يُمكن أن يُدركه عن السموات الدائرة وعن حركة الكواكب وتأثيراتها وعبورِها ؟
ولكن الاسطرلاب يغدو مُفيداُ في أيدي الفلكيّ ..
لأن "من عرف نفسَه عرف ربّهُ"* !
كما أنّ هذا الاسطرلاب هو مرآة للسموات .. كذلك هو الإنسان _ "ولقد كرّمنا بني آدم"_ هو اسطرلاب الله.
حين يجعل الله الإنسان يعرف نفسَهُ ..عبر اسطرلاب الكينونة
يشهد هذا الإنسان تجلّي الله وجمالَه اللانهائي ..
لحظة بلحظة / ومضة بومضة !
هذا الجَمال لا يغيب أبداً عن مرآتِه !
*"من عرف نفسه عرف ربّه" : حديث شريف .. وهو مُفضّل جداً عند المُتصوفين.
( كتاب فيه ما فيه : حديث 2)
الحواس الجسدية والروحية :
لو دخلت بعض القُمامة في فم كائنٍ حيّ
يغدو مُضطرباً حتي يتمكّن من بصقِها.
حين تدخل لُقمة قذرة ضمن آلاف اللقيمات
تكتشفها حواس الكائن الحيّ.
الحواس الجسدية هي الأدراج المُستخدمة في هذا العالم
والإدراك الروحي هو الدرَج المُفضي إلى الفردوس.
ابحث عن عافية الجسد عند الطبيب ..
والتمِس عافية البصيرة الروحية من المحبوب !
(المثنوي الجزء الأول : 301 – 304)
في الحيرة اجعل وجههُ قِبلتَك :
من الذي يستطيع وصف أساليب الواحد
الذي ليس كمثلِهِ شيء ؟
أي شيء أقوله الآن ليس إلا مُحاولة
يقتضيها الوقت الراهن !
أحياناً تظهر إشارة الله بطريقة ما
وأحياناً بعكسِها !
إن عمل الدين الحقيقي هو الحيرة
ولكن ليست الحيرة التي تدفعك بعيداً عنه
بل الحيرة التي تجعلك غارقاً ثمِلاً بمحبوبِك !
يستدير أحدهم نحو المحبوب في ذهول
أما الآخر فيلتفت إلى ذاتِه فقط !
حدّق في وجوه الأشخاص ! انتبه !
ربما عبر الخدمة تستطيع أن تُميّز وجه المحبوب !
(المثنوي الجزء الأول : 311 – 315)
تعليقات
إرسال تعليق