اسم يسعى
صفاء فتحي
هنا في برزخ الجليدِ
اقتطعت جزءا مني جزاءً للجزاء
كان قُرْبَ القلب مِنِيّ قلب آخر
اسم يسعى
قَرَّتْ عيناي
وحمدت الله لأن لكل شيء عينين وأنفاسًا
ولأنني أستجمع القوى قبل الوقوفِ أمامَ ظلِّ الاثنين من الأشياء
[يا عبد لست لشيء سواي فتكون به] (ن186)*
[يا عبد الغيبة والنفس كفرسي رهان] (ن 186)
[يا عبد الروح والرؤية ألفان مؤتلفان.] (ن 186)
رقصت أمام القطعة التي اقتطعتها مني والتي صارت أنا
وأنت الآخرُ مِنّي
هو الآخر
ضَحيّت بما صار مني أنا
كان بالرأس تشويشٌ ووشوشةُ طائرٍ
صرنا توأمَ الشمسِ أنا ثم أنا
مني أصَبحَت فوضعت رَأْسَها أسفلَ المذبحِ
أنا وأنا التي غدَت هي قدمتها لشمس الموتِ الآخر
(على مذبحٍ له جَسد أنثوي مشوشٌ شهيقُه)
وشمت على جلدها صورة لتوأمي الشمس اللذيْن اشتقَّتهما الأسطورة من اللبن
وتركتَها في وحشةِ القصورِ
نمتُ في وفاتي الثانيةِ
ذهبت مرةً أخرى إلى الأندلس
ذهبت هناك على السنواتِ التي مضتْ
وضعتها في رغيفٍ ساخنٍ
ورأيت شاطئَ الحدثِ الحجري
ثم الشر الذي يَنتشر في البريةِ والصحراءِ تقولُ المستحيل
رأيتني أهرب وأنا أعودُ
أبعد وأنا ألتصق بالظلِّ وقطرات الماء تلعَقُ ساقي
هل تأملت المجرّةَ في السماء؟
تلمع في مجراها أسماء واسمك يلتصق بعمق النار
الضحية هي قطعة اشتقتها يدي من رحمي كي أولدَ للمرةِ الثانيةِ
العالم كله قدير يفور
أطبخ فيه سائر الأشياء اثنين ثم اثنين
اثنان هما توأما الشمس
(والعِزَّة لمن؟)
العزة التي تعزك من الرجفة
من سقوطِ الأسنانِ
(من أهواء اليومِ)
سأذكر الأندلسَ وأذكر شرفتي التي تسلّقتها والديارَ التي خطوتُ فيها خطوتي والأثر الذي اقتفيته والروح الذي حلق فوق المكانِ الذي وقف عليه منزل مهجور والبحر الذي يُشاهِده.
تلك القطعة التي كانت بالفعل مِنّي صارت ممددةً أمامَ الشمسِ قربانًا يغلفها جلدٌ موشومٌ بالتوأمين
سأذكر الصبَّار الذي شقَّ الطريقَ بعمودِ الزهرة السحريةِ عبر الكبرياءِ في سواد الليلِ (إشراق)
بعدها جاء الدوران، الالتفاف، مناوشةِ اليدِ واليدين، القدم والقدمين،
وملاحقتي للنفس، للريق، لفضلات الطعامِ وآخر قطرات اللبن
لأخرى كانت أنا
الشرفة معلقة والأطلال حائطٌ وحائطان
بعد الإغماء أنعشني سائل
عصير اللوز قادني إلى شاطئِ الأسماك
امتدت الموائد والقديس بنفسه تولى أمر الشواءِ
أودعنا عندها الجنون في علبةٍ
والجريمة في صندوقٍ به آلاف المفاتيحِ
وجاء الطعام
كي تطعمني
الشراب كي ترويني
أسمعك
شربتُ الشرابَ من قلبي
وأكلتُ طعامَك
سمكٌ أبيضُ كان ورغم ذلك هلامياً
لزجاً في لحظةٍ وأبيض في اللحظةِ التي تليها
النسيان حرير أو طيات حرير طويتها
لألمسها سراً في اللحظة التي أعرفها تماماً
عندما أتشبَّث بزهرةٍ، أو بأيقونةٍ، أو بصلاة من سافرت
دعاء فص برتقال وكَثرة من حَبّ الرمان تدحرجت أمام العدسة على أرض المعبدِ أو جاورت طبقا فضيًا في آخر يوم من أيام العام عندما وضعتُ رأسي على وسادةٍ واستنشقت القمرَ ودخنّت نَفسي من َنَفَسِكَ وصارت ابنتك على صورتك والرسالة جسد عبر البحر.
أما الابن فهو يستعيد البدايةَ ويشهد على انسحاب البحر خطوة على الخطو وصوت الدم يصرخ قادماً إلى الله من الأرض يقود آدمَ بعد القتل ويصير عصيره ومعرفته ابناً كان كقرن من الزمان، يصير كلمةً مبعثرةً بين كلمات الكتاب وفصًا في برتقالة وحيدة ودعاء حتى تكون البداية دائماً هي، هي والنهايات تيه في برية الذاكرة.
ها أنا أبحث عن العطايا
عن وجهٍ ذابَ مع رذاذ الشهيق
عن وجه تسدل خلفَ شعرٍ بطولِ النخيل
عن كنز مسحور تقوم عليه طفلة تلاشتْ في ليلةٍ صيفية
وكثير من طعام الحواديت
وهروبي كالأحلام
وزوالي في بياض الضباب
ولكني أكلتُ الطعامَ الذي أطعمتني، وطعمت بالشيء والشيئين. السمك والماء. اسمك والخلاء. السماء والطين. الهواجس وعظام النساء.
ومع ذلك سيمتد الرمش أسفلَ العينِ ويعتليها بعد الفوران، بعد السطوع أسفل قمرين حين لعبت دور العاشقة التي بالزيوت دعكت الوجه والقدمين حين توقد الزهو بجانب النافورةِ البيضاءِ وسرت بجانبي تضع يَدكَ الشمال على كتفي اليمين واختفيت في صورتك، اختفيت في عينيك، تشبثت بالحائطِ الأبيضِ بين أمس واليوم وفارقتك لأنني لن أصبحَ وحيدتك لأنني توأم الشمسِ فصرتُ في الأرض وعلى التراب أقيم. وفي ظلك دائما سأكون لأنني لك أكون ولا لن أكون ابنتَكَ ولن أكون حفيدتك، لا لن أكون امرأتك ولن أكون محبوبَتَكَ ولا لن أكون لك الحبوب الطائرة وستكون لي قلب الأشياء.
ولكنك وأنا، أب الأسطورة وكفيفها ، ننزل الشارع ونعبر الميدان حتى نصل إلى اللامكان. في الرقعة السوداء.
[يا عبد القلب ينقلب قلب القلب لا ينقلب] (ن 155)
ولا زلت سجينة الزجاجة التي أحبس فيها الرسالةَ التي لن أنتهي من كتابتها والتي ستصحبني إلى البحر حيث سأقيمُ لآلافِ السنوات. وسأري أنفاسي تتكاثف على سطحِ الزجاجِ، سأكون بنتَ ليلتي ألقي جسدي على جسدي، على المقعد على كتفك، على النور وستكونين أنتِ قرينتي في الأصفاد وأكون أنا دائما بين حوائط الزجاجِ وربما سأجمعُ النفسَ في آية وأقطف حروف الصاد التي تهلّ من جميع الصلوات وأحشو بها فصوصَ البرتقالِ ، أوشوش في أذني يونسَ وأذني يونانَ كي أصيرَ كالقربان، كي أذهبَ إلى موتي في بطن الحوتِ بريئةً لثلاثةِ أيامٍ ودعوت الله عبر عمود النور الذي يشقّ رأسي المسحورَ وأنا طريحة الهاوية أردّد يا الله خذ هذا النفس مني ردّني إلى العدم الذي منه هيكلي وأن عشب البحر ليتنامى في مخيلتي وأنا لا زلت أحمل النفس الذي سأنفخ به في الأشياء والرِجل التي سأركض بها إلى الشراب والبطن الذي خلق من الشفقة للطين والشمس توأم النار. وفي لحظةٍ أحاطت بي جميع الأنهار، أنهار السين والنيل، أنهار اللوان والجانج، وأنهار المان والمارن ونهر العرس اللانهائي، عندما حملت سنبلةً خضراءَ والرداء كان ناصع البياضِ ولعبت لعبةَ مريم العذراء رغم أن الزجاجةَ لا زالت مسدودةً على ظمئي ورسالتي مكتومة في بطنها وعنق الزجاجة عنقها وعنقي يحمل رأسي مثلها، أما السدادة فتعلوها مرآة والأماني ثلاث والقدمان مغلولتان واليدان تربتان علي شعرك والشفتان والزجاجة زجاجتان والجَمال جنية تطير خلف الطائرة الورقية والأخرى تنام في نعيم أصفادها والاثنان مازالا في الخصر اثنين وفي العناق اثنين والرحمة في الكتاب للرحمن .
[وقال لي المماليك في الجنة والأحرار في النار] (ن 76)
[وقال لي إذا كنت لي فأنت بي وإذا كنت بي فأنت لك] (ن 77)
أدركت اليوم أنك غرست في جوفي بذرة هي بذرة من أينعت وطالت لها الرأس فوقَ العود وصارت أنا تلك التي بالكلام وبالرسالة رعيتها وبالجمل رويتها وبالعبارة دللتها هكذا النبتة نَمَتْ وَعَلَتْ وظهرت لها الوريقات وغصن واحد ثم بحث عن الماء أصلها مثلها مثل جذر الزيتونة في الأعماق.
بحثت عن الشمس هامتها كَعبَّاد الشمس على أرضِ الحديقةِ في ضحى نهارٍ صيفي وأصبحت لي عينان كثمرتين وقلب كزهرةِ لوتسَ متعددةِ البتلات وجلد يجري عليه النمل ويغطيه الفطر وكالشمع تذوب أطرافي في حميمِ النار.
النار جنين الشمس وابنتها التي حملت بها في رحم الليل لها تذهب اللفتة الأولى قبل أن يصير الغد يومي وقبل أن يصبح اليوم كما كان في العشية، أمس، وصار مع الشجر الأخضر كالسهر والطير صارت محشورة في النار ورؤوسها تيجان من ذهب.
[وقال لي إذا رأيت النار فقع فيها ولا تهرب فإنك إن وقعت فيها انطفت وإن هربت منها طلبتك وأحرقتك] (ن 81)
* ن – تشير إلى النفري: "كتاب المواقف والمخاطبات".
تعليقات
إرسال تعليق