مختارات من على مرتفعات اليأس
إميل سيوران
ترجمة : عبد الوهاب الملوح
عدم استطاعة الحياة
_هناك تجارب لا يمكننا البقاء على قيد الحياة بعد انتهائها. تجارب نشعر إثرها أنّه لن يعود هناك معنى لأي شيء بعد بلوغ تخوم الحياة. فبعد أن نكون قد عشنا كلّ ممكنات الأقاصي الخطرة بغيظ، تفقد الأفعال والحركات كلّ سحرها، كلّ فتنتها. فإذا استمررنا في الحياة وقتها فلن يكونَ ذلكَ إلّا بمِنَّةِ الكتابة، والتي حين نجعلها موضوعية، تخفّف هذا التّوتر اللامحدود.
الابتكار حماية مؤقتة من براثن الموت.
أشعر إني على وشك الانفجار مما تهبه لي الحياة وآفاق الموت. أشعر إني أموت من العزلة، من الحب، من الكراهية ومن كلّ أشياء الحياة. يبدو إن كل ما يحدث لي جعل مني بالونة مهيَّأة للانفجار. تكتمل في داخلي خلال هذي اللحظات القصوى وتتحوّلُ إلى لا شيء. نتمدّد داخليا إلى حدّ الجنون، ما بعد كلّ التخوم، على هامش النّور، هناك حيث هذا الأخير يتم انتزاعه من اللّيل، نحو امتلاء زائد حيثُ يلقي بك إعصار متوحش مباشرة في العدم. تبتكر الحياة الكمال والفراغ، الحيويّة المفرطة والانحطاط الهائل. من نحن أمام الدّوار الذي يسحقنا إلى درجة العبثيّة؟ أشعر إن الحياة تقرقع بداخلي تحت ضغط الكثافة، ولكن أيضا بتأثير من انعدام التوازن، مثل انفجار جموح قادر على تفجير الفرد لذاته نهائيًا.
نشعر بالحياة تفلت منّا عند أقاصيها؛ وإن الذاتية ليست سوى وهما؛ وإنّ هناك قوى لا يمكننا التحكّم فيها تغلي بداخلنا مدمّرة كلّ ايقاع منضبط. فما الذي إذا لا يمنح فرصة الموت؟ نموت من كلّ ما هو موجود وما هو غير موجود. يصبح عندئذ كلّ ما عشناه قفزة في العدم. حتى ولو لم نقم بكلّ التجارب، يكفي فقط أننا اختبرنا الجوهري منها. وقتها؛ لن يهم إن متنا بالعزلة، باليأس أو بالحب فبقية الانفعالات لن تفعل سوى إطالة هذا الإحساس بالموكب الجنائزي، بعدم استطاعة الحياة إثر دوخات من هذا القبيل. كلّ هذا يأتي نتيجة هزال داخلي صرف.
يشتعل لهب الحياة داخل فرن لن يكون بإمكان الحرارة الإفلات منه. أولئك الذين يعيشون بلا هاجس الجوهري نجوا منذ البداية؛ لكن ما الذي أنقذوه، هؤلاء الذين لم يعرفوا أدنى خطر؟ ذروة الأحاسيس، حدّة الدّواخل ترحلُ بنا نحو جهة شديدة الخطورة، بما أنّ وجودا يحمل وعيًا شديد الحيويّة بجذوره لا يمكنه إلّا نكران نفسه بنفسه. الحياة محدودة جدّا، مجزأة جدًّا، لكي تستطيع مقاومة توترات هائلة. ألم تمتلك كلّ أشكال التّصوّف إثر نشاوي عميقة الإحساس بعدم استطاعة الحياة؟
ما الذي يمكن أن ينتظره من هذا العالم؟ أولئك الذين يشعرون ما بعد المعتاد، ما بعد الحياة، ما بعد العزلة، ما بعد اليأس والموت.
الشغف بالعبثية
_لا شيء قد يُثبت فعلًا إننا نحيا. هل يمكننا بعد الآن، وقد غصنا في أعماق أنفسنا، التماس حجج، أسباب، أفعال، أو اعتبارات أخلاقية؟ طبعا، لا: لم يتبق إذا للعيش سوى أسباب عارية من الصحة. في أوج اليأس ، وحده الشّغف بالعبثية يقي من فوضى تَشَظٍّ شيطاني. فحين تكون كل المُثُل المعمول بها ذات طبيعة أخلاقية، جماليّة، دينيّة، اجتماعية أو ذات طبيعة أخرى، لن يكون بإمكانها ترسيخ اتجاه أو مسار للحياة، كيف يمكن إذا وقاية هذه الأخيرة من العدم؟ لن يمكننا ذلك إلا من خلال التعلّق بالعبثيّة واللاصلوحية المطلقة، هذا اللاشيء المتقلّب بعمق رغم إنه يمتلك تخييلا قادرًا على ابتكار وهم الحياة.
إنّني أحيا لأن الجبال لا تعرف كيف تضحك، كما لا يعرف دود الأرض كيف يغنّي.
ينبثق الشغف بالعبثية عند الفرد الذي أُفْرِغَ من كلّ شيء، رغم قدرته على احتمال فظاعات تحوُّل ٍمستقبلي.
يبقى هذا الشغف الملاذ الأخير لمن خسر كلّ شيء . أيُّ سحر يمكن أن يغويه؟
لن يتأخر بعضهم في الرد: التضحية باسم الانسانية أو الملك العام، عبادة الجميل، الخ. لا أحبّ ممن تبقى من النّاس إلا أولئك الذين أنهوا تجاربهم، ولو بشكل مؤقت. هم وحدهم الذين مارسوا بشكل يقيني ممكنات الحديث عن الحياة. إنْ أمكن الحصول على الحب والهدوء، فتلك وسيلة للبطولة وليس للاوعي.
كل وجود خال من جنون عظيم يظل منقوص القيمة. أين يكمن تميز وجود كهذا عن وجود حجرة، قطعة خشب أو عشبة فاسدة؟
أؤكد بكل نزاهة، إنّه لا بدّ من أن تكون حاملًا لجنون عظيم لتصبح حجرة، قطعة خشب، أو عشبة فاسدة.
قياس الألم
هناك من حُكم عليهم ألاَّ يتذوقوا سوى سُمَّ الأشياء، أولئك الذين تؤلمهم أيُّ مفاجأة وتُعذِّبهم أي تجربة. من الممكن أن نقول إنّ لهذا الألم أسبابه الذاتيّة الصّادرة عن مكونات مخصوصة: لكن هل يوجد معيار موضوعي لتذوُّق الألم؟من الذي بإمكانه إثبات إن جاري يتألم أكثر مني، أو إن المسيح قد تألم أكثر من أي شخص آخر؟ ليس بالإمكان تقدير الألم بشكل موضوعي، لأنه لا يمكن قياسه من خلال إصابة خارجية أو اضطراب معيّن في الأعضاء، ولكن في الطريقة التي يشعر بها الوعي ويعكسها. وبالتالي يصبح كلّ مقياس من خلال وجهة النظر هذه، مستحيلا. يحتفظ كلّ واحد بألمه الخاص الذي يرى أنه الألم المطلق الذي لا حدود له. ولو تطلّب الأمر ذكر كل آلام العالم، الاحتضارات الأشد فظاعة والعذابات الأقسى ممارسة، الميتات الأعنف وحشية والتخليات الأكثر إيلاما،كل المصابين بالطّاعون، المحروقين أحياء وضحايا التجويع البطيء، هل يمكن التخفيف من أوجاعنا بنفس الطريقة التي يتم بها تخفيف أوجاعهم؟
لا أحد يمكنه الظفر بعزاء في لحظة الاحتضار، لمجرد معرفة إنّ كلّ الناس في النّهاية هم موتى، وحتى ونحن نتألّم لن نجد مواساة في الألم الحاضر أو الماضي للآخرين. يسعى الفرد في هذا العالم العليل والمتشظي عضويًا إلى تربية وجوده الخاص في صف المطلق: هكذا، يحيا كل واحد كما لو أنه مركز الكون أو التّاريخ. فبذل الجهد من أجل فهم ألم الآخر لن يقلّل من ألمه. ولن تعني المقارنات شيئًا في مثل هذه الحالات طالما إن الألم حالة عزلة داخلية ليس بمقدور أي شيء خارجي التخفيف منها.
إنها لميزة عظيمة تلك القدرة على الألم وحيدا.
ما الذي سوف يحدث لو عبر وجه الانسان بكل فصاحة عن كلّ الألم داخله وتجلَّى كلّ العذاب الداخلي من خلال التعبير؟ هل نستطيع وقتها أن نتغير؟ هل بإمكاننا ساعتها أن نتبادل الكلام من غير أن نخبّئ وجوهنا بأيدينا؟ بالتأكيد سوف تكون الحياة مستحيلة إذا ما أصبح من السهل قراءة كثافة مشاعرنا في ملامحنا.
لن يجرؤ أحد بعد ذلك على مشاهدة نفسه في المرآة فالصورة الهُزْأَة والتراجيدية في نفس الوقت تمزج نطاق المظهر بلطخات دم، بجراح مفتوحة وجداول من الدموع، لن يكون بالإمكان حبس تدفقها. وفي قلب الهارمونية المترفة والسطحية التي تتصف بها الأيام من تتاليها، سوف أشعر بلذة مليئة بالرّعب لمشاهدة انفجار بركان يقذف بنيرانه الملتهبه كما اليأس. مشاهدة أقل جرح لنا، ينفتح بلا امكانية لمعالجته كي يحوّلنا بشكل كامل إلى بركان دموي!
أليس من المفروض إذا أن نعي ميزات العزلة، التي تجعل من الألم أبكما ومغلقا. في انبجاس بركان ذاتنا أليس بإمكان السمّ المتراكم داخلنا تسميم العالم كلّه.
اقتحام الذهن
_تُفردنا العزلة الحقيقية تمامًا بين الأرض والسماء وهنا تنكشف درامية المحدودية.
النزهات على انفراد - بما أنها مخصبة وفي نفس الوقت خطيرة جدًّا على الحياة الداخلية- يجب أن تتم دون أن يعكّر أي شيء وحدة الانسان في هذا العالم، عند المساء، ساعة ولا أيّ شكل من أشكال الترفيه المألوفة تبدو ذات فائدة حين تصدر نظرتنا للعالم من الجهة الأعمق في الذهن، من منطقة الانفصال عن الحياة وجرحها. كم من عزلة يلزمنا للنفاذ إلى الذهن! كم من موت يلزمنا في الحياة، وكم من نار داخلية! وفق وجهة النظر هذه تنكر العزلة أن يكون تألق الذهن وليد التمزق الداخلي، ويصبح تقريبًا غير محتمل. أليس دالا على ذلك إنّ الناس التي تحرض ضدهم أولئك الذين يعرفون حدة المرض الذي أصاب الحياة بالعدوى لتنجب الذهن؟ وحدهم الذين في صحّة جيّدة يقومون بتمجيده، أولئك الذين لم يختبروا تقلبات الحياة ولا التناقضات القائم عليها الوجود. أولئك الذين يشعرون بثقل الذهن يتقبلونه فعلا، هم، يقدمونه وبكبرياء، على أساس أنّه كارثة. ولا أحد في الأثناء مغتبط في داخله بنفسه، بهذا الكسب الكارثي من الحياة. كيف يمكن إذا أن تسحرنا حياة مجردة من الجاذبية، البراءة والعفوية؟ عادة ما يشير حضور الذهن إلى نقص في الحياة، الكثير من العزلة وألم مستمر.
من الذي يتحدّث عن الخلاص عبر الذهن؟ من الخطأ اعتبار الحي الباطن هو حي مكتئب حيث الإنسان متحرر من ذهنه.
والعكس أصحُّ فالذهن يريد لنا اللاتوازن والكآبة، ولكن أيضا شيئا من كبر الروح.
هي علامة لاوعي حين نقوم بتمجيد الذهن، تماما مثل تمجيد الحياة يعتبر لا توازن. بالنسبة إلى شخص عادي، الحياة بداهة؛ وحده المريض يتمرّغ فيها مُعَظِّما إيّاها ليتجنبَ الانهيار فيها.
لكن ماذا عن ذاك الذي لا يستطيع تعظيم الحياة ولا تعظيم الذهن؟
أنا والعالم
حقيقةُ إنَّنِي موجودٌ دليلٌ على أنَّ العالمَ لا معنى له. أيُّ معنى قد أحصل عليه، فعلا، في عذابات شخص مُمَزَّق وبائس بشكل لا متناه، مَنْ، بالنسبة إليه كلّ شيء يُختزَل في الهيئة الأخيرة للعدم ومَن بالنسبة إليه الألم هو ما يحدّد قانون هذا العالم؟ بما أنّ العالم قد سمح بوجود شخص مثلي فذلك يُبيِّن إن اللّطخات على الشمس هي من الاتساع إلى درجة حجب النور. داستني وحشية الحياة وهشمتني، قَصَّت أجنحتي أثناء تحليقي ورفضت المهج التي ادَّعيتها. حماسي المفرط، طاقتي المجنونة التي لم أدّخر جهدا من أجل أن تُشعّ َََََ على الأرض، افتتاني الشيطاني الذي قاسيته لأظفر بمجد المستقبل، وكلّ قواي أضعتها من أجل تعديل حيوي أو فجر داخلي – وقد اتضح إنّ كلّ هذا أضعف بكثير من لا معقولية العالم الذي صبَّ بداخلي كلّ ينابيعه للسلبية المسمومة . ليس بإمكان الحياة المقاومة في حرارة مرتفعة. هكذا أدركت إن الناس الأشد تمزقًا، هم من بلغت لديهم الديناميكية الداخلية الذروةَ، أولئك الذين لا يستطيعون التآلف مع الفتور واللامبالاة العادية منذورين للانهيار.
نجد في هرْج الذين يقيمون في مناطق غريبة، الطابع الشيطاني للحياة، ولكن أيضا لا دلالته وهو ما يفسّر أنه امتياز للسيئين. وحدهم هؤلاء يعيشون في حرارة عادية؛ أما الآخرون فتضنيهم نار ملتهمة. ليس بإمكاني أن أنفع هذا العالم بأي شيء، لأن تمشياتي متفردة: هي تمشيات الاحتضار.
تشتكون من أنّ النّاس رديئون، حقودون، لا يعترفون بالجميل أو انتهازيون؟ أمّا أنا فأقترح عليكم، طريقة الاحتضار والتي سوف تسمح لكم بالإفلات من كلّ الأخطاء وإن بصفة وقتية على الأقل. طبقوها إذا في كلّ جيل. سوف تتجلّى مظاهرها قريبا. هكذا يمكنني أن أكون مفيدًا ربّما للانسانية في شيء ما!
بالسوط، بالنّار أو بالسُمِّ أثبتوا لكلّ محتضر تجربة اللّحظات الأخيرة، كي يدرك، من خلال عذاب متوحش، التطهر الأعظم والذي هو رؤيا الموت. دعوه بعد ذلك يرحل، يركض مرتعبًا إلى أن يقع من التّعب. ستكون النتيجة، ولا تشكُّوا في ذلك، أفضل بكثير من تلك التي سوف نحصل عليها عبر الوسائل المعتادة. ليتني أستطيع أخذ كل العالم إلى لحظة الاحتضار لتطهير الحياة من جذورها! سأضع لهبًا مشتعلًا وعنيدًا، ليس من أجل تدمير الحياة، ولكن لتوصيل طاقة وحرارة مختلفة لها. النّار التي سأشعلها في العالم لن تؤدي إلى خرابه، لكن ستحدث فيه تحوّلات كونيّة، جوهرية.
فهل ستتعود الحياة على هكذا حرارة مرتفعة، وتكف على أن تكون عشًّا للرداءة. ومن يعرف ربمّا يتوقّف الموت من أن يكون في قلب الحلم، أن يكون نقيضًا للحياة؟
(كتبت يوم 8 أفريل 1935، في عيد ميلاد الثاني والعشرين. أكابد شعورا غريبا لتفكيري في أن أكون، في سني هذه، مختصا في اشكالية الموت)
إنهاك واحتضار
هل تعرفون هذا الاحساس الشنيع بالذّوبان، الاحساس بفقدان أي قوة للانسياب كما جدول، بشعور أن ذاتك تمَّحي في سيلان غريب وكما لو أنّها مُفرَغة من أيّ ماهية. أشير هنا الى إحساس دقيق وموجع وليس فضفاضا وغير محدد. أن تحس برأسك فقط مقطوعة عن بقية الجسم ومعزولة بشكل هلوسي!
بعيدا عن الإرهاق المبهم والمثير الذي نشعر به أثناء تأمل البحر أو أثناء استسلامنا للأحلام الكئيبة، المقصود به هنا ارهاق يمحقك ويدمرك. وبالتّالي لن يغريك أي جهد، أي وهم.
أن تظلَّ مذهولا بكارثتك الخاصّة، غير قادر على التفكير أو التحرُّك، مسحوقًا بالظلمات الجليدية، ضالا كما لو أنّك تحت نفوذ هوس غامض أو مهملا مثلما تكون في لحظات النّدم. وهو ما يعني بلوغ قمة سلبيّة الحياة، الحرارة القصوى التي تقضي على آخر وهم. في هذا الإحساس بالإنهاك يتكشَّف المعنى الحقيقي للإحتضار: أبعد ما تكون عن معركة مستحيلة، مع حظٍ قليلٍ للظفر بها، هي تعكس صورة الحياة تتخبَّط بين مخالب الموت.
الاحتضار بوصفه معركة؟ معركة ضدّ من ومن أجل ماذا؟
ومن الخطأ تأويل الانتحار كما لو أنّه وثبة متحمسة لم يتمَّ استعمالها، أو كما لو أنه دراما تحمل نهايتها في نفسها. يعني الاحتضار أساسًا تحمل التَعَذُّب عند الحدود بين الموت والحياة. ولأن الموت ملازم للحياة فهذي الأخيرة هي في عمومها احتضار.
أما بالنسبة إلي، لا أعترف بلحظات الاحتضار إلا تلك المراحل الأشدُّ دراماتيكية في المعركة بين الحياة والموت.
حيث نعيش هذا الأخير وفق إيقاع واع ومتألم.
يجعلك الاحتضار الحقيقي تبلغ العدم من خلال الموت. وسريعًا ما يمحقك الإحساس بالإنهاك، وينتصر الموت. نعثر في الاحتضار الحقيقي على هذا النصر للموت حتى وإن انقضت لحظات الإنهاك، نواصل الحياة.
أين هو التعذيب في هذه المعركة المستحيلة؟ أليس للاحتضار في جميع تجلياته أسلوبه المحدد؟ ألا يشبه كثيرا بعض الأمراض المستحيل علاجها والتي تعذبنا بشكل مستمر.
تشير لحظات الاحتضار إلى تقدّم الموت على حساب الحياة، دراما وعي ناتجة عن قطيعة في التوازن بين الحياة والموت. لا يحضران إلا في قمة الإحساس بالإنهاك، حين تصل الحياة إلى أقل درجاتها انخفاضًا. ترددات هذه اللحظات هي مؤشر على التفكك والانهيار. الموت هو الفكرة الثابتة الوحيدة التي لا يمكنها أن تكون مثيرة. حتى عندما نرغب فيه، تكون هذي الرغبة مرفوقة بأسف ضمني. أرغبُ في أن أموت ولكنّني نادم على هذه الرغبة: هذا ما يحس به كل من يسلم نفسه للعدم.
أشدّ الأحاسيس انحرافا هو الاحساس بالموت.
غير إنّ هذه الفكرة الثابتة المنحرفة للموت هي ما تمنعه من النوم!
كم أحبُّ أن أفقدَ أيّ وعيٍ بي وبهذا العالم.
السخري واليأس
_يبدو لي أنّ الأشدَّ غرابة في جميع الأشكال التي يتَّخذها ما هو سُخْرِي والأكثر تعقيدا هو ذاك الذي يمد بجذوره في اليأس. سوف لن يراه الآخرون غير نوبةٍ من درجة ثانية. وهل هناك اذا من نوبة أشدّ عمقًا،أشدّ عضوية، كتلك التي في اليأس؟
يبرز السُّخْرِيُّ حين يتناسل من عوز حيوي، أوجاع كبرى. ألا نلاحظ ميلًا جامحا نحو السلبية في ذلك البتر الحيواني وهو في نفس الوقت ميل متناقض يشوّه ملامح الوجه لِيَسِمَها بتعبيرية غريبة، في هذي النظرة المأهولة بالظلال والأضواء المتباعدة؟ بما أنّه مكثف وعضال، لن يكون اليأس موضوعيًا إلا في تعبير السُخْرِي. وهذا بدوره يمثل تمامًا السلبية المطلقة في قمة صفائها – لحظة الصفاء هذه، الشفافية، والوضوح ما بين طرفي نقيض اليأس والتي لا يتناسل منها غير العدم والخواء.
هل اختبرتم ذلك الرضى الهائل بالوقوف أمام المرآة إثر ليال بيضاء بلا عدد؟، هل عانيتم تعذيب الأرق حيث يشعر المرء في كلّ لحظة من الليل، إنه وحيد في هذا العالم وإنّه يعيش الدراما الأساسية للتاريخ؛ هذه اللحظات التي لم يعد لها أي معنى فتكف عن الوجود، لأنك ستتحسّسُ لهيبًا مرعبًا يصَّاعد داخلك، وسوف يبدو لك وجودك متفردًا في عالم وُلد ليراك تحتضر-هل اختبرت هذي اللّحظات التي بلا عدد، لا نهاية لها، مثل الألم، حيثُ تحيلك المرآة على صورة السُخْرِي ذاته؟ ينعكس عليه توتر أخير بما ينضاف إليه من شحوب ذي سحر شيطاني- شحوب الذي عَبَرَ هاوية الظلمات. ألا تنبثق هذي الصورة السّاخرة كما لو أنها تماما تعبيرة اليأس في مسالك الهاوية؟ ألا تُذَكِّر بتلك الدّوخة السحيقة في الأعماق الشاسعة؟
كم سيكون ناعمًا لو كان بإمكان المرء الموت في فضاء مطلق!
يكمن تَعَقُّدُ السُخْرِي في قدرته على التعبير عما هو داخلي بشكل لا محدود، وهو نفس الشيء بالنسبة إلى نوبة قصوى. كيف أمكنه إذا أن يُحَوِّل كلّ هذا إلى شيء موضوعي ضمن دوائر واضحة ومحددة؟ ينكر السُّخْرِي ما هو كلاسيكي، كما يجفل من كل ما هو هارموني أو ما هو متقن الأسلوب.
أن يخفي السُخْرِي عادة تراجيديات لا يمكن التعبير عنها مباشرة، وهي حقيقة بالنسبة إلى من يدرك الأَشكال المتعدّدة للدراما الذاتية. فالذي استطاع أن يحدّق في وجهه خلال ركود السُّخْري لن يصير بإمكانه إطلاقا أن يقف أمام المرآة، لأنّه سيخاف دائمًا من نفسه. تتلو اليأس حيرة مليئة بالأوجاع.
مالذي سوف يفعله السّخري وقتها إن لم يقم بتحيين الخوف والحيرة وتكثيفهما.
تعليقات
إرسال تعليق