لا أحد في الخارج
مختارات من جحيم محمد أبو زيد
ذات يومٍ
سنشتري الأيام من الصيدليات
والحوانيت على الطرق السريعة،
في عبوات صغيرة سهلة الفتح
أسبوع،
أسبوعان،
شهر على الأكثر (للحجم العائلي)
لأوقات صاخبة، وحزينة، ومريعة.
لن يشتري الأغنياء المدينة بكل محلاتها
كما خمنتم
لا يوجد إقبال كبير
كما قد تتوقعون
سيكون الناس قد ملّوا الحياة
وفضّلوا الذهاب إلى الأسواق السوداء وعيادات الإجهاض
للتخلص من أيامهم الباقية
أو مقايضتها جميعًا
بعود كبريت
أو لحظة واحدة حقيقية
ذات يوم..
ستكون هناك صيدليات مغلقة،
حوانيت صغيرة مهجورة
على الطرق السريعة،
ذئاب تعوي
ولا شيء آخر.
وُلِدْتُ بساعة على معصمي
يتطاير منها الزمن
كأوراق رزنامة على الحائط
في كل مكان أرحل منه
تجدون خلفي العقارب
في كل مكان أحط به
أضع الأيام مع البيض
في إناء السلق، ثم أنام.
في الليل
أراقب عمري يتناقص في المنبه
مثل كوب شاي
أرتشف منه في بطء
أمضغ الثفل
ولا أفكر في المرارة
لكن في الجذام الذي التهم وجهي
أَسمعُ عواءً
أقول: لعلها الأيام تريد أن تمضي.
لكني أعرف أن العواء مني.
ذات يوم
ستتعطل الحرب
فنهرول سريعًا إلى أماكننا القديمة
نفتح الأبواب
فنجد الجثث على السرائر،
رماد المصطافين على الشاطئ،
بقايا النادل في المقهى،
مقابر الأطفال في ملعب الكرة
ربما ساعتها، نعيد ماكينة الحرب إلى العمل
حتى لا يفجعنا الغياب.
ريشة تفكر في جناح الدجاجة
آمل أن يحدث هذا قريبًا
ليس قريبا جدًا
ـ كي لا أخدع نفسي ـ
لكن على مدى البصر؛
أن تطير النافذة في الهواء
ترفرف بضلفتيها كنسر
تغمض وتفتح شيشها، كعيني مراهقة على شفا الحب
أن يُحَلّق السقف
ويمطر مصابيح على القرى المظلمة
أن يسير الباب
يلقي التحية على الباعة الجائلين في الشارع
ويحتسي القهوة مع عجوز وحيدة
على أطراف المدينة
أن تتهدم حوائط البيت فوقي
حتى تضحي هرمًا
ليس أكبر من خوفو ولا أصغر من منقرع
يصبح عجيبة جديدة
تحير المنقبين وعلماء الآثار
ومريدي الأولياء الصالحين
يبحثون جميعًا
عن باب الطريق إلى المقبرة
عن كنه الساكن بالداخل
بلا جدوى
فيما أُطِلُّ عليهم
من تحت الركام
وحيدًا
ومهجورًا
إلى الأبد .
حبيبتي زرافة
تمد عنقها من البلكونة
فتأخذ الخبز والبرتقال من البائع في الشارع
ترفع رأسها لتنفخ في السحاب،
تزيحه قليلًا
كي يظللني وأنا أسير في الحر
لا أعرف متى أصبَحَت هكذا
لا أذكر هل طالت
أم أنني صرت أقصر
لكنني حين أسير إلى جوارها
في الشارع ممسكًا يدها
تنظر في البلكونات
وتحكي لي عن أحراش الأسطح،
ورائحة البازلاء المحروقة
في مطبخ جارة الدور الرابع
لا تبصوا علينا أرجوكم
فحبيبتي تشعر بالحرج
نسمعكم ونحن نشتري بلوزة مشجرة من زارا
نرى نظراتكم المتوجسة في المصاعد الزجاجية
فيما نصعد سلالم المول الكهربائية
وقد تصلها نميمتكم
حتى لو تحصنتم في ناطحات السحاب
فقط
شاهدونا في صمت
ونحن نبتعد
رويدًا رويدًا
حتى نغيب في الغابة الورقية
ولا تكفوا عن التمنّي
أخوية الأسماك
بعد موت السمكة الأرجوانية
وضعني أخي في الحوض
ظللت أروح وأجيء
هازًّا زعنفتي
مختبئًا خلف العشب الصناعي
من قطة تحملق فيّ.
يذهب إلى مدرسته ويعود
يلوّح لي بيده
وهو يجلس على طاولة السفرة
يذاكر دروسه
كلما سألته أمي
"أين أخفيت أخيك؟"
يموء
هازًا رأسه يمينًا ويسارًا
كنت أضيء في الظلام
لكن أحدًا لم ينتبه
حتى في الليالي التي انقطعت فيها الكهرباء
والتفوا جميعًا حول الحوض
مندهشين من السمكة الجديدة
التي تشتعل كالمصباح
وفي فمها صراخ مكتوم.
تعريف جديد للشعر
لم يُجَرّبُ الغراب أن يلقي قصيدة:
"صوتي قبيح
من سيسمعني؟"
لم يفكر في جائزة نوبل:
"ليس لدي بذلة سوداء
لحضور حفل توزيع الجوائز"
لم ينشر ديوانًا:
"لا نقود معي
أدفعها للناشر"
لم يكتب شعرًا في حبيبته:
"ليس لي اسم
كيف ستميزني عن غيري؟"
لكنك تطير،
وتعرف الطريق.
رفرف الغراب سعيدًا
ـ أنا قصيدة إذن.
الحياة ليست عادلة
كان بإمكان الطيور أن تسير على الأرض
أن تداوم كالآلات في العمل
كان يمكن أن آكل الحَب
أن أطير في السماء
أسير فوق السحاب ولا أبتل
لكنني تائه
أتنقل بين القطارات
ككمساري يذهب إلى عمله
رغم خروجه على المعاش
أبحث عن مستقبلي في "جوجل"
ليفاجئني انقطاع الإنترنت.
الحياة ليست عادلة
رأسي يتدحرج أسفل المقصلة
وجسدي يرفع السيف في فخر
محييًا صيحات المعجبين
رأسي بطيخة على عربة بائع متجول
وجسدي يُثبّت مصباحًا فوقه
كي يضيء الطريق
ضلّتَ قدمي
وتوقفت الطائرات في الهواء
فلم يعرف كلانا إلى أين يتجه
الحياة ليست عادلة
لا الأطفال الذين طاردوني صغيرًا صاروا ملوكًا
ولا أصبحت حاتم الطائي
جيبي مثقوب
ولا طعام يكفي بقية الرحلة
أخلع أذني وأقدمها لأول عابر
فربما يسمع صيحات الاستهجان
بدلًا مني
الرمال تبتلعني
وأنا أنظر إلى طائر وطائرة في الأعلى
يفكران في موسم التزاوج.
لأنني أتحدث بسرعة، يظن الناس أنني أشتمهم، رغم أني أُشيد بهم. بعض الناس حين أوبخهم يأخذونني بالأحضان. مع الوقت تعلمت أن أتحكم في ملامحي. سأقول كل شيء. فلتسمعيني أيتها الطبيعة الصامتة، ولا تشي بي.
نحر المجاز
أمام مقهى المثقفين، مرت جنازة
قال النادل: الاستعارة في النعش
لم يقم الروائي
غاص الناقد في مقعده
حتى صار علبة شاي
قال الشاعر: البقاء لله
ثم راقبوها جميعًا تبتعد
المقهي، وحده، حمل رواده فوق يديه
وهرول وراءها
كل دقيقة ينظر خلفه في أسى
ناعيًا أكياس سكر، ملاعق شاي، شعراء
سقطوا منه
ثم تواصل الجنازة سحله.
اِفتح يا سمسسم
ثمة أشخاص يريدونني في الخارج
يقفون بالمشاعل في الطريق المظلم
يهتفون باسمي
ينتظرون أوبتي
اِفتح يا سمسم
ثمة طفل ينتظرني في الخارج
لا بد أنه ملّ
لا بد أنه تعب من الضجر واليأس
لا بد أنه كبر الآن
ذهب إلى المدرسة
خرج مع أصدقائه
تزوج
ونسيني
اِفتح يا سمسم
لا كنوز هنا
لا شيء سوى فيروسات متجولة
تتنقل من قدمي إلى صدري
لا شيء سوى سعالي
يضيء المكان
وحائط أسود
أخاطبه كمجنون
ولا أعرف ماذا يحدث
وراءه.
لا تترك أثرًا خلفك
سافر جدّي ولم يعد.
كان ذلك قبل مولدي بسنوات طويلة
لكني أحفظ الكثير من الحكايات عنه
مثل أنه عَبَرَ البحر عائمًا إلى الضفة الأخرى
أنه ظل هناك وحيدًا على الشاطئ
بعد أن نسي طريق العودة
رواية أخرى تقول إنه
نام في الشوارع
وبالت عليه القطط والكلاب
حتى فقد ذاكرته
حكاية ثالثة تروي أنه تزوج عشر مرات
وأنجب مائة وتسعين ابنًا
وكان يرسل كروت بوستال إلى أمه
لا توجد فيها كلمة
فقط بحر يتمدد أمام الرمال مستغرقًا
في نوم طويل.
عثروا على الكروت بعد وفاتها
ـ ليس مكتوبًا فيها اسمه للأمانة ـ
لكنهم خمنوا أنها منه.
الآن
بما أنني في مدينة بعيدة على البحر
ووحيد
ولا أقدر ـ مثله ـ على العودة
أفكر لو عَبَرْتُ الموج خلفه
ربما أجد أقارب هناك
وربما مدرسة باسم عائلتي
ومقاهٍ
ومصانع
وأناس يستقبلونني باحتفال رسمي
ويسلمون عليّ في الشارع:
ـ كنا ننتظرك.
ـ لماذا تأخرت على الجنازة؟
ثم يصحبونني إلى حجرة الدفن
أرفع التابوت وألقي نظرة
فأرى وجهي.
أرسَلْتُ إليكِ غُرابًا
يحمل وردة في فمه
فلم يعد
أرسلت عقربًا
مُحمّلًا بالعَوْسَجِ والكب كيك
لكنه لم يصل
أرسلت فئرانًا وجرذانًا وعناكب
تجر اعتذاري كالجثة خلفها
فماتت في الطريق
جُبْتُ الشوارع والبارات
وأنفاق الصرف الصحي
لكننا لم نلتق
متى يا حبيبتي
ستضعين صندوق بريد
وترسمين عليه عظمتين وجمجمة
كي لا أضل؟
في الماضي، كان اسمي يخيف الديناصورات. شجرة لا تجرؤ أن تقف عصفورة عليها. يقولون: "أبوزيد"، فيجفل الزناتي خليفة، يهرول الموظفون إلى مكاتبهم والطيور إلى أعشاشها. حين أسير في الغابة، تناديني الجنيات، فأبزغ من الأساطير، تزأر الأسود على ذراعي، يحط غزاة الفضاء بعيدًا.
في اجتماعات العمل المملة، اكتشفوا جانبًا آخر فيّ، هادئًا خفيف الظل. أما في السفر، فكنت أساعدهم على حمل حقائبهم وأغراضهم الثقيلة على سبيل المودة، أترك لهم مقعدي جوار النافذة، حتى ينسون رنين اسمي تمامًا، حتى يضربون كتفي ضاحكين: "لم نكن نظنك هكذا".
في المطعم أترك للنادل بقشيشا مُرْضِيًا، حتى لا يلتفت إلى غابات الأمازون النابتة في رأسي. في الحفلات، أغرف الموسيقى في أطباق أوزعها على الأيتام. أما المرايا، فلم أكن أنظر إليها، فضلت عليها البئر. أحدق فيه وأستخرج الكلمات بسرعة عاملٍ في منجم يوشك على الانهيار.
أنا محمد أبو زيد الحقيقي، الغريب الغائب، عدو نفسه، صديق الحيطان والشجر، وجهي حجر قديم منزوع من الجبل لتوه، حاد تغطيه النتوءات، عيناي تختفيان خلف سحابتين، فمي مغلق للأعطال، قلت كل ما لديّ دُفعة واحدة، صمتي حزين.
أنا محمد، في الثامنة والثلاثين، مضى جل عمري ولا أريد أن أشحنه مجددًا، أسند عكازي جانبًا وأرقص التانجو مع عاملة المقهى. أحب الجنازات وأكره الأعراس. أحب الموت والمكرونة وأكره الجاذبية الأرضية. كنتُ ذات يوم عشبًا فاجتثتني قصاصة الحشائش. كنتُ مِلْحًا على حافة البحر فعبؤوني في الأكياس. لكني لا هذا ولا ذاك، جف البئر وملأت المرايا المنزل، توقفت الطائرات وتحطمت النوافذ، ووقفت وحيدًا هنا في محطة القطار، أجيب من يسألني عن اسمي بهزة رأس واثقة، ونظرة ثابتة لا تصدر إلا من مجنون.
تَعلّمْنا الحياة هكذا:
القُبلات من الأفلام
إطلاق الرصاص من مسلسلات القناة الثانية
تسلق الأشجار من القردة
النداءات من الباعة في الشارع
وحدها النهايات السعيدة التي قرأنا عنها في الكتب
لم نجدها
حتى بعد أن ضاعت عيوننا
وتوقفنا عن القراءة
ومشاهدة القردة والأفلام
ظلت النهايات
مجرد شبح
يمرق أمامنا
تاركًا ثقبًا صغيرًا
يكفي لعبور رصاصة
في الروح.
هكذا هي الأيام:
طرق على الباب
ولا أحد في الخارج.
تعليقات
إرسال تعليق