أريد أن أكون ساحرًا
مختارات من شعر رياض الصالح الحسين
إعداد / عبد الوهاب الشيخ
غرفة الشاعر
يفتح بابَ الكلماتِ و يدخلُ بخطىً خائفةٍ
في أنحاءِ الغرفةِ
بعض قصائد ذابلة
و أخرى تتعلّق بالمشجب
سنبلة تهرب من بين أصابعه
و طيور تقتحم الشفتين
يرى عشبًا ينبت في المكتبةِ المهملةِ
و نبعًا ينبثق من الحائط
بعد قليل سوف يداهمه الليل بأقمار و كوابيس
تداهمه أشجار الغابة
و رمال الشاطئ
و حصى الأنهار
و آبار فارغة
يملؤها بحروف سوداء
ماذا يأخذ من جثث الأيام
و ماذا يترك
غير قصائد ذابلة
و غبار الكلمات؟
و بعد قليل
سوف يداهمه الشرطيّ
ليسأله عن جمل غامضةٍ
و يحذره من استعمال "القُبلة" و "القنبلة"
و يمضي..
هو ذا الشاعر
يفتح نافذة القلبْ
يغلق عينيه
و يحلم بقصيدة حبْ
167 سم
أنا رجل وسيم
طولي 167 سم
أنا تراكتور معطوب
أبحث عن عمل منذ ثلاثة أشهر و توابيت
جلست في المقهى لأشرب شايًا ممزوجًا بالدبابيس
النساء فيه يتدلين من الأشجار
كما تتدلَّى مصابيح النيون في معرض دمشق الدولي
أنا رجل وسيم
قال لي صديقي: "مدّ يدك و اقطف امرأة".
أيُّها الصديق الجاهل
الحبّ قطاع خاص
و لذلك علينا أن نفعل شيئًا.
قمر
كل ما قاله الراعي للجبل
عن الفتاة التي تغنِّي في النافذة
و الحصى الذي يتكسَّر تحت عجلات القطار
و المقبرة التي تنام سعيدة منذ قرون
حدَّثتك
زهرة جسدي، كل صباح
أقطفها و ألقيها في الشارع
ليطأها القادة و الحكماء و اللصوص...
و زهرة جسدي، كل مساء
أجمع تويجاتها المفتَّتة لأجمعها لك
و أقول كل ما حدث لي
مرَّة بجانبك جلست و بكيت
كان قلبي حقل أرز محترق
و أصابعي تتدلَّى كألسنة الكلاب في الصيف
أردت أن أعَبِّرَ عنِّي بالحركات:
أن أكسرَ كأسًا
أن أفتحَ نافذةً
أن أنام...
و ما استطعت
عمَّ أتحدَّث بعد ستة و عشرين عامًا
أو بعد ست وعشرين طلقة في الفراغ؟
لقد تعبت من الكلام والديون والعمل
لكنِّي لم أتعب من الحريَّة
و ها أنذا أحلم بشيء واحد أو أكثر قليلاً:
أن تصير الكلمة خبزًا وعنبًا
طائرًا و سريرًا
و أن ألفَّ ذراعي اليسرى حول كتفك
و اليمنى حول كتف العالم
و أقول للقمر:
صَوِّرْنا!
اعتياد
أعددت لكِ فنجان القهوة
فنجان قهوة ساخنة
و ما جئتِ
وضعت وردة في كأس ماء
وردة حمراء حمراء
الوردة ذبلت
وما أتيتِ
كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
والمطر ينهمر
والطيور تئن
و لا أراك
لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة .
المعجزة
أول كلمة في الصباح
هي لك
وآخر كلمة في المساء
وما بين صعود الشمس من خلف الجبل
وسقوطها في البحر الأزرق
ما بين الخيط الأبيض والأسود
كتب وصحف وأقلام
سجائر وأوقات مبددة
أصدقاء وآلام
وما بين الصباح والمساء
تطيرين كفراشة
وتتبددين كعطر
وأنا أغط إصبعي في الماء
وأكتب على الورقة كلاماً أبيض
وانتظر المعجزة.
تغيير
يرمي ثيابه في البئر
يرمي كتبه وخاتم الزواج
يرمي ماضيه المريض
و حاضره الخائف
يرمي أغانيه القديمة
و أصدقاءه المنافقين
يرمي كل ما تطاله يداه
من أوراق ومذكرات
من أفكار ودمى
يرمي بئر حياته في البئر
يرمي دماغه أخيرًا
و يستدير
نقيًا و أبيض وسهلاً
الآن فقط
يستطيع أن يقول: أحبك
العاشق
اعطِ القناص رصاصًا
و انتظر بضع دقائق
فسيملأ الشوارع بالجثث
اعطِ النجار خشبًا
و انتظر بضعة أيام
فسيملأ البئر بالنوافذ
اعطِ الحداد حديدًا
و انتظر بضعة أشهر
فسيملأ البراري برجال يشهرون السيوف
اعطِ البستاني بذارًا
و انتظر بضع سنوات
فسيملأ الصحارى بالأشجار
أما العاشق
أما العاشق
فلا تعطه شيئًا
ففي قلبه ما يكفي الدنيا
من السيوف والنوافذ
من الأشجار والجثث
أغنية رجل متعب عائد إلى البيت
هذه الدنيا الموشكة على البكاء
برتقالة أم حجر
و هذا القمر
الذي يطلّ كل مساء
بثيابه الرثَّة
مادًّا يديه إلى سكارى منتصف الليل
كشحَّاذ عتيق
هل أسأله من أنت؟
أم أغرز أسناني في رأسه؟
رأسه الذي كحبَّة جوز فارغة
تتطوَّح في هواء منتصف الليل.
أنظر إلى القمر كرومانتيكي عريق
و خنصري أمام أنفه
- سأخاصمك يا قمر
أيُّها الأصفر الكبير
لن أشرب معك القهوة
و لن أركض معك في البريَّة
لن أنتحب أمامك كعاشق
و لن أحجب وجهك كغيمة
و كجندي مهزوم عائد من حرب عادلة
سأنظر دائمًا إلى الأسفل
راكلاً الحصى و المتاعب ببوز حذائي
و أنا أفكِّر بالمجهول!
رغبات
أريد أن أذهب إلى القرية
لأقطف القطن و أشمّ الهواء
في شاحنة مليئة بالفلاحين و الخراف
أريد أن أغتسل في النهر
تحت ضوء القمر
أريد أن أرى قمرًا
في شارع أو كتاب أو متحف
أريد أن أبني غرفة
تتسع لألف صديق
أريد أن أكون صديقًا
للدوري و الهواء و الحجر
أريد أن أضع بحرًا
في الزنزانة
أريد أن أسرق الزنازين
و ألقيها في البحر
أريد أن أكون ساحرًا
فأضع سكينًا في القبعة
أريد أن أمدّ يدي إلى القبعة
و أخرج منها أغنية بيضاء
أريد أن أمتلك مسدسًا
لأطلق النار على الذئاب
أريد أن أكون ذئبًا
لأفترس مَنْ يطلقون النار
أريد أن أختبئ في زهرة
خوفًا من القاتل
أريد أن يموت القاتل
حينما يرى الأزهار
أريد أن أفتح نافذة
في كل جدار
أريد أن أضع جدارًا
في وجه من يغلقون النوافذ
أريد أن أكون زلزالاً
لأهزّ القلوب الكسولة
أريد أن أدس في كل قلب
زلزالاً من الحكمة
أريد أن أخطف غيمة
و أخبئها في سريري
أريد أن يخطف اللصوص سريري
و يخبئونه في غيمة
أريد أن تكون الكلمة
شجرة أو رغيفًا أو قبلة
أريد لمن لا يحب الشجر
و الرغيف
و القبلة
أن يمتنع عن الكلام
دخان
كئيباً ومنفتحاً كالبحر، أقف لأحدّثكم عن البحر
مستاءً وحزيناً من الدنيا، أقف لأحدّثكم عن الدنيا
أقف لأحدّثكم عن النهر
وعندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي
وللجدران أصابع تتحسّس أضلاعي
وللأبواب ألسنة تتكلّم عنّي
وعندما يصبح للماء طعم الماء
وللهواء نكهة الهواء
وللحبر الأسود هذا رائحة الحبر
وعندما تهيّء المطابع الأناشيد للقرّاء بدلاً
من الحبوب المنوّمة
وتهيّء الحقول القمح بدلاً من الأفيون
وتهيّء المصانع القمصان بدلاً من القنابل..
سأقف، أيضاً، سأقف لأحدّثكم عنّي
لأحدّثكم عن الحبّ الذي يغتال المراثي
عن المراثي التي كانت تفتح دفترها الملكي
لتسجّل أسماءكم في قائمة القتلى
عن القتلى المتشبّثين بالضمّاد والميكرو كروم
الذي لم يأتِ
وسأقف، أيضاً، سأقف
لأحدّثكم عنّي
مثلما يتحدّث الديكتاتور عن سجونه
والمليونير عن ملايينه
والعاشق عن نهدي حبيبته
والطفل عن أمّه
واللصّ عن مفاتيحه
والعالم عن حكّامه
سأحدّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ
بعد أن أشعل سيجارة!.
غدًا
عشرة آلاف غد
خرجتْ من حياتي البارحة
و ما زلت أقول غدًا..
و تبلل القلب المعطوب
غدًا يمد النهر أصابعه
و يربت على كتف عطشي
الغد يتحول إلى "اليوم"
اليوم يصير "البارحة"
و أنا أنتظر بلهفة
الغد الجديد
اثنان
كانا اثنين
يمشيان معًا
منه تفوح رائحة التبغ
و منها تتساقط أوراق الليمون
و عند المنعطف
كنجمتين
سقطا
كانا اثنين
أحدهما يغني
و الآخر يحب الإصغاء
فجأة توقف عن هذا
و توقفت عن ذاك
عندما انكسر المزمار
كانا اثنين
أهدته قلمًا للكتابة
و أهداها حذاء خفيفًا للنزهات
بالقلم كتب لها: "وداعًا"
و بالحذاء الخفيف جاءت لتودعه
لا أحد
تعليقات
إرسال تعليق