القائمة الرئيسية

الصفحات

مختارات من ديوان فأر متردد / أشرف يوسف

 

 مختارات من ديوان فأر متردد

 أشرف يوسف 

 



 


(1) 

مُضطرٌّ أن أخرجُ الآنَ من جُحري...
بِنِيَّةِ أن أكونَ صَيدًا سهلًا.

 

سأنتَحِرُ؛

أعني سأنتَحِر..
لأنَّ الحُبَّ لِمُجرَّد الحُبِّ

مَحْضُ فأرةٍ
تَبحَثُ عن معنى المدينَةِ

بين كَومَةِ  كُتُب لأفارقة ومغارِبَةٍ

ولبنانيِّين وسوريين وعِراقيِّين جُدُدٍ...

أَصدُقُكم القولَ.. أنا فأرٌ متردِّد.
سَقَطَت أسناني داخِلي.

مُنذُ قَبَّلَتني ابنةُ أَحلامي البَلْهاءُ، صار عَليّ

 أَنْ أكونَ عَبْدًا لِرَغباتي.

والعبوديَّةُ كما يَعْلَمُ الجَميعُ..

تُوَلِّدُ التردُّدَ.

العبوديَّةُ يا إخوتي، أَوقَفَتني كَفاتِحي البُلدانِ
في انتظار مُفردَةٍ، فَجُمْلَةٍ

لِتبدَأَ الوليمةُ الليليَّةُ.

 


(2)

أُردِّدُ على مسامِعِكُم

وآذانِكُم القَذِرَةِ..
ما الذي بإمْكانِ فَأرٍ

اعتادَ الاختِباءَ في المجاري أَنْ يَفعَلَه

وهو في نَفْسِ الغُرفَةِ أمامَ نَفْسِ المرآةِ.


ماذا تَظنُّون عن أحلامي

سَهْلَةِ الثُّبُوت
سَهْلَةِ الارتِماءِ بينَ أَحضاني
هل أُحصيها لَكُم..
مَثَلًا
أَنْ تَهتزَّ الأَرضُ أَسْفَلَ قَدَميَّ
ويُرَجَّ العَالَمُ، وتَتوهَ جاذِبِيَّتُه.
ما الَّذي بإمكانِ فَأرٍ رقيقٍ مِثلي
أَنْ يُنْجِزَه لمواجَهَةِ هِزَّةٍ أَرضيَّةٍ
ووُرودُه الذَّابِلَةُ
تَفوحُ بالدِّماءِ، ويُغطِّيها الخَراءُ الإنسانيّ...

تَخيَّلوا؛ فَلَنْ تُصابوا بِضَرَرٍ لو ظَنَنتُم
أنَّني أَفرِضُ على واقعي ما هو غيرُ مَوجودٍ
وعلى ما هُوَ غَيرُ مَوجودٍ مُجرَّدَ تخييلٍ

عن فَأرٍ يَسكُنُني..
فيختلطا بِبعضِهِما البَعض،

وبمجرَّد النَّظَر في المرآةِ
أرى نفسي عِملاقًا طَيِّبًا
بَيْنَ أَربعَةِ جدرانٍ.

هل هذا صَدى صَوتي

الَّذي تَلتَقِطُه أُذُناي المنكَمِشتانِ
وهو خارِجٌ من المدينَةِ
اخْتَبَأَ في قَرْيَةٍ،
وهو خارِجٌ من قَرْيَةٍ
اختَبَأَ جيِّدًا في حفرة وراءَ بوَّابَةِ السِّجْنِ...
غَطَّاني الصَّمتُ واختَفَت من أمامي الأَلْسُنُ

الَّتي كانَت تُردِّدُ كَلماتٍ من نَوْعِ:
«لا واللهِ»،

«مَعَ السَّلامَة»،
«مِشْ بالظَّبْط كِدَه»،

 «رَوَّقْ»،
«مِسيرها تِحْلَى»...
إلى آخِرِه من ألفاظٍ تَتداوَلُها جَماعَتُنا

وهي تَتلاطَمُ وتَتصارَعُ
وراءَ صُندوقٍ من القمامَةِ،

وفي مواسير الصَّرْفِ

وبينَ نَوافِذِ الشُّقَقِ المكتومَةِ.
سِيَّانَ؛ فأمَاكِنُنا التي نَرتادُ

يَعْرِفُها القاصي والدَّاني 
فَما نَحْنُ إلَّا ظِلالٌ مَذعورَةٌ يُحرِّكُها الفَراغُ
بينَ دوائِرِ الضَّعْفِ
وبينَ مَناوِرِ البُيوتِ
وفَوقَ خُرافَةِ أَنَّنا وحوشٌ ومَصَّاصو دِماءٍ
زِدْ على ذَلِكَ:

كَوْنُنا مَعكوسٌ؛ ما نبدو بين ناظِرَيْكُم
مُجرَّدَ ثُلَّةٍ من المغفَّلين
وتَحديدًا بين تلك الجُدرانِ الَّتي اخْتَرْناها
وأَنْتُم بِداخِلِها مُكتَئِبون لَيْلَ نَهارَ
ولا تَكُفُّون عن إغْوائِنا بِقِطعَةِ جُبْنٍ في مَصْيَدَة
ما هي إلَّا بمثابَةِ نِداءٍ خَفِيٍّ لملَكِ الموت
على جُثَثِنا المزْدَهِرَةِ بِفَواتِ الأَوانِ
وهَذِهِ الأَكُفُّ الدَّنيئَةُ -أَكُفُّكُم-
تَرفَعُنا بَعْدَ الموْتِ
من الأَرْضِ إلى الأَكياسِ السَّوداءِ
ثُمَّ نُلْقَى في الهَواءِ

لِتلكَ الوحوشِ الَّتي اعتادَت
نَبْشَ الرُّفاتِ وفِعْلَ الضِّباع
أَيْنَ اختَفَت أظافِرُنا
أَيْنَ الله؟


(3)

خرجتُ إلى دوائري لأفتِّش عنِّي
بِوُدِّي أن أتعرَّفَ إليَّ
ياما ساعَدتُ آخرين

وحَمَلتُ رسائِلَ لِذَويهِم
وكأنَّني ساعي بَريدٍ

لجنودٍ في ساحَةِ حَرْبٍ


أيُّ إِثمٍ أرْتَكِبُه في حَقِّ نَفسي
لو ظَلَلتُ هَكذا أَرْقُبُ الخارجَ
ولا أُجْزِمُ أنَّني هُنا تَعطَّلَت قدماي
وهنا دَفَعتُ بِهِما

لأُواصِلَ الجَرْيَ في الوَحْلِ
مِمَّ؟! لا أَعرِفُ!
هل ثَمَّةَ قِطٌّ من مُعَسكَرِ الأَعداءِ سَيَلْتَهِمُني؟!
 

 

(4)

اسمي ذو دلالَةٍ

على حُسْنِ الظَّنِّ بالنَّاس
ربَّاني أبَوايَ

في خَرَّارَةٍ تتوسَّطُ حَيًّا راقيًا 
بمصر الجديدة
كان مُلَّاكُها عَطوفين للغايَةِ،

ويَتركون نِصْفَ وَجَباتِهِم مُلقاةً
كأنَّهم يملؤون بُطونَهم

بالنَّظَرِ للأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّة
ويأكلون بِضَربِ الملعَقَةِ والشَّوكَةِ والسِّكِّين في الأَطباقِ
هل مُفيدٌ وجَذَّابٌ بالنِّسبَةِ لَكُم
أَنْ أُخْبِرَكُم متى دَخَّنتُ أَوَّلَ سيجارَةٍ،

وأَيُّ فَأرَةٍ من عائِلاتِ الأَغنِياءِ
كانت حَنونَ

وشارَكَتني مُعْجِزَةَ أَنْ يكونَ لِفِلْتَرِها قُدْرَةُ اللَّضْمِ
بين مَرْوَحِتِها وشَيْئِي؟
ظَلَلنا لِسنواتٍ نَتبادَلُ الشَّمَّ:
هي شَبيهَةٌ بأُغنِيَةٍ في دار الأوبرا
وأنا مُراهِقٌ أَحْمَقُ، لا يَحْلُمُ بِشَيءٍ

سِوى أَنْ تَزولَ تِلكَ الحُفَرُ

الَّتي تَفْصِلُ بَينَ جَسَدَيْنا،
بينما الجَميعُ مِن حولي وحولها

مُغادِرونَ إِلى العاصِمَةِ الجَديدَةِ
ولا يَشْغَلُ حَيِّزَ تَفكيرِهم
أَيُّ رائِحَةٍ جَعَلَت العالَمَ أَفضلَ
وَأنا وهِيَ

نَضْرِبُ مَعًا بِأَرْجُلِنا؛
احترامًا لِذكرياتِنا

الَّتي خَلَّدَتها رائِحَةُ الجِنْسِ...

 

 

  (5)

تِسعَةُ أشهر، وأيَّامٌ، ودَقائِقُ..
اعتدتُ فيها

على مُرافَقَةِ تَفاهاتي الصَّغيرَةِ
من بُقعَةٍ إلى أُخرى


مُجرَّدُ شُعورٍ مُستديمٍ بِعَدَم الرِّضا
يُهيمِنُ عليَّ فَجأةً
ويَرفَعُ رايَتَه البَغيضَةَ الدَّامِيَة
بين ضُلوعي
وبِبُطءٍ يُحوِّلني إلى ٍ فَأرٍ صَموتٍ حائِرٍ
لأَذهبَ بِكامِلِ وَعْيِي
وأُفتِّشَ عن صِفاتي...
هل أنا حَقًّا

هَشُّ وفارِغ ولا لزوم لي؟

 

(6)


نَثْرٌ يَلْتَقِطُ نَثْرًا،

ويدورُ من شُبَّاكِ صالَةٍ

إلى ثلَّاجَة طعامٍ.
بودِّي أن أَحفَظَه
بتلك الضَّغطَةِ السِّحريَّةِ

فوق شاشة الكيبورد: «save»
بين تجاويفِ رَأْسِي
ثُمَّ أَضَعُها في الفريزَر..
ربَّما تخرج هي

وما تَحويه من ألفاظٍ وجُمَلٍ وفقراتٍ
في دَرجَةِ حرارةٍ أَقَلَّ من الصِّفر..
وأَنْ تكونَ على وَشَكِ الزَّوال.

فليَحْدُثْ ما لا أَتوقَّعُه
في تلك الزَّاوية
التي تَصِلُ بين صالَةٍ وثَلَّاجةِ طَعامٍ..
وأنا حائِرٌ ومُرتابٌ
كأنَّ نُسْخَة مِنِّي
هي لَيْسَت تلك الأنا الابْنَةُ

لِفَأْرٍ مُتضخِّمِ الوجْدانِ؛
شاعريَّةٌ، ومُحِبَّةٌ للموسيقى والكَلام.
انْضَمَمْتُ إلى رَهْطِ الذُّبولِ
وخَضَعتُ لِتجربَةِ الذَّهاب

إلى عَقيدَةِ اللَّا جَدْوَى.
رافَقَني هو نَفْسُه:
أَلفاظُه، جُمَلُه، فقراتُه...
وأَنا أُشكِّلُ بِفُتاتِ العَجينِ الَّذي سَرَقناه
من بيوتِ الأَغنياءِ
نَقْشًا لأبي وأُمِّي..
وهُما عائِدان من صالَةِ ديسكو
مُتحاضِنانِ، باكِيان

لِأَنَّ ثَمَّةَ قُنْبُلَةً وُضِعَت تَحتَ البار.

 

 

حَضَرَ رِجالٌ مُسلَّحون،

ورِجالٌ غَيرُ مُسلحَّين

ها هُما يَهْذِيان

بِلا تَرتيبٍ لمعنى
فَوْرَ دَويِّ الانفجارِ

وقَد ماتَ رَفيقُهُما «مطاوع»
بالقُرْبِ من بابٍ لِحمَّامٍ عُموميٍّ


لِحُسْنِ حَظِّهما

كانا جالِسَيْن كما اعتادا

-         مطاوع أبو الحسن: اسم لشخصية حقيقية تعرضت لهجوم مسلح من ميليشيات الإسلام السياسي، في بداية التسعينيات.

بِجانِبِ مَخْرَجٍ مُباشرٍ للشَّارع

فَهَرَعا وَفَرَّا؛
لأنَّهما التقطا نَثْرَ النَّغمةِ
ولا تَكفُّ حَركَةُ شِفاهِهما

عن استبدالِه بالدِّماء.

الدِّماءُ.. الدِّماءُ،

يا مَعْشَرَ الفِئرانِ
الدِّماءُ التي لا تَتجلَّطُ ولا تُعَدُّ للأَبَدِ

قِصَّةً من قَصَصِ الماضي البَعيدِ
ويَفْصِلُني عن أَلفاظِها وجُمَلِها وفَقَراتِها 
الآلافُ والآلافُ

من الثَّواني والسَّاعاتِ والأيَّام.

 

(7)

سُئِلْتُ مُباشَرَةً:
هَل تَعرفُ أن تتهجَّاها؟
كُنَّا في شُرْفَةِ بَيتٍ مُجاورٍ لِعَمائِرِ الضُّبَّاط
وهي فأرةٌ مُتحرِّرةٌ

من فَرْوِ جَسَدِها
ذَهَبَت بِمَحْضِ إرادَتِها لِحقبَةِ الملَلِ
فَمِنْ حَقِّ أَيٍّ مِنَّا

أَنْ يَتخَلَّصَ من داء الاخْتباءِ
ويَقومَ بالفِعْلِ نَفْسِه؛
أَمَلًا في الظُّهورِ لأخيه

مُقابِلَ كَشْطِ نِصْفِ مُحتوياتِ

ذِكرياتِه الرَّديئَةِ


الشَّوارِعُ بادِيَةٌ أَمامَ نَاظِرَيْنا
مَغْسولَةً بالنَّدَى والعَصافير
والاكتِئابُ يُحاصِرُ كِلَيْنا

في شُرفَة بَيتٍ مُجاورٍ لعَمائِرِ الضُّبَّاط
سُئِلْتُ مُباشَرَةً:
هل تعرفُ أن تتهجَّاها؟
وكَم من مَرَّةٍ

أصاب بحِيَرَة التَّذَكُّرِ والنِّسيان...

 

ما الَّذي أَوْقَفَ لِساني

وعَيناها تَبحثانِ عَن ارْتِطامِ
نَكِرَةٍ بِمَعْرِفَة؟

 

 


(8)

ما الَّذي دَهاني عن تِلْكَ الطَّريقِ

الَّتي بِوُدِّي السَّيْرُ فيها
أَيٌّ مِنهُم أَيْقَظَني،
هَؤلاءِ الَّذين يُنادونَني

من وراءِ سِتارَةِ الأَحلامِ
شِبْهَ مُستَيْقِظٍ، شِبْهَ نائِمٍ..


لا رَغْبَةَ لَديَّ

سوى في قَضْمِ مَخبوزاتٍ طَريَّةٍ،

وكُوبٍ من الشَّاي
أَيُّهُم يَعلو صَدى صَوْتِه بين ضُلوعي
لأَلْتِقَطَه من صندوقِ الذِّكرياتِ،

ويُعادَ حَيًّا
كأَيِّ فَردٍ من جماعَةِ الفِئرانِ

يُفْسِدُ عَليَّ وحْدَتي
وإِصغائي لوُجود تُشكِّلُه المؤامراتُ
والنِّزاعُ الدَّائِرُ بالأَسلِحَةِ الثَّقيلَةِ على حُدودِ البُلدانِ؟
هل جاءَ هذا الأَبْلَهُ

من نَعيمِ جَنَّةِ الخُلْدِ
-الَّتي ياما قال عنها

خَطيبُ المدافِنِ إنَّها للشُّهداءِ-
لِيُشارِكَني صباحي الكَئيبَ،

ويَجْعَلَ صورَةَ الواقِعِ مَهزوزَةً
أَمامَ ناظِرَيَّ؟
اعتدتُ -وأَنا بِمُفْرَدي تمامًا،

ووَحيدٌ تمامًا-
أَنْ يكونَ لِبَصيرَتي عَدساتٌ مُكَبِّرَة،
أَلْتَقِطُ بها فأراتي الافْتراضِيَّات

في مواقِعِ الدَّعارَةِ الإلكترونيَّة،
وأَصدقائي الطَّيِّبين في مواقِعِ التَّواصُلِ،
وأَغْزِلُ بِهِما معًا

عائِلَةً مُفتَرِسَةً وجَبَّارَةً من الفِئرانِ
أُطْلِقُها من مُخيِّلَتي

من كَثْرَةِ الصِّدْقِ مع النَّفْسِ
إلى الفَتْكِ بِمُرَوِّجي الأَكاذيبِ
وحامِلي شُعْلَةِ الفِتَنِ
ومانِحي الفُتاتِ للمُوظَّفين
ومُغتَصِبي وَجْهِ مُذيعَةِ التِّليفزيون
وهي تدور بِشَجاعَةٍ

لِتَهربَ من غُرفَةٍ إلى سَلالِمِ طائِرَةٍ مَروحيَّةٍ
لِتنجُوَ من الاعْتِقالِ



(9)

ماضٍ إلى النُّقطَةِ ذاتِها
نُقطَةِ تَمركُزي

وأنا خارِجٌ للتَّجوُّل والعَصفِ الذِّهني
مَلَّت قَدمايَ الارْتِكازَ

في خاناتٍ ضَيِّقَةٍ
والفُرجَةَ على الذُّبول
ذاهِبٌ للبَراحِ،

يُرافِقُني كُلُّ ما هو مَوصوفٌ وليس ابنا لتجربتي
لِتَتساقَطَ من بين ضُلوعي

ابْنَةُ الاكتِمالِ والغَطرسَةِ والنَّظَرِ للآخرين...
من باب كتالوج الماضي والحاضِرِ.


بِودِّي أن تكونَ لأَنايَ وَردَةٌ

ذاتُ أَسنانٍ هَشَّةٍ، ورُوحُ فَأرٍ
وهو خارِجٌ للتَّجوُّل والعَصْفِ الذِّهني.
لا يُمكِنُني سِوى احترامِ المستَقبَلِ البَعيدِ
باسمِ تِلكَ المفرداتِ

الَّتي تَتَبعثرُ كُلَّ ظهيرةٍ
من فَمِ امْرَأةٍ لِرَجُلِها...
باسم المصيدةِ الوجوديَّةِ الكبيرَةِ
وهي تَحصُدُ الأرواحَ

بالجَراثيمِ الـمُخَلَّقَةِ في مَعامِلِ رَأسِ المال...
باسم القِيامِ والقُعودِ

في المساجِدِ والكَنائِسِ والمعابِدِ،
وعلى تلك الدِّكَكِ الخَفيَّةِ

لإخوتي اللا دينيِّين
بمُحاذاةِ شارعِ الملْحِدين...
باسْمِ الَّذي فَقَدتُه

وضَرَبَ اليَأسُ إِمكانِيَّةَ أَنْ أَلْتَقِيَه
على بابِ مترو المدينَةِ...
باسْمِ مَذابِحِ الفِئْرانِ،
وباسمي، وأنا أَتباكى على ضَحايايَ،
ثُمَّ حَدَثَ ما لا أَتوقَّعُه في ساعَةِ الحَسْمِ:
ارْتَبْتُ في مُعْتَقَدي،
وواجَهَتني آلَةُ مَحْوٍ

لم تَكُنْ مرئيَّةً في واقِعي،
ولَكِنَّها -للأَسَف- مَحْضُ خَيالٍ

تَذْبُلُ لِأَجْلِه جميعُ وَرْداتي،
وأَصابَ بِحَتْمِيَّةِ الذُّعْرِ

والارتدادِ لمخْبَئِي،
وأنا أَدْفَعُ بِقَدَمَيَّ الخَلفِيَّتَيْن

سَطْحَ جَسَدي؛
لِتُكْتَبَ لي النَّجاةُ...

هل تَفَكَّكَ مَعناكَ

أَيَا مُعْتَقَدي 
أَمْ عليَّ أَنْ أَلْتَقِطَكَ

من بين ضُلوعي
حَرفًا حَرفًا،

وكلمَةً كلمةً،

ثمَّ تمّحي جُمَلُكَ الرَّنَّانة
ذاتُ الإيقاعِ القُرآنيِّ في قِصارِ السُّوَر،
بينما كنتُ أَبْذُلُ

بِعاطِفَتي طاقَةً حِسِّيَّةً مُضاعَفَةً
لِتلتَحِقَ أيَهُّا الأَحْمَقُ النَّذْلُ المخادِعُ
مِثْلَ عَرَبةِ قِطارٍ أَخيرَةٍ

في طَريقِها لمخزَنِ السِّكَكِ الحديديَّةِ
بإنجيلٍ مُخْتَصَرٍ وموسيقاه تَعلو

على نَشيدِ الإِنشادِ، ومَزاميرِ إِشْعِيَا،

وأكون بِذلكَ جَعَلتُ مِنكَ

سَيِّدي ومَولايَ ومُخَلِّصي

من تَراكُمِ ذلك الشُّعورِ المخاتِلِ بالنَّصْرِ والإهانَة.

 


(10)

يتفتَّتُ كُلُّ شَيءٍ من حَوْلي
بلا وجودٍ لِنداءٍ خَفيٍّ

مثل تلك الآلاتِ التَّحذيريَّةِ

التي تُقالُ من أَلْسِنَةٍ بَشريَّةٍ
ونحن مُختَبِئون

في تجاويفِ أَنفاقِ مترو المدينَةِ
أَينَ أَصواتُ أولئِكَ التَّافِهون

الَّذين يُردِّودن: «الحَذَرَ.. الحَذَر»...
هل امتلكنا العُمرانَ

بعد أن صار خرابَةً لأَعْيُنِنا المذعورَةِ،
واختَفَت الدِّكَكُ الخرسانِيَّةُ، العَمائِرُ،

الكنائِسُ السِّرِّيَّةُ، سَلالِمُ نوادي الأَثرياءِ،
السِّينماتُ، أَكشاكُ بَيْعِ السَّجائِرِ الفَرْطِ،

مطاعِم الكُشَري، مُراقِبونا وهم يُطارِدون
اللهَ في مجموعَةٍ من الفئرانِ بلا حَوْلٍ وبلا قُوَّة...

انتبهتُ أَنَّني في بيتٍ جديدٍ،

ولَدَيَّ صديقةٌ فَأرَةٌ تُدْعَى «الدُّبَّة»...
ما الذي جاء بالمحبَّة

وسطَ هذه الفوضى القاتِلَةِ لموسيقايَ؟
من أيِّ حفرةٍ تحدَّثَت إليَّ

وأنا عارٍ من الإيمان البسيط بالمعجِزاتِ
كيف زحَفَت من بين جُثَثِ القَتْلى

تحتَ الأَنقاضِ ولامَسَت عُنُقي،

وأَمْسَكَت بأُذُني الطويلتَيْن،

وغَنَّت لي إيروتيكا قديمةً،

عن فَأرٍ وفَأرةٍ ذَهَبا في نُزهَةٍ للحُقول،
تُرافِقُهما أصواتُ الضفادع،

وتلك المياهُ التي تَتساقَطُ من شَجرَة الاسْتِغناءِ
عن الآخرين.




(11)

اعترافاتٌ،

تَلِيها اعترافاتٌ،

يَليها حُزنٌ غامِضٌ؛
لِكَوْني جاهِلًا بِهَذَيْن القَوْسَيْن

اللَّذَيْن بإمكاني تَمييزُهما ضِمْنَ العلاماتِ..

لأضَعَ جُملَةً مُختَصَرَةً

عن رِحْلَتي كَفَأرٍ شُجاعٍ ومِسكينٍ؛
أَنْ أَلْضُمُ مَعنايَ بإبرَةِ الوجود.
سَئِمْتُ إِبرَةَ العَدَمِ

الَّتي تُلاحِقُني مُنْذُ عامٍ ونِصفِ العامِ..
لماذا تَهُبُّ زَعابيبُ خَلْوَتي بالأَتْرِبَةِ وتَعطيلِ الرُّؤيَة؟


كان مُقدَّرًا لي أَنْ أَمشي بجانِبِ النَّهرِ

وأَلْتَقي بهؤلاءِ التَّائهين بِجَرعاتٍ كَبيرَةٍ
مِن عَقيدَةِ اللَّا جَدوى..
اقْتَرَبَ صَوتُ أَحدِهِم،

وأنا ساهِمٌ أَمامَ لَوحَةِ اللَّيلِ

بِجانِبِ أَسَدَيْ كُوبري قَصْرِ النِّيل،
وأَخْبَرني وقائِعَ عَنْ حَربٍ بَينَ إخْوَتِه..
عن بَيتٍ تَرَكَه الوالِدُ في قَريَةٍ بَعيدَةٍ..

مُجرَّدُ بَيتٍ من ثلاثَةِ طَوابِقَ

هَيْمَنَت بِسبَبِه الكَراهِيَةُ على أَفعالِهِم الدَّنيئَةِ
ورفَعوا في وجوه بَعضِهِم البعض

الجنازيرَ والسَّكاكينَ والشَّتائِم.
جُنَّ الرَّجلُ

ورَكَلَ كُلَّ هذا الخراءِ الإنسانيِّ
وخَرَجَ بحقيبةٍ قُماشيَّةٍ «هانْد ميد»

مَملوءَةٍ عن آخِرِها بعالَمِه،
طَقمًا من الملابِسِ غير الَّذي يُغطِّي جَسَدَه،

صورَةَ زفافِ الوالِدَيْن، النَّظرةَ الأولى بينهما

في سوق شعبي لتجارة الأقمشة والمنسوجات،
أَكثرَ من مُجلَّدٍ عن المشْيِ والتَّسكُّعِ،

ووَردةً ذابِلَةً بين دفَّتَيْ كتابٍ.


بماذا أُمِدُّه من الأَلفاظِ،

فَليسَ بِحوْزَتي إلَّا صَنعَةُ الكَلامِ..
إيه يا عَم..

اتْرُكْها على الله؛
انْظُرْ لهذِه السَّيِّدة الَّتي يَبدو وَجهُها

مُلطَّخًا بالأَوساخِ
من كَثْرَةِ النَّومِ فَوقَ الأَرْصِفَةِ وتَحتَ الكَباري،

وفي بيوت يذكر فيها اسم الله.
تَأمَّلْها يا عَمّ..

هي مِثلُكَ ومِثلي

ومِثلُ هَؤلاءِ التَّائِهين أمامَ لَوحَةِ اللَّيلِ
فَلا تَبْتَئِسْ،

أَبِوُدِّكَ قَليلًا من المالِ لِتأكُلَ وتَشربَ وتُدَخِّنَ،
أَمْ ماذا؟
لو أَرَدْتَ عَينيَّ فَخُذْهُما؛

فَهُما سَبَبَا شَقائي،
اعْتَادَتا المكوثَ في تِلْكَ البُقْعَةِ

لانْتِظارِ أَنْ تَصِيرَا دامِعَتَيْن

لالْتِقاطِهما لِلَوْحَةِ البُؤسِ،

وابْتِعادِهما عن مُتابَعَةِ جَمالِ لَوحَةِ اللَّيل.


قد يعجبك ايضا

تعليقات