شاعران بينهما قصيدة
(البهاء حسين يحاور محمود قرني)
يخلص محمود قرنى للشعر إخلاص محتسب. تراه يدب فى الشوارع من
الصحافة إلى تجريب السياسى الهاوى بداخله إلى القصيدة بخطى مازال يمسها الشغف
بإصلاح العالم. لهذا لم تطلق قصيدته القضايا الكبيرة. محمود ببشرته السمراء ،بحصته
من المرض, حصاة صلبة كقصيدته التى تبحث عن نفسها داخل شخص ومجتمع مأزوم. محمود
متمسك بالكتابة كحيلة للتأقلم, للمواجهة, أكثر من ذلك يؤمن مع كافكا, أن الكتابة «ضرب من الصلاة», وان كان شعره يؤمن بالإنسان فقط, بالأرضى..
بالحقائق الماثلة التى تلمسها اليد, لا بالميتافيزيقى, لأن الإنسان, بالنسبة له
ميتافيزيقيا كافية.
فى جلساتنا القليلة يأخذنا الكلام إلى ما بيننا من اختلاف حول
هذه النقطة, وإن كنا ننصرف سريعاً إلى النميمة عن الأوغاد إلى أن تأخذنا القصيدة
التى كثيراً ما نلتقى عليها. محمود يعول على الزمن, على طريقة «يناضل أيضا من يقعد
ينتظر», وفى قعوده يكتب مشروعه الآخذ بانجاز نفسه منذ «حمامات الإنشاد» 1996, إلى «قصائد الغرقى» الصادر منذ فترة. وقد
سألته بهذه المناسبة: ألا توافقنى الرأى على أن تجربة جيلك تم التشويش عليها، إما
من غير الموهوبين فى هذا الجيل، أو من قبل مؤثرات أخرى؟. فمسد شعره الأكرت الذى لم
يشب بعد وقال:
-
سؤالك يعيد إلى الواجهة عددًا من الالتباسات التى أحاطت بما يسمى بجيل
الثمانينيات، وهى التباسات ترتبط بالظرف السياسى العام بأكثر من ارتباطها بالشعر
نفسه.. وإن بدت الأزمة - فى الواجهة - على غير ذلك، إلا أنها تشير إلى ملاحظة
أساسية هى أن بداية حقبة الثمانينيات كانت قد شهدت انفراطًا سياسيًا كاملاً
للجماعات السياسية والتكتلات اليسارية تحديدًا، وورث الجيل لائحة 1979 التى قضت
على العمل السياسى العام فى الجامعة، وتنامت الحالة الفردية وتجلياتها مع الجيل
حتى الآن، وهى الحالة التى قضت على كل احتمال للالتفاف حول أية مقولات تستعيد
الشعار السياسى وتحتمى به، وإن كان ذلك أفاد الشعر من ناحية إلا أنه أضر بالشعراء
من نواحٍ عدة، لاسيما على مستوى القدرة على التكتل والعمل العام.
فقد
كان معظم شعراء الجيل يناهضون الشعرية السبعينية بسبب ما وصلت إليه من تعسف جمالى
واستغلاق تميزت به القصيدة الرؤيوية، وهو ما كرّس للعديد من العداوات بين شعراء
طالعين يملكون الكثير من البراءة أمام شعراء مدربين ومحنّكين كانت لديهم القدرة
على التصنيف فى إطار مرجعي، أيديولوجى أحياناً، ومتواطئ فى معظم الأحايين.
كان
الشعور العام لدى شعراء هذا الجيل أن ثمة عودة مطلوبة، بل حتمية، إلى ما يمكن
تسميته بجوهر الشعر دون الإغراق فى إسراف ألعاب الشكل، وما رسخت له حداثة المعامل
اللغوية لدى باختين وتشومسكي، وهى الحداثة التى تم نقلها بعماء يثير الأسى، لكن
هذا الاعتقاد لم يتحول أبداً إلى مقولات جازمة، ومع ذلك استطاعت النماذج الأولى
لجيل الثمانينيات - وإن جاءت متأثرة بالمرجعية الستينية - أن تقدم نصًّا لا يقيم
اعتباراً كبيراً للمرجعية السبعينية، وهو ما كشف عن هوة كبرى بين جيلين من المفترض
تلاصقهما، وهو الأمر الذى خلّف لنا حربًا خارج أية معايير أخلاقية ما زلنا نعانى
من بعض آثارها حتى يومنا هذا، رغم أن معظمها يقع خارج الشعر.
لكننى
أؤكد لك أن سؤالك كان بالفعل أكثر صدقية قبل عشر سنوات من الآن، لكن بقاءه حتى
اليوم يعنى أنه يسرى مسرى الشائعة.. فقد تغيرت الخارطة كلية، وحدث ثمة فرز يقترب
إلى الموضوعية بالنسبة للحقبة السبعينية والثمانينية أيضاً، وأصبحنا الآن نستطيع
الإشارة بشيء من الوضوح إلى شعراء بعينهم دون أن نخشى الخذلان.
• المشهد الشعرى الآن
مشوش أيضاً، كيف ترى أنت هذا المشهد؟
-
التشوش الحادث فى المشهد الشعرى حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنها يجب ألا تجرّ خلفها مزيدًا
من مصمصات الشفاه، فثمة غرض - غالباً غير نزيه - يقف خلف مثل هذه المقولات. غير
العارفين بالمشهد وأعداؤه يقولون عادة هذا الكلام. فعلينا أن نتأمل أوجاع القصيدة
من داخلها قبل الانجرار خلف من يريدون قيادتنا إلى مزيد من الحُلكة.
قصيدة
النثر الآن تمتلك أكثر أدواتها، وقد تجاوزت بالفعل التأسيس الأول، بحيث بات الآباء
الأوائل غرباء عليها، وأثق فى أنك تعرف ذلك وتحب - مثلى - عدداً لا بأس به من
تجارب شعرائها.
غير
أن السؤال يمكن قراءته من داخل المشهد بشكل أكثر دقة على مستويين:
المستوى
الأول يرتبط بالغوغائية المحيطة بحداثة المشهد وكثرة مريديه وعشاقه والحالمين بأن
يكونوا جزءًا منه، وهو مطمح وإن كان مشروعًا، إلا أنه ليس من سبيل إليه سوى طرح
منجز موضوعى يمكن الاحتكام إليه، وهو أمر يستحيل توافره للكافة.. ومن ثم فإن
أدعياء المشهد يصبحون جزءًا من هذا التشوش، وعدد لا بأس به من المتحدثين عنه لا
ينأى دورهم عن هذا الوصف، دون أدنى ظلم لهم. لكن هذه الغوغائية سمة تاريخية صاحبت
صعود الأجيال الشعرية عبر التاريخ، وقد ساعد على نمو هذه الأوشاب عجز الحركة
النقدية عن موالاة متابعتها لصناع الشعرية الجديدة والنماذج المؤثرة فيها، وأضف
إلى ذلك وصول الشعر إلى أقصى حالات عزلته، بحيث بات الحديث عنه على المنابر
الإعلامية أمرًا مرذولاً وغير مرحَّب به.
المستوى
الثانى يرتبط بالأول بشكل ما، وإن كان يعنى بالنص من داخله. فقصيدة النثر الجديدة
صاحبها الكثير من التلفيق وسوء الفهم من الشعراء أنفسهم، وحدث نوع من الترويج
والصعود الكاذبين للنموذج الذى ولد مرتبطًا بالمرجعية البيروتية التى تمثل مرجعية
غربية تأثرت بالرمزية الفرنسية أشد التأثير.. وهذا اعتراف اللبنانيين أنفسهم.
كان
الترويج لهذا التوجه يبدو أكثر تلبية لحاجة غير شعرية على الأغلب مثّلتها الرغبة
فى نزع الكثير من الخصوصية المحلية أو بمعنى أدق حدث ما يمكن تسميته بـ «الرغبة فى
تدويل الرمز المحلي»، وهو ما يقدم نموذجاً أكثر ولاءً لما بعد الحداثة تحت إطار
توسيع دائرة الشمول الإنساني.
وكانت
هذه القناعة تقف خلف الإهدار الكامل لخصيصة الرمز المحلى والقيمة المكانية بما
تحمله من زخم وخصوصية، فجاءت النصوص المكتوبة تحت تأثير هذه القناعة وليدة أرواح
مسروقة لأنها تعمل تحت تأثير أقانيم لا تخصها، وتفصلها عنها مسافات واسعة.
أضف
إلى ذلك الوعى القاصر بالوظيفة اللغوية وبفهم الشعراء للدور الأدائى أو الوظيفى للغة،
ومن ثم إهدار القيمة الوصفية والتخيلية التى يمكن أن تتولد عن مستويات التوتر فى
اللغة الشعرية، وقد دفع هذا الفهم نصوصاً كثيرة إلى محرقة المألوف والعادي، وهو ما
يخرجها كلية من حقل الشعر بغض النظر عن الشكل الذى تتزيّا به.
لقد
وقعنا جميعاً فى خطأ جوهرى هو الاعتقاد بأن حداثة الشكل قيمة فى حد ذاتها، وهو أمر
غير صحيح على أى نحو.
من
هنا لا يمكننا أن نحول الواقع إلى ضحية للشعراء والشعر معاً.. فمن يستحق الإدانة
هو الشاعر الذى يعتقد أنه فوق الواقع.
• لا تبدو قصيدتك، بشكل
أو بآخر، بعيدة عن مسألة الالتزام.. قل لي: ما مفهومك عن الالتزام؟
-
مفهوم الالتزام مثير لعدة إشكاليات. فأول ما يتبادر للذهن من ميراثه يبدو مرتبطاً
بالحقبة السياسية التى أنتجت الدولة القومية ومن ثم أدب الواقعية.
ونحن
لا يمكننا - رغم الميراث الشمولى الثقيل للدولة القومية - أن نهدر القيم الرفيعة
التى أسس لها هذا الأدب بتياراته المختلفة. فقد كان ماركس يعتبر بلزاك أهم روائيى
القرن العشرين بالمطلق، رغم أنه كاثوليكى مؤيد للملكية، وكان ماركس يعول فى رأيه
على أن قدرة بلزاك على صوغ الألم الإنسانى للعبيد والأقنان والمرضى والفقراء
والمعوذين تتعدى وعيه الفطرى بالبناء الهيراركى للمجتمع المتخلف.
وكانت
المشكلة ذاتها، وإن بشكل متأخر، قد حازت الكثير من الجدل المصرى على يد لويس عوض
ومحمد مندور اللذين أكدا على الوظيفة الاجتماعية للأدب والفن، وصلاح عبدالصبور
الذى أكد على الوظيفة الإنسانية له.
وما
بين الوظيفتين، الاجتماعية والإنسانية، تقف العديد من التصورات لمفهوم الالتزام
بعيدًا عن ظلال الدولة القومية وميراثها العريض. ولا يمكن للفن نفسه أن يحسم
خياراته حيال هذا الحقل النسبى الذى يبدو غائباً معظم الوقت، وإن كان المعنى
المثير للتخوفات يبدو أكثر وضوحًا مع أفكار ما بعد الحداثة التى هددت ولا تزال
الهويات الضعيفة غير المنجزة أو التى قيد الإنجاز.
لذلك
كان محمود درويش والكثير من رفاقه يَصِمُون الشعر الجديد بالمجانية والعدمية،
ويعتبرون أن مخاطره الحقة تتمثل فى انجرافه خلف تدويل المعنى الإنسانى والحميم
للمكان، بما يعنى من جهة أخرى القول بامتهان الهوية بشكل يصل حد الازدراء.
وإن
كنت لا أثق فى قراءة من هذاالنوع المتسرع والمغالى فى محافظته، إلا أننى أستعيد
دائمًا عددًا من القيم الرفيعة التى كانت موضوعًا لشعرية شديدة التحرر وشديدة
المسئولية. ولدى بريخت الشيء الكثير من هذا، إذ كان يعول دائمًا على ما يقوله
الشعر بغض النظر عن درجة إنصات المجتمع وساسته لأنين الشاعر والشعر معًا. وقد كان
لوتريامون، الذى قدم نموذجاً أعلى للوعى السوريالي، فى ديوانه «أناشيد مالدرورو»
يقول إن الشعر يجب أن يصدر عن الناس جميعاً، رغم أن شاعرًا واحدًا هو من يكتبه.
ومن هنا تبدو فكرة المسئولية بالمعنى المجتمعى أكثر وضوحًا فى وعى الشاعر إذا ما
ارتبطت بأداته الجمالية.. فهذه الفكرة تحقق أفضل حضور لها فى إطار الخصيصة الشعرية
التى يدفع بها الشاعر فى دماء كائناته، تلك العصيِّة على الوصف.. أو التصنيف.
• تصدر عن صوت شعرى هو خليط
من النفسي، الأيديولوجي، الأسطوري، واليومى فى آن.. كيف ترى أنت مصادرك؟
-
وصفك دقيق لما أعتقد أنه مصادرى الحقيقية لتشكيل النص الشعري.
وتبدو
ثمة تناقضات بين أطراف هذا الوصف إذا ما وضعنا اليومى بما يميزه من راهنية،
والأسطورى بما يمثله من نوستالجيا وحنين إلى لحظات ضاربة فى ماضويتها، إلى جوار
النفسى بما يمثله من شواغل ذاتية تنأى عن الوصفين السابقين وتتميز باعتزاليتها
وخفوتها.
وأتصور
أن الوصف والتشخيص الشعريين للنص، أى نص، ينطلق من جوهر واحد هو الوعى الفطرى
بالمأزق الوجودي، بعد ذلك يأتى دور الوعى المعرفى ليخلص فطريتنا من بدائيتها قدر
المستطاع.
وما
يراه البعض أوشابًا وتزايدات على صرامة العوالم الشعرية، يمثل أحيانًا النخاع
الحقيقى الذى يملك مفتاح الحياة للنص الشعري. فقبل أن نقدس الهياكل العظمية منزوعة
النخاع، أقصد منزوعة اللغة ومنزوعة الشعر، علينا أن نحترم فكرة الخطأ الشعري،
فالخطأ هنا يعنى مزيدًا من الاحترام لفكرة التخييل التى أهدرها ماضى الشعر العربى
جملة.. فالشاعر الذى لايزال يكتب تحت تأثير بداهة ووضوح الصحراء العربية.. بما
تمثله من نسق معرفى هو شاعر إما كاذب أو دَعِيّ.. وفى أحسن الأحوال هو نصف جاهل.
فالتراكم
المعرفى الهائل، والتداخل الحضارى بما يفرضه من تنوع إنساني، فرض وعيًا مركبًا على
الفن بكل أشكاله، ولا أتصور هذا الوعى فى الشعر ينأى عن هذا التداخل الحتمى بين
فرضيات تبدو - للوهلة الأولى - متناقضة، المهم فى الأمر أن يدرك الشاعر مساحة
التداخل الافتراضية بين عناصره الشعرية، وثمة حتمية لصنع إطار يحكم قناعاتنا
بالعناصر الشعرية، فمتى يبدأ اليومى ومتى ينتهي؟! كذلك الأمر بالنسبة للعنصرين
الآخرين: الأسطورى والنفسي.
وبالنسبة
لى فإننى وجدت نفسي، منذ زمن بعيد-وهذا ربما له علاقة بالتكوينات الأولى التى لا
يد لنا فى اختيارها- أذهب عادة إلى الشعر الذى يأتى من لحظة ما فى الماضي، ربما
القريب وربما البعيد، لذلك لا أستطيع إكمال قصيدة أو رواية تبدأ فى الزمن المضارع،
وستجد شعري، ربما كله، يحتفى بالجملة الاسمية والفعل الماضي، ستجده يحتفى كذلك
بالتعيين لا التجريد، وعادة ما أنزع إلى الارتقاء بالكائنات الشعرية لما فوق
الواقع، وأزعم دائماً أن هذا هو ما يمنحها سحريتها وخلودها، ويتحقق ذلك أحيانًا
عبر انحرافات لغوية، أو عبر غرائبية الطقس الشعرى وربما مفارقته فى القليل من
الأحيان.
وفى
الإجمال كنت وما زلت أرى أن اتساع المرجعية التى تشكل المصادر الشعرية أقدر على
البقاء والتنوع والاستمرار، من تلك القناعات المعقمة حول الشعر.. إنها قناعات تصلح
للصالونات التى تتبادل الأكاذيب فى إطار الوجاهة الاجتماعية، لأناس يتبرمون من
طبقتهم ويسعون لركلها، وينتجون أشعارًا تنتمى للعالم المخملى الذى يحلمون به، وهذا
هو شرفهم!
• هل ثمة تغيير طرأ على
دور الشاعر، فى ظل العولمة. ثم ما دور الشاعر أصلاً.. أسألك عن شهوة إصلاح العالم؟
-
الربط المباشر بين دور الشاعر فى ظل العولمة ودوره قبلها يحيل إلى قراءة سياسية
للعلاقة بين الفن والسلطة أو بين المثقف والسلطة. ولا أظن أن قراءة من هذا النوع
ستكون منصفة للشاعر أو الشعر.
أتذكر
الآن شعارًا رائعًا دشن به جيل السبعينيات مشروعه الشعرى يقول: «إن الشعر ليست
مهمته تقديم وتبنى خطابات الثورة، الفن هو صانع الثورة وفاعلها».
وعلى
ما يحمله هذا التصور من رومانسية تعكسها الثقة المطلقة فى قدرة الشعر على تغيير
العالم، إلا أن الوجه الآخر له ينفى عن الشعر مهمته التاريخية بتسويغ خطابات
السلطة. لقد تجاوز الشاعر هذا الفهم المهين، وارتبط الشعر العربي، مع مشروع قصيدة
الشعر الحر، بمفهوم يضمن عهدًا جديدًا للشعر مع القيمة الإنسانية. فرغم تقديس هذا
المشروع للمفهوم القومى للأمة بظلاله الفاشية، إلا أنه كان يتجاوز المفهوم الإلهى
للحكم إلى الدفاع عن هويات تشكلها الجماعة ويسهر على بنائها الصوت الهادر لشعوب
خرجت لتوِّها من عباءة القهر الاستعماري، بعد أن تم التعامل معها، لعشرات السنين،
باعتبارها مستوطنات للفقر والجهل والمرض. وظلت مهمة الشاعر - فى إطار المشروع
الوطنى ذى البعد التحررى - إضفاء قيمة مطلقة على قاموس جديد فى المرجعية العربية
يتمثل فى إعادة الاعتبار لمفاهيم العدل والحرية والمساواة، وهى مفاهيم تفارق
المعنى الدينى الذى ارتبط بالحكم الكهنوتى الذى عضّدته المرجعية الفقهية، ومن ثم
كانت قصيدة الريادة هى أعلى التجليات الثقافية للدولة المدنية ذات الصبغة
العلمانية.
وبانهيار
هذا المشروع النهضوى صعدت العولمة التى لا يمكن أن ننزع عنها رغبتها فى إقرار حقوق
الأقليات وتعميم المساواة بين المراكز والأطراف، غير أن هذه المعانى ظلت رهن خطاب
النخبة الغربية ولم تغادر أدبياته إلى أرض الواقع، وظلت الثقافة التمييزية بين
الشمال والجنوب هى العنوان الحقيقى لدولة ما بعد الحداثة.
من
هنا فإن الحديث عن الشعر فى ظلال العولمة يبدو ربطًا قسريًا، فليس ثمة علاقة إلا
التنافر تربط طرفى المعادلة.
فالشعر
- كما قلت - يحتفى بالماضى، والعولمة تولد من رحم ما بعد التاريخ، أى أنها تنكر
القيمة الرمزية لهذا الماضى، كذلك فإنها تكرس النمط الاستهلاكى للثقافة ومن ثم فهى
تخرجها من كونها إنتاجًا معرفيًّا إلى كونها مادة قابلة للتسليع.
فى
هذا السياق فإن الشعر الذى يعى دوره فى طول العالم وعرضه، يقاوم العولمة، لكن
قصيدة النثر تعى فى المقابل أنها لا تحارب فحسب دفاعًا عن المفهوم الهويّاتى
الضيق، إنها تدافع عن الإنسان أيًا كان موقعه، فى إطار الشرط الجمالى الذى يحتفظ
لها بخصيصتها الشعرية.. وهنا تكون القصيدة مضطرة إلى الخفض من خطابها الإنسانى
المباشر، الذى يحتمى بالحكمة والبلاغة، ومن ثم يكون الحديث عن تغيير العالم عبر
الشعر فيه الكثير من انعدام الثقة.
• إذن وسط هذا
الالتباس.. ما الذى يحرض على الكتابة؟
-
محفزات الكتابة يمكن التعامل معها باعتبارها التربة التى تتشكل فى رحمها التجربة الشعرية..
بغض النظر عن التجليات التى أحاطت بدوافع الإبداع عبر العصور.
فما
يخصنى - بشكل شخصى - فى سؤالك هذا، لا يعنى بالضرورة أهمية ما لمحفزات الكتابة
لديّ، بل على العكس من ذلك، فالسؤال يمثل مأزقًا فضائحيًّا لشعراء فقراء يفتقرون إلى
القدرة على الاحتفاظ بطقوسهم اليومية البسيطة، وأنا مثل كثيرين من أقراني، أزعم
أحيانًا أن الشعر يأتى من الوحدة والتوحد، ثم أضطر لكتابته فى حافلة أو فى مقهى،
وأحيانًا ما نضطر لامتهان بعض الأعمال - التى أستأذن قارئى فى وصفها بالوضاعة -
دون أن أسميها، ووسط هذه الأعمال نكتب أشعارًا يبدو عمرها أطول من أعمارنا، أو
هكذا أعتقد مدفوعًا بثقتى فى الشعر، لذلك لا يمكننى الحديث عن المحفزات الشعرية
دون خوف من المسئولية، أقصد مسئوليتى الأخلاقية فى احترام قارئ لا يشغل نفسه
بثرثرات أمثالي، وربما بمسوح كهنوت، أتصور أن كشف بعض هذه الحيوات السرية الهشة
يعنى أننا نستحضر الشيطان الذى يسكن التفاصيل.. وهذا لا يعنى أبدًا أن ثمة أسرارًا
لابد أن نخفيها.. فالأمر أهون من ذلك حسبما أتصور.
تتبقى
ملاحظة أظنها المرجعية الحقيقية لسؤالك.. وتتمثل فى الاعتقاد، الذى ربما يعشش فى
قلوب وعقول الكثير من الشعراء من أن ثمة غموضاً لابد أن يكتنف العالم السرى
للكتابة ومن ثم تحظى لحظة الخلق الشعري، بما تحويه من دوافع، بشيء ليس قليلاً من
القدسية والإيهام.
وأظن
أننا بشكل أو بآخر ما زلنا نعتقد فى أن عنصر الإلهام يقف خلف ما نكتبه ويعضد سحره
الأخاذ بالنسبة لنا على الأقل.. وخطورة بقاء هذا الاعتقاد يعنى أننا مازلنا نؤمن
بأن الشعر يوحى به، وأن الشيطان الذى كان ينفخ فى فم «ذى الزمة» هو نفسه الذى ينفخ
فى أفواهنا حتى هذه اللحظة.. وخطورة استمرار هذا الاعتقاد تتمثل فى بقاء الشاعر
رهن نبوة كاذبة.. ومن ثم فإن اعتداده بما يفعل، فى الشعر وخارجه، يأتى على خلفية
من امتلاكه شيئًا من مس النبوة.. وتنامى هذا الاعتقاد خلق لنا شعراء شبه أميين
يعتقدون أن الثقافة والمعرفة من أدوات تعطيل الفطرة الشعرية المعضدة بالوحى وفرادة
الخلق.
ولا
أظن الشاعر الحديث الذى يؤمن بالبناء الاجتماعى المتعادل والمتساوى يمكنه أن يؤمن
بهذه القناعات، فالسوريالية مثلاً حوّلت الشاعر الذى يعيش على جبال البرانس ينتظر
شيطانه إلى ساحر فقير مضحك.. بل تحول الشعر إلى الكثير من السخرية بالأقانيم وعلى
رأسها أقنوم الشاعر نفسه، وأظن أن التجارب الحضارية الكبرى لم تعد فى حاجة إلى
استعادة شعراء الوحي.. فقد كانت التعرية المؤلمة التى خلفتها الحروب الكبرى لآلام
الإنسان موضع سؤال عميق ظل يضج بالألم والسخرية.. ويبدو أننا نحتاج إلى شيء من هذا
الوعي.
• قل لي: ما مواصفات
القصيدة الجيدة.. وكيف ترى الفارق بين النص الجميل والنص المؤثر!.. وهل حداثتك
قطيعة مع الماضى بالضرورة؟
-
كان «أبو
تمام» ، وهو أحد حكماء الشعر العربي، يعتقد دائمًا أن صور الشاعر منحة «قدرية»، وهو اعتقاد
يشاركه فيه الكثير من الكبار فى الشعرية العربية، ولا أعلم إذا كان هذا الاعتقاد
سببًا فى تواضعه الجم الذى دفعه إلى القول عن أستاذه «البحتري» عندما سُئل عنه:
«جيِّده أفضل من جيِّدي، ورديئى أفضل من رديئه». بهذا المعنى يمكننا أن نشرع فى
فهم القيمة الشعرية لتراثنا الإنسانى فى الشعر وغيره، حيث تتبدى القيمة «الجودة»
فى الكتابة بعيدة عن تصورات الحداثة والقدامة. وتؤكد هذا المعنى فعالية النصوص
القديمة وبقاؤها فاعلة حتى الآن، ومن يتمثل كتاب «صوت أبى العلاء» وأشواق طه حسين
للارتقاء بنثره فى قراءة النص إلى مصاف الشعرية وربما أبعد من ذلك. وبقاء النص فى
التاريخ يعنى أن عناصر الحادثة ترتبط وثيقًا بامتلاك العناصر النسبية للتجويد،
فجودة النص هى سر بقائه، لذلك فإن بورخيس كان يقول «إن كل نص جيد حديث بالضرورة،
حتى لو كان مكتوبًا قبل آلاف السنين».
من
هذه الزاوية يجب أن ننظر إلى حداثتنا وما نزعمه حولها بكثير من التواضع.. فهذا هو
ما يدلنا على المواقع الصحيحة لأقدامنا، وأنا بشكل شخصي، ومن هذا المنظور، لا
أتصور أن حداثة يمكنها أن تقوم بمعزل عن فهم الماضى الذى تطمح للوقوف على أطلاله.
• فى المجتمع المصرى
والعربي.. هل يمكن الحديث عن الشعر باعتباره تطوراً للتغيرات المجتمعية.. وهل
تحولات القصيدة جزء من هذه التحولات المجتمعية؟
-
هذا سؤال يحتاج إلى مؤسسات المجتمع كافة للإجابة عنه، لأن ما يخص الشعر فيه يخص -
فى الوقت نفسه - مؤسسات المجتمع وأفراده وجماعاته.
والملاحظة
الأولى الجديرة بالنظر هى العزلة التى وصل إليها الشعر إعلاميًا ومجتمعيًا، وربما
كان ذلك ترجمة لانغلاق المسام التى تؤدى إلى سبل التجديد، لدرجة بات معها الكلام
عن النص الجديد يعنى نوعًا من الهزل ويدفع لمزيد من عدم الإنصات.
وبدت
الصورة كما لو كان المجتمع الذى يكتب الشاعر من أجله هو من يقاوم ويرفض بل ويسخر
من فكرة التجديد نفسها.. وهو تعبير قاس عن هزيمة المشروع النهضوى وإجهاضه كلية،
بغض النظر عن القيمة التى حاول النص الشعرى ترسيخها.
ويذكر
«إقبال
أحمد» أحد كبار المنظرين فى آسيا لحقبة ما بعد الكلونيالية أن المشروع النهضوى
الذى بعثته الدولة القومية كانت كارثته الحقيقية فى أنه ظل يرى نفسه من خلال
الخطاب الاستشراقى الذى تركه الاحتلال ورسَّخ له وحوله إلى وجدان عام لدى النخب
الفاعلة فى المجتمعات والمستوطنات المحتلة، وإدوارد سعيد نفسه يتقاطع مع هذا
المعنى فى قوله «إن الدولة القومية التى تمسكت بمشروع وطنى للنهضة لم تفعل أكثر من
استبدالها الشرطى الأبيض بالشرطى الوطني»، ويعنى سعيد أن آليات الوعى ظلت أسيرة
الشباك التى أعدها الاحتلال للفريسة.
فى
إطار هذا الوعى لابد من إدراك أن الشعر يحاول صياغة قيمة تقفز على هذا التراجع
وتحاول استعادة إنسانها، دون أن يكون التعبير الشعرى رديفًا للتراجع المجتمعى وإن
كان معنياً برصد هزيمته.. وارتباط الشعر بمستوى من الوعى يتجاوز البعد السياسى
للحراك العام يجعله متحررًا - فى الكثير من الأحوال - من سلطة الخطاب الغوغائى
الذى يروج له ساسة فاشلون أو متسلطون فى أحسن الأحوال.
فقد
أدت تداعيات الهزيمة، بالمعنى الحضاري، إلى انعدام الثقة فى قدرة الفن على إنقاذ
الروح العامة من الانهيار.. فى مجتمعات تفتقر إلى الحد الأدنى من الحقوق
الإنسانية، وتُمتهن فيها كرامة الإنسان دون أدنى روادع أخلاقية أو قانونية. ومن ثم
على الشعر - رغم صعوبة مسئوليته، أن يبادر إلى تبنى الدور الجمالى المناسب الذى لا
ينفصل عن الدور الأخلاقي، حتى لو كان من يقاومون الحداثة هم أنفسهم المعنيون بها.
تعليقات
إرسال تعليق