جنين الملائكة
مختارات من ديوان " قلب يهوذا "
للشاعر نادر ناشد
اعترافات منسية..
أقطف كل صباح زهوراً من ذاكرة أبى. كأنه
لم يرحل عنى- كأنه لم يفارق العالم.
ليسكن فى هذا الفراغ الممتد. لكنه يسكن
معى فى هذا الخندق العميق – ويعلمنى
ونحن نتجول فى شوارع المنصورة الهادئة.
يتوقف أمام منزل لويس وكيف أسرته
إرادة الشعب. وكيف صار نموذجاً.. كان
يعلمنى كيف يكون بداخلى حب أبيض
كالثلج.. قتل غواية الهجرة وبهدوء مشط
السنوات تحت أقدامى ومسح اكتشافات
الشاب الذى يكثف بحثه.. فكرت كثيراً أن
أعرى ما بداخلى وأرسمه فى لوحة
مفتوحة وأفصل هذا عن ذاك.. أفصل ما
علمه لى أبى عما بداخلى..
وفى كل مرة كنت أرجع إلى خطواتى الأولى
فى بلدتى الصغيرة، أعود لأحصد ذاكرة
قوية تنفتح أمامى وتنساب فى وجهى
مثلما تنكسر أجران القمح فى عيون طفل.
أنا الذى لا أعرف الفروق. أنا الذى لا
أعرف الفواصل. أنا الذى لا أعرف سوى
مزق الكلام حين يحتاج إلى سوليتب ليعاد
بناؤه هرماً أو قلعة.
الشاعر ينام الليلة دافئاً بأحلامه التى
سيراها مع الأب الطيب.القديس الذى
تحدث مع الملائكة. سيجلس ساعات طويلة
معى.. كأنى أودعه كل يوم. وأراه صاعداً
إلى السحب مهما حاولت الأعاصير
مشاكسته والإمساك به.. سوف تراهن
الملائكة أنه سينتصر..
ولعله الآن يتكئ مع أولئك الذين احتجوا
على حضارات وممالك تراجعت إلى
الخلف..
العيون ستحصد الرؤى متوقفة عند مدن
النور العلوى..
لكن كيف يرانى الآن..؟
لم يقل أبى لى كيف يرانى؟
نهايات مناسبة.!
لم يكن يعرف كيف يحتفل بعيد زواجه
العشرين!
عشرون وردة أم عشرون شمعة أم عشرون
حالة غموض..؟!
كأن كل شىء قد تشابك.. فلم يعد أمامه
سوى رصد الواقع الذى صار غريباً عما
كان يتخيله منذ ما يقرب من ربع قرن..
بالصمت أو النفى داخل أجسادنا.. مفاجأة
اكتشاف جديد
الوطن يتجمد
بلا أى حصاد ..
كأننى أنزع من لوحة حياتى كل الأوان..
فلم يبق سوى الظلال وربما بعض موسيقى
تائهة
أعيد ذاكرة الشاب المعتقل فى أحداث 18
و19 يناير 1977.. أعيد كتابة المنشورات
المهربة التى صارت ورقا أصفر.. لكنه
محبب إلى نفسى.. كأنه خطابات العشاق..
ولكن لماذا لا تنفع الاحتجاجات
يبدو أن الأمر كان بحاجة إلى المزيد من
المراوغة
تتحرك السنوات بجانبى.. أكاد أحاصرها
أسيجها بالأسلاك الشائكة..
أحس أنها ساخرة هازئة.. من كل ما
أنوى فعله فى شهور قادمة..
السراديب مظلمة
والقمر غامض لا ينمو..ينحدر.. يذبل..
يضمحل.. لم يعد هو
البدر المكتمل.. كل مساء..
أسراب السياح تجول فى الميادين..
وينتهى بهم الحال عند حارات ومقاهى الحسين..
ألمح صف الشباب الهاربين من الشرطة..
وأكوام المصريين التعساء
يقبضون بأيديهم وهما يستمر..
المركب تخرقت قيعانها..
الشراع انكسر والمقابر
تحتوى المحبين مهربى السعادة التى لن
يعرفوها أبداً..
احتفل اليوم بالذكرى العشرين
أكتم رغبتى بداخلى..
أسرع فى مركبة غيبوبتى وعلى مقعد الترقب..
أتلصص
نحو عيون المارة سارقى الأفراح زراعى
المؤامرات وطواحين الهواء..
لا أبغى أن أسقط فوق الأرض الحبلى بالدم..
وأواصل غيبوتى..
شعراء المنفى
سوف تجرى سحابة أخرى
فوق تلك الشرفة الضيقة
ضباب يرتعش
فى عيون النساء العابرات
الدم الذى ينزفه الغروب بلون البن
يلد شعراء المنفى
تقذفهم المنافى فوق خرائط منسية وجبال
مجهولة النسب
أستطيع ذات يوم عندما تأتى الخيول العطاش
أن أباهى بأنى لم أقهر منفاى
أنصت كما أنصت القديسون وحدهم
إلى صوت أشد نعومة من أشعة شمس طوبة
إلى صديق الرؤى اللامتناهية
وصاحب الغيم البكر
يسطو على الأحلام المجمدة
يعلمنا كيف نستدل على البراءة
يخرج من رئتيه قناديل حمراء وصفراء
سينطق الحجر
تاريخه
انتصارات مؤجلة
فالبحر عنده هو المقر
فى الزحام الذى انتشر
ضلوع ناقصة
وحروف متناثرة
السنوات الجميلة
تعود إلينا كحرباء
من يصطاد معى
كائنات الشهوة
دائماً يقهرنى الضحك
فى الوطن الملفوف بالخوف
————
جلس الغريب فى ركن
كنت أتأمل
كيف ترتد الروح عن الجسد
يهبط من سماء سيرته
حاملاً زهوراً وجثثاً خضراء
من ذاكرة كادت تتهيأ لك.
العجــــــوز
العجوز هى
على مشارف الستين
ولا تزال حبيبتى
أروقة تمتد بيننا وسدود ومحافل
ومؤامرات
وتضاريس ورؤى وأكاذيب..
سلك شائك يجذب السحب التى سوف
تمطر على ذكرى لقائنا الثلاثين..
لكنها مثلما كنت أراها مشدودة الجسد،
صامدة كالأبنوس، سماء نقية
كالكاكاو.. ترمى بعيونها أساطير وكواكب
وتخلق الوديان فى مخيلتى وصدرى
تصنع جغرافياً أخرى غير تلك التى
عاهدناها فى أطلس المعارف..
ترتوى من طمأى،
تزرع الصور الممزقة فى عدسة عيونها
العميقة.
لقد رمت كل أسرارها واحتفظت
باعترافاتى
فقط احتفظت بتاريخى.
كأنها تريد أن تبدأ من أول السطر.
بداية جديدة لقصة غابرة.
جنين الملائكة
هكذا قذف بنا النهر إلى الأرصفة
صارت الفراغات بين الأشياء
إلى وهم
الآن كيف تبعث الأساطير؟
هذه ليلة التحولات
أصابعنا تتلمس
ميلاد الطلاسم
وكائنات جديدة تطل علينا
كنت الشاهد دوما
المراقب لكبرياء الشرف
كان يرقص ثملا عند العشب
بينما البيوت على السفح
تتساقط مثل علب الكبريت
وتلك الرمال الشبيهة براحات المؤرخين
تتهاوى
يا وطنى
لماذا كنت الشارد دوما
والمتوسل للأعداء
—
ترمى سروالها الأرجوانى
الأكتاف المحلولة
تنزف بحاراً
النهدان جزيرتان.. دم دافئ
مملكة الملح فى هذا الشعر
الرخام على الأرض
أختام المعبد
تقيم طقوساً من حلقات الذكر
والوجه القدسى يعربد
—
الأمار تلتهم رجالهن
وتستقر السحب فوق عظام المدن
سأمضى بجوار الشاطئ
كى أتابع بعمق أحداق عيون الموتى
وشذرات الأجساد
عليك أن تفتحى أمواج الملائكة
ما كان بيننا سوى تلك الإشارات
حتى مع الغرباء
تقول إشارة: أيها النبض فلتتكئ على
الروح ما استطعت
وتقول أخرى: حينما تصطدم الأقمار
يولد جنين الملائكة
———
لا أحد يأتى.
تعليقات
إرسال تعليق