القائمة الرئيسية

الصفحات

مذكرات مبدئية / نص طويل من ديوان صندوق الأحجار الملونة / أسماء ياسين

مذكرات مبدئية

نص طويل من ديوان " صندوق الأحجار الملونة "

أسماء ياسين





لن أنتظر حتى أصير عجوزًا لأكتب مذكراتي، وبالتأكيد لن أنتظر حتى يقولون عني شاعرة عظيمة، سأبدأ من الآن في معاملة نفسي على أنها عظيمة وعجوز، والآن يعني في التاسعة والنصف، من مساء حار رطب، بمنتصف مايو، القمر مكتمل، أجلس وحدي، وهذه فرصة طيبة، فلربما انقلبت بي سيارة أجرة، يقودها سائق مسطول في أي وقت، وسقطت من فوق المحور، إلى أرض كانت زراعية طول عمرها، ظل أصحابها لسنوات ينتظرون أن تدخل كردون المباني، ثم دخلت، فباعوها أيام الانفلات الأمني، وبنى عليها مُلاكها الجدد بيتًا من طابقين ما زال على الطوب الأحمر.

 

.

   

كنت طفلة هادئة،
 ألوذ بكتاب في ركن،

 
لم أكسر الدُّمى بحثًا عن أحشائها،
 
لم ألق بأغراض أمي من الشرفة،
 شبكت يدي ليصعد الآخرون إلى السطح،
 حيث سماء كاملة ومخبأ آمن للتدخين
،
 ما حاولت، خطأً، فقء عين إخوتي الأصغر،
 
الذين كانوا يقذفون بالزلط على زجاج الشبابيك،
 
يلقون بالماء البارد فوق رؤوس المارة،
 
يصرخون في آذان عجائز العائلة فجأة،
 فأذهب لأربّت على عروقهم النافرة،
 لم يكن أحد غيري في البيت يعرف أن بائع غزل البنات الذي يدور في الطرقات، حاملاً حلوى ملونة وفي فمه زمارة، لا يتعب أقل من أحد.
كنت طيبة،
وهو ما يبدو الآن شيئًا بعيدًا،
وبالغ الغرابة.

 

.

 

منذ الصباح وأنا أفكر في جدوى تفسير ما لا يمكن للمرء اكتناه معناه دون عناء، توقفت عن التفكير، وصنعت كوبًا رابعًا من الشاي، ثم فكرت قليلاً أن الجملة السابقة، وإن كانت ليست غامضة، فإنها ثقيلة، وكان من الممكن كتابتها بطريقة أفضل- كل الجمل على الإطلاق يمكن كتابتها بطرق أفضل- وأنه لم يكن علي أن أستخدم لفظة "اكتناه" بالمرة، ثم رشفت الرشفة الأخيرة من الشاي، تكون الرشفة الأخيرة من الشاي محلاة أكثر من الأولى، أو هكذا شعرت وقتها، رغم أن هناك الآلاف من البشر يعانون بردًا قارسًا الآن، في مخيم يأوي اللاجئين في بلد قريب.

تساءلت كيف يكون قريبًا مَن على بعد آلاف الكيلو مترات، هل القريب هو مجال الرؤية المحدود؟

ومثل رامبو؛ رأيت أحيانًا ما توهم الإنسان أنه رآه!

 

 .


لأفترض أن الحياة غرفة معدنية صدئة. وبناءً على هذا الافتراض أقول: الحياة غرفة معدنية صدئة، حوائطها بنية، بلا شبابيك ولا أبواب، رائحتها رائحة الصدأ. وأنا أعيش في تلك الغرفة، عارية، ليس في الغرفة كرسي خشبي للجلوس، الخشب لا يحب المعادن، هو كائن يعتز بنفسه، ولن يقبل الوجود في محيط صدئ ذي رائحة مزعجة، لن يوجد بانيو ولا حوض لغسل الأيدي، ولا ماء؛ خزف الأحواض كائن هش، يرفض، دائمًا، الوجود في محيط أقوى منه، سيشعر أنه مهدد على الدوام، ما يؤثر على نفسيته التي ليست زجاجية وإن بدت كذلك.

 الماء، وهو واحد من أذكى الكائنات، يعرف أن وجوده هناك سيزيد الأمر سوءًا، فهو الذي يحوّل الحديد البادئ في الصدأ إلى صدئ تمامًا. الزوايا ملحومة جيدًا، ولن يجد الهواء مكانًا ليدخل، ربما لن تجد الكتب صعوبة في البقاء، ملقاة هنا وهناك، سيتحول جلدها إلى البني بعد فترة، الكتب، واحدة من كائنات قليلة في العالم، لا تشعر بأي بشيء. 

قد أغيّر رأيي، وأفترض أن الحياة غرفة زجاجية مربعة وشفافة ترى البحر من كل الجهات، وأن البحر أزرق، والسماء أيضًا، وأن هناك كنبة بنفسجية مريحة، وأخرى مريحة وبنفسجية، وبانيو، وحوض لغسل الأيدي، وماء، ورائحة صندل وآنية للزهور، فيها زهور بالفعل، وأن عاشقًا حقيقيًا، من هؤلاء الذين يجلسون لتأمل حبيباتهم، يجلس على الكنبة، متأملاً حبيبته المليحة، التي تفضل أن تنام عارية، على الكنبة الأخرى، وهي تعلم أن الغرفة شفافة، وأن نفرًا من العابرين، أو كلهم، سيقفون طول الليل لمراقبتها، لكنها لا تكترث ولا هو.

لكني لن أفترض ذلك أيضًا.

 

.

 

 أبتسم ابتسامة واسعة، حين أشاهد الجثث والبلدان الخربة وهراء الساسة، على شاشة التليفزيون، لا شك أن الأطباء النفسيين يستقبلون في عياداتهم الكثيرين ممن يبدأون يومهم بمطالعة النشرة، وأن جارتنا سامحت زوجها على خيانته، في مقابل طقم من عند داماس، وأن الأستاذ الذي درسنا التاريخ الحديث، في آداب المنصورة سنة 1997، كان يكتب رسالات زوجته العلمية.

 كنت صبية اعتادت سماع النشرة في الراديو، عرفت كل أطراف الحرب اللبنانية، تكلمت مع أبي حول معنى تعويم العملة، وجواز المساكنة، ولا منطقية شعيرة رمي الجمرات، كل هذا قبل أن تفاجئني دورتي الشهرية، متأخرًا، في الرابعة عشرة فأندهش حتى الآن.

ورغم أن الكل كان يطلق نيرانه الحية على كل شيء حي، وأن زعيمًا ما، أصلع غالبًا، يتدلى سلاحه كقضيبه وقضيبه كسلاحه دوما تحت بطنه، كان نائمًا، ولم يجرؤ أحدهم على إيقاظه، حتى بعد أن تأكدوا أن الحرب اندلعت بالفعل، فأنا أبتسم.

ليس في وسع شيء أن يجعلني أبتسم أكثر من أطمئن على خيالي.

لم أذهب إلى العمل أمس، هكذا أكون استنفدت كل إجازاتي المرضية والعارضة والاعتيادية، ضاقت عليَّ المدينة، شح الهواء، وجفت البحار، هذه جملة مجازية حتمًا، إذ ليس في المدينة بحار ولا يحزنون، وتترك النظرات الكريهة يوميًا آثارها الزرقاء على جلدي. 

سأهييء لنفسي مكانًا آخر، لا يهم إن كان بعيدًا، إن كان لا أثر للمدينة لائحًا في مدى البصر، المهم أن يتسع للدوامات، التي أفضلها أكثر من الماء الراكد، سأجعله بلا حدود، حتى لا تقف الحيطان عائقًا أمام دخان تبغي، سأحرص على وجود المعاجم والقواميس، لأن المفردات صارت تخونني، رغم القواقع تحت الوسائد، والتدخين المنتظم. فليخل البيت حتى من سرير، سأفترش الأرض الخصبة، وسيترك العشب على عريي المستمر آثارًا خضراء، فأضحك، فليخل من طعام، ومن ماء، ومن كهرباء، ومن شبكة إنترنت، سأترك خلفي اللوحات الجميلة، والمؤذية للعين، سأنزع من ذاكرتي كل قصص الحب التي عشتها، فأضحك من قلبي، سأوفر ركنًا كبيرًا للخمر، كبيرًا جدًا، أكبر ركن في الدنيا، وسأعلق سماعات ضخمة فوق فروع الشجر، حتى تسكر معي العقارب والفاكهة والأعشاب والثعابين في شقوقها، ثم سأطمئن، أو فأطمئن فورًا، طالما أنا وصوتي هناك، طالما الله لا يعرف إليّ طريقًا، ليس ذاك منفى، هو البيت.

 

  .

 

سأبني لنفسي بيتًا، غير البيت الذي في القصيدة السابقة. بعيدًا، في الصحراء، مع كلب ضخم، بطوق في الرقبة، فلا يفكر في الهرب، وشجرة واحدة، كبيرة ومثمرة في الصيف والشتاء، لا تنتمي إلى المناخ المداري، ولا أحد يعلم كيف نبتت في الرمل.

لكني لم أحب الصحراء في مراهقتي، سأبني بيتي على شاطئ غير موطوء من قبل، مع ماء لا نهائي ونخيل مصري وقطة عجوز، ستموت قريبًا وتتركني، في الإفطار والعشاء سآكل حشائش الأرض، ستفوتني وجبة الغداء، لأنني لا أجيد الصيد، وسآخذ وقتًا في تعلمه. سأطلق الرصاص على قدمي، كي لا أتحرك عائدة تجاه المدينة. سأطلق الرصاص على ما تبقى من ذاكرتي، فلا تستطيع مفاجأتي بصور لهم. سأطلق الرصاص على محرك القارب فلا أبحر عائدةً، في لحظة حنين ساذجة. أعتقد أني بعد فترة سأتخلى عن محاولات تعلم الصيد، وأجلس أمام البيت كل مساء، أقذف النجوم بالحجارة فتقع، وأحتفظ بها، في صندوق زجاجي شفاف، وكل يوم أطعمها مكعبات السُكَّر وكأنها خيول، لتضيء لي عندما تنقطع الكهرباء.

ودومًا سأعلق البندقية اللعبة على كتفي، وهكذا لن يجرؤ الغرباء على الاقتراب.


 .

 

 عندما كنت، بشكل دوري، قطةً مدهوسة تحت عجلات عربة قديمة، كنت أنت، ما تزال تسرق السيجارة، تلو الأخرى، من علب أبيك المستوردة، تدخنها على عجل، ثم تطفئها في سطح مكتبك "الصاج"، وأنت تعلم أنها لن تترك أثرًا، وتطارد الدخان كالمجنون، ترقص كالغوريلا، كي يعود الهواء شفافًا من جديد.
ثانيةً، بعثت أنا، عنقاء بأجنحة خيالية، دومًا كنت أعود، ورغبة في تخطي الحاجز الخشبي/ النفسي في جيب ثوبي، وعندما رأيت صورة الله المؤقتة على سقف الغرفة، طليت السقف، مرة تلو الأخرى، وأشرعت النوافذ، كي لا تقتلني الرائحة، ثم مشيت في شوارع مدينتنا أتأرجح، ونسوة في ملابس الحداد، خلف الأبواب، ونسوة في ملابس النوم، خلف الأبواب، ونسوة يتطهرن من مضاجعات كالدنس، ليس يمحو الماء أثرها، خلف الأبواب أيضًا
.

ليس في مدينتنا حانات، لكن بشرها يعرفون طرقًا متعددة للسُكْر.

 لما مررت بسرادق للعزاء أسرعت الخطى، تجاهلت تلاوة الموت بصوت مرتفع في مكبرات الصوت، وتذكرتك، بشعر أخف، شاب الآن معظمه، وقدرة على شراء السجائر المحلية، ووضع علبها، على منضدة تتوسط الغرفة، أو على رخام المطبخ، وترك أعقابها في مطفأة على شكل جمجمة، وجمجمة أخرى على ظهر العلبة، وعظمتان، لكن في وجهك، ناتئتان، وأنت بعد سكوت المكبرات، والشيب، وانسحاب الموت، حتى حين، إلى مدينة مجاورة، مازلت ترقص، كالغوريلا، كي يعود الهواء شفافًا من جديد.
الموت يجلس معنا على السفرة، مثل صديق قديم للعائلة، يستيقظ قبلنا، ويجول بحرية في البيت، مرتديًا بيجامة أبي، اتضح أنه يفضل خبزه ساخنًا، ويشرب قهوته بترو، ثم يمسح شفته العليا بلسانه، وبين قبض روح وأخرى، مهلة، يتسرب فيها الأصدقاء كاللصوص والزئبق من ثقوب، ويتسرب فيها البياض، حثيثًا، إلى الرؤوس.
لو أن الحياة كائن حي، شخصية عامة مثلاً، وسألها صحفي مبتدئ هل اكتملت متعتك يوما سيدتي، لأجابت: الأمر يجري على هذا النحو، نصف عناق، ثم نصف مضاجعة، تليها نصف مضاجعة، حتى يطلع النهار، لا قبلات في الفم، ولا شبع، تتبقى قشعريرة في الظهر من لمسة عابر لا يملك ثمن شهوته.

 

.

 

تعالوا نعقد اتفاقًا، تتوقف القطط، ومعامل الأشعة، عن تذكيري بأجنتي المجهضة، تتوقف التليفزيونات عن إرداف الجثث، بكونسيرات باذخة، وأفلام مثيرة، الأمريكيون فيها ينقذون العالم من هلاك محقق في اللحظة الأخيرة. سيكون كرمًا كبيرًا لو توقف الموت عن تناول إفطاره على مائدتي. ساعتها لن أرى أشباحًا في غرفكم، وحشرات في أنوفكم، ولن أتراجع خوفًا أمام الثعابين، بعرض أمعائكم، وبطاقات السفر، المخفية بعناية، في جيوب سحرية. ليس أكثر من مجرد وقت وينتهي الأمر، مهما طال الوقت فهو مجرد وقت، ربما أخطئ، فأمشي بعرض الجسر، عوضًا عن طوله، فلم تصنع الجسور لشيء، سوى العبور، إلى الضفة الأخرى. 


 .

 

لا أعرف ما سيحدث إذا رفعت الصور التي كانت لرجل سكن هذه الشقة قبلي، عن الحيطان، واستبدلت بها صورًا لحيوانات في طريقها إلى الانقراض، أو لمدن تصحو كل يوم، بذهن مشوش، فتشرب النسكافيه لتصحو، ولا تصحو ولا نيلة، أو لأسراب من السردين، مهاجرة إلى مياه أدفأ.

 هذه الأيام، وعلى مدى ساعات، أجبر قططي على الجلوس بجواري ومشاهدة برامج إخبارية، متجاهلة أنها تموء في عصبية، وتخمش بأظافرها الكرسي، حيث أجلس في استرخاء كامل، أتكلم في التليفون مع فنان حداثي، يرى الجمال جرحًا نافذًا، في وجه طفل شارع، اقترحت عليه أن يذهب، ويدفن نفسه حيًا، ثم ثنيت جذعي من الشرفة القريبة من الأرض، ونزعت حشائش خضراء، تختبئ بينها زهرات صغيرة نابتة في ثقة، من الحجر إلى أعلى، وقبل قليل، نظرت إلى كفي، فوجدت آثار دماء على يدي. 

أمثالي، ينامون في هدوء، ويحلمون، ويتزاورون، ويبالغون في الثرثرة عن الطيبة المقيمة في ملامحهم، والدفء الذي يعم الأماكن في حضورهم، ومع الوقت، يصابون باضطرابات في التنفس، وزيغ في البصر، لكنهم على عكس القصائد القديمة، لا تهاجمهم أبدًا رغبة طارئة في البكاء بين يدي غريب عابر، ومع مرور الوقت، تنمو الطحالب حول أسرَّتهم، وتجف عيونهم. نحن أكثر تفاهة مما تتخيلون- في فترة من حياتي كنت أخطط للمستقبل- نضيع أعمارنا في طهو الأطعمة الصحية، ونلعب الورق على خلفية استعراضات موسيقية، فاقعة الألوان، أو مقطوعات لفاجنر، فاجنر بالذات، أية كائنات هذه التي تستمع إلى فاجنر مع أن هناك موتسارت وتشايكوفسكي!

 

  .

لا يضعفني السُّكْر، يرسل نظرتي نحو الفراغ، فتشبه النظرة أكاذيب أوشكت أن تفضح، أعلن للمدينة الملوثة بصوت محايد، أني أكرهها قليلاً، ولأصدقائي المقربين أن مساحة الخصوصية الممنوحة لهم تقلصت، تمهيدًا لإلغائها، أفكر أن عليَّ أنظر عن يميني كلما هممت بعبور الطريق، وأن أقرأ الروشتة الداخلية للمهدئات، التي أبلبعها دون وصفة طبية، ويبدو أن الوقت حان لأكتب رسالة طويلة إلى نيتشه، أذيلها بأني أتمنى له أن يهنأ بجحيمه.

لا يضعفني السُّكْر، بل يجعلني أصفق بحرارة لفئران الحي، التي أولمت لنفسها بكابلات الكهرباء، فأظلمت الدنيا لساعات، كانت كافية لتذوق الصمت وهضمه وإخراجه، يجعلني أقفل كل الشبابيك، وفي منتصف الصالة، أحرق كل دواوين شعر التفعيلة وأسطوانات الموسيقا الصوفية التي أهديت إلىّ، فأنا لا أشتري هذه الأشياء غالبًا، أتنشق دخان الحريق حتى أكاد أختنق، وفي اللحظة الأخيرة، كما في الأفلام، أفتح الشبابيك، أتنفس بقوة، أبتسم، بينما نصف جسمي خارج النافذة، أقهقه، حتى يظنني المارة ممسوسة، لمحاولات بدائية، من رجل، لطخ، يظن أن في إمكانه الإيقاع بي.

 

 .

 

رفقة اللا شيء تختلف عن الشعور بالوحدة، وهي بيئة صالحة، حد النموذجية، لنمو بكتيريا القلق وتكاثرها، لتكرار الأخطاء في سمترية، تجعلني أتحسس هلعًا ينتابني وينخر أفكاري مثل السوس من انقطاع مبكر للدورة الشهرية، تجبرني على التعامل مع غبائي كحتمية، وتصالحني في الآخر، على فكرة أنني مازلت، حتى لحظة كتابة هذه القصيدة، أعرف رجالاً من برج العذراء ولا يرتدون ساعة يد، متجاهلة حقيقة أن الرجال المولودين في برج العذراء ولا يرتدون ساعة يد غير جديرين بالثقة، وأن الرجال المولودين في كل الأبراج، ولا يرتدون ساعة يد، يخونون نساءهم بلا مبرر سوى الملل، وغير جديرين بالثقة أيضًا.

 في رفقة اللا شيء أخفض الصوت، وأحيانًا أحوّل الدنيا إلى وضع الصامت، في هذه الحال فقط الصمت مقيت. الفرجة في استمتاع على سرب نمل، خارج من الرمل تحت البلاط، متجولاً في البيت كأنه صاحبه وهم، الفرجة وهم والاستمتاع والنمل.

 في رفقة اللا شيء أحتار، وعندما أحتار، لا يعنيني كثيرًا أن غيري يشعر بما أشعر، ويجلس على كرسي شبيه بهذا الكرسي، في مكان شبيه بهذا المكان، يسأل أسئلة شبيهة، ويعاني صداعًا نصفيًا شبيهًا، لا يعنيني حتى أن غيري هذا ربما يكون أنا أصلاً.

تعنيني فقط هذه الأسئلة؛ ألا تغضب السماء من قدرة الطائرات الورقية على الصعود إلى الأعالي، وترى في ذلك تعديًا على سطوتها، ألا يشعر النهر بالغيظ من قدرة مراكب القش الرقيقة على العوم، ألم تعاقب ليلى مراد نفسها على أنها أحبت حسين صدقي في أكثر من فيلم، وغنت له أكثر من أغنية؟

هذه أسئلة منفية، وستكون الإجابة عليها: بلى، إلا السؤال الأخير، لماذا يحتضن العازفون آلاتهم كأنها أمهاتهم!

 

.



مقارنة بالآخرين، أنا شخص جيد،
 ومع ذلك، سيُكَف بصري من جديد،
 رغم أني لا أشرب الخمور المحلية،
 يومًا ما، سيقف بائع الملح في شارع ضيق،
 وأسفنجة مخرّمة بين ظهره وجواله البني،
 وحبات سوداء تظهر بوضوح في بياض سلعته،
 لا يمنعه هذا أن ينادي: يا ملح يا أبيض لا شائبة فيك،
 وامرأة تشكو للا أحد، أن طبق السلطة تنقصه الألوان، اختفى الجزر من الأسواق، والليمون، والأخضر كله، ولم يتبق إلا البصل.
 مع الوقت، ستصير خطوة بائع الملح أبطأ، ويتغير نداؤه: من يشتري العمر ويعطيني ساعة بلا عقارب؟
 في تلك اللحظة أكون وحيدة تمامًا،
 فوق أطلال المدينة،
 بلا رفقة مزيفة،
لا أصوات ولا كلاب ولا ضوء،
 أقف أمام مرآة معفرة بتراب الانفجارات،
 لا أرى نفسي فيها بوضوح،
أصوب مسدسًا نحو وجهي في المرآة،
 وأطلق رصاصتين فقط،
 واحدةً في كل عين
.

  

.


ما عدت أذكر للحواديت القديمة بدايةً أو حدثًا مركزيًا أو نهاية. ولا للبيوت التي كانت يومًا مألوفة أرقامًا، ولا طرقات مؤدية، ولا مخابئ اختبأنا فيها للعب برئ أو غير بريئ أو لقبلات مختلسة لها طعم غريب.

ثم ماذا يعني أن يكون الشيء بريئًا!
 أيتها الذاكرة افعلي شيئًا، ردي علىّ صوت أمي وهي تقول في بدايات الحودايت: " صلوا على النبي".
في المعاجم هناك فرق لغوي دقيق بين الخواء والفراغ، وبين السأم والملل والضجر، لكن لا فروق بتاتًا بين الأنبياء وقطاع الطرق، بين الخلفاء والقتلة المتسلسلين الحلوين في الأفلام، لا تكلف معرفة ذلك سوى البحث عنه، لكن أصحاب الوقت الضيق لن ينتبهوا.

 وكأنها لعبة، أكملُ الناقص بين فراغات الأصوات والملامح، بين درجتين من النظرات لا يكتشف الفرق بينهما إلا عاشق، أحاول أن أعيد النظرات القديمة إلى الوجوه الشائهة علها تصير أقل قسوة.

الأقدار سرقت صندوق أحجاري الملونة، أيتها الأقدار أنت مدينة لي، اسدي لي خدمة، عليك بأصدقائي، وبعشاق الثرثرة، ومسترقي النظر، والهاربين، بهؤلاء الذين يسيرون وحفنة من الجبس في شنطهم تحسبًا، إن لم تفعلي فسأظل أنفث دخاني في وجه الحياة، حتى وكي تصاب بسرطان البشرة، وحينها، سأشفق عليها، وأواريها قبرًا مرتجلاً، في أي داهية، دون شاهد.

  

 .

 

إذا كان تكوين الناشنكاه على هذا النحو، دائرة أصغر داخل دائرة أكبر داخل دائرة أكبر، صوِّب تجاه الرأس، أو تجاه القلب، أو تجاه الرقبة.

الصلاة انحناء ابتذله انعدام التجديد، والرأس، أي رأس، في داخله عقل مرهق من البحث، والقلب حنين لشيء أخر غير كل ذلك.

ليس لكل الموتى فصيلة دم، لو أن لهم فستكون "أ ب موجب"، نفس فصيلة دمي. لا أحد يعطي القتيل فرصة كي يتذكر شيئًا، ولا برهة مسروقة من عمر، الأعمار مكتوبة في لوح، اكتشفت، بعد شرب نصف زجاجة ويسكي وحدي، أن ديتول يقضي على 99% من الجراثيم، وأنه ليس محفوظًا حتى النهاية.

 فجأةً ينطفئ النور، تنقطع الكهرباء عن المشهد الأخير، الذي ربما يكون نظرةً حميمية في عين، أو غفوة تؤجل قبح العالم للحظات، أو جملة اسمية فقد مبتدؤها خبره، أو راحة يد مضمومة على حلم، أو قلبًا مغلقًا بقفل على رغبة في الفرار، أو طلبًا لا أمل في الاستجابة له.
لن تكون الحياة صورة فوتوغرافية لله بخط الثُلث، معلقة على حائط في بيت فقير، والرحمة بالتأكيد ليست موتًا على معدة خاوية، تقرحت تضورًا، لكن بعد ذلك، في العُتمة التامة، حيث لا شيء إلا الراحة، لا شيء إلا الصمت أيضًا، أي الراحة
.

 

.


أعتقد أنني والمرأة التي تجلس أمامي في القطار، بدأنا مؤخرًا نستغل الفائض القليل من أوقاتنا جيدًا، لا أعرف هذه المرأة، التقينا عند شباك حجز التذاكر في محطة مصر، خبطتني في كتفي كي تحل محلي، وتحصل على تذكرتها قبلي، رغم أن القطار سيطلع في موعده في الحالتين، لم أخبرها أن ذلك لن يجعلها تصل قبلي، أفسحت لها مكاني بلا ضغينة. فمن المؤكد أنني وهي نقسم الوقت إلى ثلاثة، الخوف، وحل الكلمات المتقاطعة تقاطعًا شديدًا، وصناعة الأقنعة المرطبة للبشرة، صناعة منزلية، هذا لأننا أصبحنا جبناء مؤخرًا، نجفل لو مرت بجوارنا بطة في شارع جانبي ليلاً، نصنعها من الزبادي والليمون والعسل، لكنه ليس عسل نحل حقيقي، لا يوجد عسل نحل حقيقي في السوق، لأنه غالٍ، سابقًا لم نكن نخاف إلى هذه الدرجة، ولم نهتم لأمر الكلمات المتقاطعة ولا السودوكو، وكنا إذا أردنا الكلام عن عسل النحل قلنا إنه طبيعي وليس حقيقيًا، وفي حال فشل الأقنعة المرطبة، وهو ما يحدث كل يوم، نسبغ الكريمات المستوردة علي وجهينا وأيادينا، وهي غالية أيضًا، لكنها في النهاية أرخص من عسل النحل الطبيعي، للحفاظ علي جلودنا طرية باستمرار، في أجواء ملوثة تصيب بالغباء والتشقق.

 

.

 

بين النوم والصحوة، مرَّ بعينيه على عرينا وقال: دعينا نتحدث عن الحرية. كان خيطا دخان يتقاطعان في منتصف المسافة، وهما صاعدان إلى السقف في طمأنينة، وكان صعبًا عليّ أن أتحدث عن الحرية في سرير ضيق، قلت: لا، لنتحدث عن الحياة، ورأى هو أن ذلك يبدو أكثر منطقية، فقال انظري.

نظرت، فرأيت قبورًا كثيرة من حولنا، كتل إسمنتية قبيحة، مبنية على عجل، ولا تحمل شواهد تخبر أي شيء عن الموتى الراقدين في داخلها، شممت، على رغم ذلك، رائحة هي مزيج بين الصندل والفُل، ورأيت أنثى عقرب، تمشي في عز النهار، في رويّة لافتة للنظر بين القبور، تلدغ المتسللين، الذين يحبون الحياة، ويقصدون القبور لكل غرض عدا زيارة الموتى، يتصرفون على سجيتهم كأنهم في بيوتهم، يظنون أنفسهم في مأمن من الموت، كانت العقربة تنتقيهم حسب مقاييس لا تبدو لي واضحة الآن- لا تبدو أية معايير واضحة بالنسبة لي وأنا عارية تمامًا- وكانوا عندما يتسرب السُم إلى دمائهم لا يموتون، يتقافزون ويتلوون، راقصين رقصة محترفين، كأنهم بالفعل مدربون عليها، يدقون بأرجلهم على الأرض، فيكسرون العشب الناشف، والزهور التي تنمو لتذبل، لا يعرف أحد منهم أسماءها، فلا حارس للمقبرة، ولا زوار فكروا في سقايتها، يرفعون أياديهم، يواصلون الرقص في حيوية مدهشة، على وقع لحن ملحمي، استطعت تمييز صوت كل الآلات فيه، كانت الموسيقا طالعة من قلب القبور، تتحدى أن يوقف تصاعدها أحد، حتى أنها وصلت إلينا في غرفتنا، التي هي ليست غرفتنا أصلاً، بالسريرالضيق، والشيش الأخضر، والحوائط البيضاء، بلا ساعة على الحائط ولا بندول نحاسي.

أطفأت النور لنسمع أكثر، تدريجيًا انسحب الصوت، حتى سكت، وأخذنا، في الظلام، نراقب دخاننا، الذي يظن، على ضعف ذراته، أنه قادر على اختراق السقف والوصول إلى السماء وحقن السحاب حتى يثمل!

 

.

 
أتسلق خطوط الدخان، وحتى أستكمل طريقي، وصولاً إلى سقف الغرفة، أمشي على الحوائط كقط، وفي الخارج، لا أحد يدري شيئًا، عن شرايين دم حمراء في عيوني، وحجر ثقيل أسفل رأسي، وأرق يغتالني، على مراحل، وشحوب أصفر حوله الدخان، بعد اختلاطه بالأزرق في الجو، إلى الأخضر.

في الخارج، لا أحد يدري، عن أسراب نمل، تتخذ من عمودي الفقري طريقًا، إلى وجهة مجهولة، عن بقايا نبيذ في الكؤوس، وبقايا ماء في المآقي، وبقايا من رحمة الآلهة في الأخيلة، لا أحد يدري عن أبواب، بلا مقابض، حيث لا خروج، ولا دخول، عن تلك اللحظة، التي تتحول فيها أصابع قدمي إلى رمل، يخطو فوق رمل، عن الانتظار، والانتظار، والانتظار، والمخاوف الجديدة من الغرق في البانيو.

في الخارج، لا أحد يعرف شيئًا عن ضوء النهار، الذي يتحول، فجأةً، إلى الأسود، عن سدادات بلاستيكية، في أنفي، تمنع عني الهواء، عن وطاويط عمياء، وصور ملونة، للأشباح، تحوم حولي، حيث أنا، وحدي، أتسلق خطوط الدخان، وحتى أستكمل طريقي، وصولاً إلى سقف الغرفة، أمشي على الحوائط كقط!

 

 .

 

عشت في مدن كثيرة، ولن يحضرني ساعة الجد سوى صخور رمادية على لسان ممتد داخل بحر، وسماء اسودت، وثقلت نجومها حتى كادت تقع، لن تحضرني ساعة الجد مواقف ملونة.

يبدو ألا رغبة حقيقية عندي في كتابة قصيدة مترابطة، مَن قد يهتم لخوفي القديم من الجفاف، وأني كنت أكتب بخط اليد على حائط المطبخ، نص المنشور الدعائي: قطرة مياه تساوي حياة. أو أني ما زلت أحب الفرجة على فيلم حبيبي دائمًا، لأن ماجدة الخطيب تقول الشعر فيه، وأنا أحب ماجدة الخطيب، وأكره بوسي ونور الشريف. ليس لأنني تأكدت أن الحب والموت وجهان لعملة، وأن الأجساد، على عكس الألسن، لا تعرف طريقة متقنة للتظاهر، وأن قبلات الحب بلا صوت، إلى آخر تلك الحكم الفارغة التي يتوصل إليها إنسان لديه وقت فراغ كاف لتأمل الألم.

ابتلعت بعض الجمل، وشربت ماءً، لكنها ظلت واقفة في زوري، وحين يبتلع الشاعر الكلام لا يعود قادرًا على قول كلام جديد لأربعين ليلة، تطلع الجمل من فمه ناقصة، مخدوشة الأطراف، كشظايا، تتطاير، تترك إحداها ندبة تحت عيني، في الأول يكون هذا مؤلمًا، ثم يصبح مقلقًا، ويعاظم خوفي من التصوير، كانت الكاميرات تكرهني، وتمنحني عشر سنوات إضافية، الآن، عشر سنوات إضافية وندبة.

 

 .


لا أدري من كتب أنه يشعر كما لو كان سلحفاة مقلوبة على ظهرها/ صدفتها، ربما لم يكتب أحد ذلك، لكني أشعر أيضًا، وربما ليس أيضًا، أني سلحفاة مقلوبة على صدفتها، وهذا شيء سخيف.
ذات مرة في فيلم إيراني، لم أعد أذكر اسمه، ولا قصته، ولست متأكدة أني شاهدته، رأيت سلحفاة مقلوبة تحاول عبثًا العودة إلى وضعها الطبيعي، ضغطت
pausوذهبت إلى المطبخ لأعد شيئًا أشربه، غالبًا كان شايًا، واضح طبعًا في هذا الكتاب أن الشاي هو مشروبي المفضل، وأنا أفكر إن كانت رجعت إلى وضعها الطبيعي أم لا، حتى لو الشاشة في وضع التوقف، كنت متألمة لأجلها، أكثر من ألمي لحال النمل الذي وجدته في برطمان السكر، واضطررت لإغراقه في الحوض.

أشك أن تلك السلحفاة قد تتألم من أجلي لو علمت بحالي، أنا عمومًا أكره السلاحف، ولا عمار بيني وبين جميع الحيوانات، لكن ليس ثمة تعارض.

 

 .

 

عندي جثة حية،
أضيفها تلقائيًا إلى قتلى الحرب،وقتلى الكباري المنهارة في الحجاز كل موسم حج، وقتلى التظاهرات،
كلما حدثت مصيبة يزداد هؤلاء واحدًا،
أضيفها إليهم وكأنها ليست لي!
كلما مررت بميدان رمسيس، أرجعت البصر، لأتأكد أن كل هذا حقيقي.
أحيانًا كنت أوقف المارة وأسألهم، يا عم ماذا أفعل هنا؟ أو يا ست ماذا أفعل هنا؟
مرة أوقفت طفلاً وسألته: ماذا أفعل هنا يا شاطر؟
لم يحدث أن أجابني أحد، كانوا ينظرون إلى نظرات مشفقة، ربما ظنوا بي خبلاً، قال الطفل لي: بس يا هبلة.
 فلم أجد مفرًا من أن أنظر في مرآة صغيرة في حقيبتي وأسأل نفسي ماذا أفعل هنا؟
كلما صحوت من النوم، سواء في بيتي، أو في بيت أمي، أو في فندق بدائي، أقف أمام مرآة الحمام المربعة دومًا، وأسأل نفسي، ماذا أفعل هنا، أضيع الوقت في مكالمة تليفونية انتظارًا لأن ترد المرآة، لا ترد طبعًا، فأيأس وأسأل نفسي، لماذا تفضل الحمامات المرايا المربعة؟
كلما دفنت واحدًا من أصدقائي، السفلة، الذين يموتون ويتركونني، بشكل يكاد يكون دوريًا، أعود فأخلع ملابسي السوداء، وأقف أمام المرآة عارية، وأسأل نفسي: ماذا أفعل هنا بعد؟


.

 

 فككت المدينة،
وكأنها لعبة مكعبات بلاستيكية،
كنت أبحث في باطنها عن سبب عطبها،
استغرق الأمر وقتًا كان كفيلاً بضياع بعض المسامير،
لم أصل إلى شيء،
أعدت تركيبها دونها،
فظلت على تلك الحال، مفككة كوسط رقاصة آخر الليل،
مفككة أكثر من الأول،
تكاد أجزاؤها ترحل عن أجزائها،
إنها تخشى الاعتراف بالزمن، لذلك لم تعد تحتفل بعيد مولدها.
 قلت لها: يا غبية، لن أرث أشياءَ، لن أور
ّث أشياء، لم أمتلك بيتًا أو ابنًا أو حبيبًا أبديًّا، حتى حبيبي القديم صارت له وجهات نظر مختلفة عني تمامًا في السياسة..
وأنهيت كلامي بشكل درامي أضحكني كثيرًا فيما بعد
: ليس هناك أخف من كأس ممتلئة، ثم عدتُ وعدّلت الجملة وقلت: ليس هناك أثقل من كأس فارغة!
لكن المدينة، الفضولية
بطبعها، لم يستهوها أن تتعرف إليّ، لذلك فضّلتُ أن أجمع الحياة كلها في حقيبة قماشية، يسهل تحضيرها، يسهل حملها، يسهل نسيانها على رف القطار.


 .

 

 وكأنما كنت طول عمري أحمل كرة زجاجية ثقيلة، تتشقق شيئًا فشيئًا، وكأن في داخلها ماءً مسمومًا، أو حممًا، أو غاز أعصاب.
كنت أتوخى الحذر كي لا تنفجر، إذ إنها لو انفجرت فلن أموت، سأُجنّ، ويتشوه وجهي، وسأظل هكذا إلى يوم القيامة، مجنونة، وشائهة، تمشي في الطرقات وهي تحمل هيكلاً معدنيًا كان في داخل كرة زجاجية، كانت ثقيلة لأنه بداخلها ثم خفّت.

وكنت كل مساء، قبل نومي، أضع تحت كل شق من شقوق الحوائط إناءً، وفي الصباح أفرغ تلك الآنية، التي تحوي مادة حمضية، في المواسير، أتحمم بها، وأخرج لمواجهة البلدة، بلسان قادر على الذبح، وقلب متحلل، أو لنقل قارَبَ على التحلل، لم يبق إلا يومان قبل أن يغمض عينيه نهائيًا، ويترك للمادة الحمضية أمانة أن تأكل أرضية الغرفة، وبالتالي تأكل سقف الجيران الذين يعيشون في الدور الأرضي.


.

 

 أنا والعالَم نشبه بعضنا البعض، أحيانا نركن للهدوء، ونذهب إلى الترعة، بجوار الأراضي المزروعة بالأرز، ونصيد القراميط، وأحيانًا يصيبنا الملل من الهدوء، فنشعل حرائق هنا وهناك، ونجلس ملتذين، نستمع للطقطقة ونعد الألوان: أحمر، أزرق، برتقالي، هناك القليل من البنفسجي.

 وأحيانًا نحكي الحواديت الصغيرة، مرة حكيت للعالَم عن رغبتي في أكل ساندوتش جبن أبيض، من التي كانت جدتي تعدها في البيت، ومرة حكى لي العالَم عن رجل حيّ، ليس تمثالاً قبيحًا في ميدان قبيح بمدينة قبيحة جديدة، يريد أن يأكل دون أن يضطر لغسل يديه، وأن يثمل ولا يصحو على صداع مؤلم، أن يصعد إلى قمة الجبل بلا لهث، وحين يصل إليها يجلس وتصفو نفسه، وربما يلتقط طيف الحقيقة، أوعلى الأقل يستخدم السماء مرآة يرى فيها نفسه. يريد أن يراني وأنا هنا وهو هناك.

قال العالَم: هذا الرجل غريب يا أسماء، غريب جدًّا، يريد أن يكون سعيدًا!

 

.

 

 
أحتاج إلى بعض الجرأة لإعادة قراءة الكتب التي قرأتها في طفولتي، أخشى أن يغمض عليّ معناها الآن، إذا غمض، فالعمر يرجع إلى خط البداية. أعرف أن بعض الجماد طيب مثل بعض البشر، لكني مع ذلك أحتاج إلى بعض الجرأة، لأقول لحبيبي، قبل أن يصير حبيبي، إنه ملهم بشكل ما، وإن لبعض كلماته أثر قُبلة، لعلّي أضفتُ: لا تخشَ اقترابًا.

ولعلّه لاحظ أن الراية السوداء كانت مرفوعة على الشاطئ، هذا ينذر بالخطر، لكن شخصًا واحدًا محظوظًا تطفو رأسه الآن عن بُعد، ما زال على قيد الحياة، وعندما سيعود إلى الشاطئ في نهاية اليوم سيكون بالتأكيد أكثر سعادة من الذين خافوا، وعادوا يظللهم السحاب حتى سلالم البيت.

أحتاج إلى لون يشبه لوني، لأخبئ تدفق الدم إلى وجنتي، أن أمحو بقايا الطفولة المترسبة في وعائي، أن أمنع السخرية من تشويه الجمل، والذهاب بمعانيها إلى شواع جانبية، لا تفضي في النهاية إلى مستقَر، وأن أتمكن من رسم حاجبي على شكل ثمانية، فأبدو أكبر، وبهذا يكون العمر ذاهبًا في سكّته الطبيعية، نحو الأمام، نحو الموت.

 .


الوصول إلى المنعطف،
لا يعني، مثلما ظننت طول عمري،
أنني قطعت أكثر من نصف الطريق،
مع ذلك، سأستمر في الجلوس قرب الباب،
حتى لو ترك ذلك انطباعًا بالرغبة في الهرب،
 أو بالانتظار،
أعلم أن ترك الشبابيك مفتوحة، في الشتاء،
قد يسبب الأمراض الصدرية،
لكنه يجلب نورًا وجزءًا شاسعًا من الأفق
،
وهي غنيمة يعتد بها،
إن حدث وصادفتُ شارعًا مزدوجًا،
-وأنا أصادف شوارع مزدوجة كثيرًا في القاهرة-
 سأختار المشي حيث العربات في مواجهتي،
لتأمين ظهري،
لن أذهب أبدًا مع الطريق إلى الوجهة ذاتها.

 

.

 

خرجت إلى الشرفة أقتفى آثار قدميك، لم يكن هناك أثر لك على الأرض، فعرفت أن الأسفلت ليس كمثل الأرض الرطبة، لا أحد يحفر فيه عميقًا، وشممت رائحة صدأ.

في المقهى المزدحم فتى، يعزف لنفسه عزفًا غريبًا على ناي، وبينما أنظر إليه، قبلتني طفلةٌ متسولةٌ، وطلبت نقودًا، لتشتري علبة حليب، فشممت رائحة صدأ.

احترت، كأكثر ما أكره الشعور به، في التعرف عليّ، نظرت إلى ذائقتي القديمة، قلبتها بين يدي، ثم ألقيتها في سلة القمامة، نظرت في المرآة للتأكد، وعندما غنت فيروز" راجعين يا هوى"، غيرت المؤشر سريعًا، وشممت رائحة صدأ.

تذكرت أن فرجينيا وولف، وسلفيا بلاث، وآن سكستن متن منتحرات، وأن فروغ فرخزاد، التي كتبت " ربما الحياة هي إشعال لفافة تبغ في البرهة بين مضاجعتين" ماتت في حادثة سيارة في الثانية والثلاثين، لكن أحلام مستغانمي في الستين من عمرها، مازالت على قيد الحياة، وتحقن شفتيها بالبوتوكس كل عام، فشممت رائحة صدأ.
صبغت الخصلات التي ابيضّت في شعري، وخبأت صور أشعة أجنتي الذين لم تكتب لهم الحياة، ضبطت هاتفي على وضع الصامت لأنظر إليه بين دقيقة وأخرى، لكنه لم يرن من يومها حتى الآن، فشممت رائحة الصدأ أقوى هذه المرة، كأنما عظامي حديدٌ قديم.

 

.

 

 
في الانتظار أتدرب على أشياء جديدة، غير قراءة روايات موراكامي، أحاول مثلاً تجاهل مشكلتي القديمة مع الجيوب الأنفية، وأن أتعود على كَبر على حب رائحة البخور- الصندل رائحة جميلة، من ميزاتها أنها لا تذكرني بشيء، وقد اعتدت أن الروائح هي أكثر ما يذكرني بأحد، بشيء، بمعركة خاسرة. أُخلص في ملء رئتي بأكبر كمية ممكنة من الدخان، ليفسدا سريعًا
. وقد أصطاد بنبلة بضع آلهة متقاعدين هاربين من السماء، للتسكع في مجاهل أرضية، ومزاحمتنا في غرفنا الضيقة، وشوارعنا القذرة وضواحينا الميتة، وكأنها تنقصهم! أحيانًا أستعمل قدرات لا أدري من أين أتتني، في قطع الطريق على رياح عاتية، تنوي اقتلاع بيوت بحارة، على شواطئ لا يعرف أهلها أدوات للتواصل غير النار والنجوم.

في الانتظار، لا شيء يؤلمني أكثر من ذباب كبير، يأكل من الجرح كما لو في آخر زاده، ونسوة يمضغن الكلام ويبصقنه، لتصبح الطرقات الضيقة أكثر قذارة.

 في الانتظار يشترك الله في باقة اتصالات موفرة، ويظل طول الليل يتصل بأرقام عشوائية، للتحدث مع أشخاص لا يعرفهم إزجاءً لوقت فراغ لا ينتهي، ولن ينتهي.

في الانتظار عرفت أن أسوأ مكان في الجحيم محجوز للذين لا يغادرون من سكات، لمن اعتادوا أن يقيموا حفلات باذخة للوداع.
وفي الانتظار حتى الموسيقا تعلمت الأذى
.


 

.

 

 مرة أرادت امرأة تسكن معي في الجسد ذاته أن تموت، كانت تصرخ وتبكي وتدبدب بقدميها في الأرض، تتوقف للحظات، تضع القطرة في عينيها، ثم تستأنف البكاء، كان أداؤها تمثيليًا، لكنها فعلاً كانت تريد أن تموت، وهذا حق طبيعي، كنت بدأت أشعر بالملل منها، وأنا لا أشعر بالملل بسهولة هذه الأيام، لأن هذه الأيام باردة، فحاولت قتلها. صحيح أني لا أحب القتل، لكني لا أرفضه نهائيًا لو كان لازمًا لإصلاح وضع مأزوم، في العادة أتريث، خصوصًا لو تعلق الأمر برفقة طويلة الأمد، أفضل أن يموت الرفاق القدامى بشكل طبيعي.

أرغب أن تموت نسختي القديمة، أقدم نسخة مني، التي وُلِدَتْ يوم وُلدْتُ، وشربت معي اللبن البودرة، ووقعت من فوق السرير معي وشجَّ رأسي ورأسها، الثرية العاجزة، راكمت التجربة فوق أختها حتى اكتنزت، رغم أنها لم تسافر بالطيارة ولا مرة، وأكلت اللحم، مسلوقًا ومشويًا وباردًا، قبل أن أتحول إلى نباتية تشمئز من مجرد الفكرة، إنها تستحق القتل طبعًا، لكن تعلمون أن القاتل لا يرث.

 

.



لا يفزعني أن يُعثر على جثتي ذات يوم،
 شائهة،

 
لن يتعرف إليها أحد،
 من بين عشرات في مقبرة جماعية،
 بمنطقة غير آهلة،
 بقدر ما يفزعني أن أدفن في مقبرة معلومة،
 بشاهد رخامي،
مكتوب عليه مقطع من أغنيتي المفضلة،
 يعرف بعضهم مكانها،
 ويأتون لزيارتي،
 الحياة سيئة قطعًا وبالغة الملل،
لكن ليس إلى هذا الحد،
أنا أموت فقط كي لا أرى أحدًا.

 

قد يعجبك ايضا

تعليقات