القائمة الرئيسية

الصفحات

بيتي من زجاج (نصوص من ديوان زوجة سرية للغياب) / رشا عمران

 بيتي من زجاج

(نصوص من ديوان زوجة سرية للغياب)

رشا عمران

 


سُلَحْفَاة


كأيِّ مجنونةٍ أفترضُ جبيني دفتراً، أكتبُ عليه يوميَّاتي، ثمَّ أمشي في الشوارعِ المزدحمةِ، ويقرأُ العابرون ما كتبتُهُ، فيشيحون بوُجُوهِهِم عنِّي خشيةَ المعصية، فأضعُ رأسي بين قَدَمَيَّ وأمشي، يظنُّني البعضُ سُلَحْفَاةً، فيضربونني بقسوةٍ على ظَهْري، وأموتُ من الألمِ، ثمَّ أعودُ إلى البيتِ، وأنامُ على السريرِ مَحنيَّة الظَّهْرِ، وعن جبيني تتساقطُ الكلماتُ، لتملأَ سريري. في الصباحِ، سأرى أحرفُ اسمِكَ مُوزَّعةً على السريرِ بينما كلمةُ - أُحبَّكَ - ملتصقةً بظَهْرِي المَحنِيِّ. 

 

رَجْمٌ


بيتي من زُجاج

لهذا يعتقدُ الجميعُ أنهم يرونَني دونَ أن ينتبهوا أنهم يشاهدون انعكاسَ فيلمٍ عن امرأةٍ تُشبهُني

بيتي من زُجاج

لهذا يعتقدُ الجميعُ أنني حطَّمتُ الجدرانَ كلَّها، فيحاولون الدخولَ دونَ جدوى

بيتي من زُجاج

لهذا يُحاوِلُ الجميعُ رَشْقِي بحجارتِهِم، كي يختبرُوا قُدرتي على الاحتمال

بيتي من زُجاج

أمسحُ الغبارَ عنهُ كلَّ يوم

وأَلُمُّ الحجارةَ التي تُحاوِلُ كَسْرَه

وأبني بها قبراً، سيكتبُ أحدٌ على شاهدتِه:

هنا يسكنُ جَسَدُ امرأةٍ عاشتْ كما تشتهي

بينما قلبُها مايزالُ حَيَّاً كعصفورٍ صغير

يُزقزِقُ مبتهِجاً

كلَّما ظَهَرَ أوَّلُ سَهْمٍ للفجر

مخترِقاً صلابةَ الزُّجاج.

 

 فراشةٌ

 

كلُّ يومٍ سأقولُ لكَ إنني أُحبُّكَ

لا يهمُّني ما الذي ستفعلُهُ بهذهِ الكلمة

قد تزرعُها في حديقةِ منزلِكَ، وتتأمَّلُها كيف تكبرُ يوماً بعدَ يوم

وقد تُخبِّئُها في دُرْجٍ سرِّيٍّ، لا يملكُ مفتاحَهُ غيركَ

وقد تضعُها كورقةٍ في قطَّاعةِ الورقِ، وتُلقِي قُصَاصَاتِها في سلَّةِ المُهمَلات

ما أنا متأكِّدةٌ منه

أنكَ ما إن تنامُ باكراً كما هي عادتُكَ

وتضعُ يَدَكَ تحتَ المخدَّة

ستُمسِكُ أصابعُكَ فراشةً صغيرة

وفي الصباحِ، ستُطلقُها من يَدِكَ

وأنتَ تمتلئُ بالبهجة

البهجةِ التي يُسبِّبُها حفيفُ جناحَي فراشة

وهي تنقلُ بِشَارةً ما ،

تلك الفراشةُ ليست سوى صوتي

وهو يهمسُ لكَ طيلةَ الليلِ: أُحبُّكَ


ملحٌ

 

زجاجةُ بيرة تُوشِكُ على النفادِ، موسيقى صاخبةٌ وأجسادُ تتمايلُ مع روائحِ الرغبةِ. في تلك اللحظةِ فكَّرتُ بكَ، والتفتَ الجميعُ إليَّ، رائحتُكَ تسرَّبَتْ من جِلْدِي، جِلْدي الذي كان رطباً كغطاءِ سريرٍ مبلَّلٍ. هل تذكُرُ بَلَلَ السريرِ ورائحتَهُ بعد طعامِ آخرِ الليلِ؟ التفتَ الجميعُ إليَّ، كان العَسَلُ الممزوجُ باللّوزِ يطفحُ من جِلْدِي، أظنُّ أن الجميعَ رأوكَ تلك اللحظة، رأوكَ وابتسموا، ثمَّ عادوا إلى الرقصِ دونَ أن ينتبهُوا إلى الملحِ في عينَيَّ الدَّامعَتَيْن.
 

كازينو

 

أنا "سيِّئة الحظِّ"، أُوزِّعُ أوراقَ اللعبِ على الآخرين، وأُراقبُهُم كيف يُراوِغُون الورقَ بأصابعَ مدرَّبةٍ، ويكسبون

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، أكتبُ عن الحُبِّ، وأشاهدُ النساءَ يقرأْنَ ما أكتبُ وهنَّ يخلعنَ قلوبهنَّ ويتركْنَها جانباً، ثمَّ يُقبِّلْنَ رجالهُنَّ بشَغَفِ النساءِ العاشقات

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، أُغنِّي في آخرِ السهرةِ، ويطربُ لغنائي السُّكارى، وألمحُهُم يتمايلون دونَ أن يلتفتَ أحدٌ إلى شلَّالِ الحزنِ المتدفِّقِ من صوتي.

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، عاشرتُ الكثيرَ من الرجالِ دونَ أن أُحبَّهُم، وحين أحببتُ سقطتُ في الهاويةِ، حيثُ لا يوجدُ سوى سريرٍ، لا يكادُ يحتملُ ثِقَلَ جَسَدِي الوحيد.

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، أعرفُ أنني سأموتُ وحيدةً كَقُنْفُذَة، لا يجرؤ أحدٌ على اختبارِ نبضِ الحياةِ في لحمِها المغطَّى بالأشواك،

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، سيتركُني الجميعُ دونَ كلمةِ وداعٍ، وإذا ما التفتُّ لن أجدَ أحداً ورائي، وسأمشي طويلاً قبل أن أُصبحَ سراباً، يُلاحِقُهُ الآخرون دونَ جدوى،

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، أستعيرُ مفردةَ شاعرٍ ميتٍ، وأتخيَّلُهُ يمدُّ لي لسانَهُ ساخراً، ولا ينطقُ بأيِّ حرف،

أنا "سيِّئةُ الحظِّ"، اسمي رشا عمران، أنامُ على بطني في غرفةِ النومِ، وعلى ظَهْرِي تقفُ قطَّتي البيضاءُ، كما لو أنها تقفُ على تَلَّةٍ عاليةٍ، وتُراقِبُ خيالَهَا المُتحرِّكَ على الجدارِ، ثمَّ تقفزُ، كي تلتقطَ حبَّاتِ الرملِ المتطايرةَ منِّي.

 

عَمَى

 

نحن نقفُ على الأبوابِ، ندقُّ وندقُّ حتَّى تسقطَ أكفُّنا، ولا يفتحُ أحدٌ، نحنُ نقفُ على الأبوابِ، ننتظرُ وننتظرُ حتَّى تسقطَ أجسادُنا، ولا يفتحُ أحدٌ، نحنُ نقفُ على الأبوابِ بعيونٍ تائهةٍ، حتَّى إننا لا ننتبهُ أن الأبوابَ مُخلَّعةٌ، وأنْ لا شيءَ في الداخلِ غير الفراغِ، الفراغِ الذي يسقطُ هو أيضاً مُخلِّفاً صوتاً خافتاً، كما لو كان أنينَ امرأةٍ وحيدةٍ، عافَهَا الجميعُ، ومضوا يبحثون عمَّا تساقطَ من أعضائِهِم أمامَ الأبوابِ المُخلَّعة ..

 

جريمةٌ

 

لستُ زوجتَكَ، لأُمسِكَ بيدِكَ لحظةَ احتضارِكَ

ولا أنا ابنتُكَ، لألبسَ ثوبَ الحِدادِ حين تموتُ

ولستُ قريبتَكَ، لأبكي رحيلَكَ أمامَ الآخرين

أنا مُجرَّدُ امرأةٍ غريبةٍ، تُحبُّكَ دونَ أن يعلمَ أحدٌ

ودون أن يعلمَ أحد

قتلتُكَ صباحَ اليومِ، وأنتَ على سريري

قتلتُكَ، كما لو كنتَ أوَّلَ رجلٍ أقتلُهُ في حياتي

ثمَّ أمسكتُ يدَكَ التي بدأتْ باليباس

وقبَّلتُكَ قبلةَ الوداعِ الأخيرة

وقبل أن أضعَ وردَ المقابرِ على جَسَدِكَ النحيل

ارتديتُ قميصَ الموسلين الأسود

وبكيتُكَ كما تفعلُ النادبات

ثمَّ استلقيتُ الى جانبكَ

وحضنتُكَ

هكذا قضيتُ كلَّ يومي، وأنا مستلقيةٌ بجوارِ جثَّة

لا أعرفُ أين أدفنُهَا

ولا تريدُ أن تتحلَّل

كما لو أنَّها ستبقى إلى الأبد

الشاهدَ الوحيدَ

على جريمةِ قَتْلٍ

أنوي ارتكابَهَا كلَّ يوم

وأنا أُحدِّقُ

في سريري الفارغ.

 

مومياءُ

 

أنا أُتقِنُ الانتظارَ

أحيكُهُ قطبةً قطبةً

تماماً كما تحيكُ النساءُ الوحيداتُ قُمصانَ أزواجهنَّ الغائبين

يمرُّ الوقتُ، ولا أنتبه

يرنُّ جرسُ بابي عشراتِ المرَّاتِ، ولا أنتبه

أنا أحيكُ الانتظارَ قطبةً وراءَ قطبة

ودونَ أن أنتبه

ألفُّ الخُيُوطُ على جَسَدِي

و أعجزُ عن الحَرَكَة

ذاتَ يومٍ سيخطرُ لكَ أن تعود

ستفتحُ البابَ كعادتِكَ دائماً، وتدخل

ستجدُ امرأةً بجَسَدٍ مُحنَّطٍ كالمومياءات

وبجانبِهَا إبرُ حياكةٍ طويلة

مشكوكةٍ بقلب

لا يعرفُ أحد

كيف لا يزالُ مملوءاً بالدمِ الطازج

 

نخلةٌ

 

النخلةُ الطويلةُ في الحديقةِ المائية

يكادُ الهواءُ أن يُسقِطَها أرضاً

غير أنها لرغبةٍ ما تستعيدُ طولَهَا كلّ حين

لوَهْلَةٍ ظننتُها أنا

وأن ما يحدثُ لها يحدثُ لي

لوَهْلَةٍ ظننتُ هذا

لولا أنني تذكَّرتُ أن جذورَهَا عميقةٌ في الأرض

الأرضِ التي تحفظُ جيِّداً عاداتِ النخل

أنا لستُ نخلة

أنا شجرةٌ مستورَدَة

لا عاداتٍ لي هنا

ولا أقوى على احتمالِ نسمةِ هواءٍ خفيفة

نسمةٍ خفيفةٍ

لا تنتبهُ إليها سوى الأشجارِ الطويلة

الغريبة


نملٌ

 

أن تضعِي يَدَيْكِ خلفَ ظَهْركِ، ثمَّ تمدِّي رأسَكِ، كي يصلَ أطرافُ قَدَمَيْكِ، ثمَّ تبدئي بقَضْمِ أظافرِكِ القصيرة، لا يعني أن الندمَ يمشي فوقَ جِلْدِكِ، أنتِ فقط تُقلِّدين امرأةً وحيدةً، تُحاوِلُ أن تشيحَ بنَظَرِها عن التفاصيلِ التي تُتلِفُ قلبَهَا، امرأةً وحيدةً تُشبهُكِ تجلسُ مقابلَكِ تمام، الفارقُ فقط أن شرخاً طويلاً ناحيةَ قلبِها ينزُّ منه الألمُ بينما حولَ قلبِكِ تتجمَّعُ التفاصيلُ كما لو كانتْ عائلاتٍ من النملِ الصغيرِ، التفاصيلُ نفسُها التي تُتلِفُ قلبَ المرأةِ التي تُشبهُكِ وتجلسُ مقابلَكِ تماماً، وتمدِّين رأسَكِ حتَّى كأنكِ تقضمين أظافرَ قَدَمَيْها.


فَقْدٌ

 

حتَّى شراءُ ملاءاتٍ جديدةٍ للسريرِ لا يُجدي، استخدامُ روائحَ معطَّرةٍ في غرفِ البيت، تغييرُ المناشفِ والأطباقِ والكؤوسِ، رائحةُ الرجلِ الذي تُحبِّينهُ وأنتِ في الخمسين ستطلعُ من مسامِّكِ كلَّما حاولتِ تفريغَ ذاكرتَكِ منه، رائحتُهُ ستهجمُ كما النملُ على فتافيتِ الطعامِ المَرمِيَّةِ على الأرضِ بلا انتباهٍ، لن ينفعَ معكِ شيءٌ. في الخمسين لا شيءَ يُساعدُكِ على ترميمِ فراغاتِ الموتِ التي يُخلِّفُها الفَقْدُ داخلَكِ، في منتصفِ الخمسين، عليكِ أن لا تُحبِّي أبداً، هكذا ستعيشين دونَ حُزنٍ، ستعيشين طويلاً دونَ أن تنتبهي كم ستكونُ حياتُكِ بائسةً بدون تلك الرائحةِ التي تنزُّ من مسامِّكِ الحزينة.

 

نَعوةٌ

 

أعرفُ جيِّداً ما هي الوحشة

أُراقِبُ الدمَ الذي يتسرَّبُ من شاشةِ الهاتفِ إلى وجهي

وأعدُّ الجثثَ المكدَّسةَ كالملابسِ المستعملةِ في محلَّات البالة

وأسمعُ موسيقا صاخبةً، كي لا تقتلَني أصواتُ المتفجِّرات

ثمَّ أُفكِّرُ بمكالمتِنا الأخيرة

حين وَقَعَ قلبي على أرضِ الغرفة

مُحدِثاً ذلك الارتطامَ العنيف

وسقطتُ أنا في الفجوةِ التي أَحدَثَها في أرضِ الغرفة

أعرفُ جيِّداً ما هي الوحشة

أن أبقى هناك في تلك الفجوة

مُغطَّاةً بالدم

وفوقي تتكدَّسُ آلافُ الجثث

بينما لا يَصلُني من الخارجِ سوى أصواتِ باعةِ الملابسِ الرخيصة

وترجيعِ صوتِكَ في الهاتف

وأنتَ تنعي الحُبّ

الذي كان يعيشُ معنا

في الغرفةِ نفسِها

 

اكتمالٌ

 

لم أرَ القمرَ الذي رآهُ الجميعُ أمس

نوافذي كانت مُغلَقَة

والستائرُ سميكة

نمتُ كما أنامُ كلّ يوم

ظَهْري على الحافَّةِ الحادَّةِ بين اليقظةِ والنَّعَسِ الشديد

ويداي مستلقيتان في الفراغِ على الجانبَيْن

وعلى غيرِ العادةِ كان قلبي يتسرَّبُ كشُعاعِ ضوءٍ من الشّقِّ الطويلِ في صدري

يضيءُ تلك المساحةَ التي فرغتْ للتَّوِّ من حُبٍّ مريض

هكذا

في الخارجِ كانت الطبيعةُ تُغيِّرُ عادتَها

وأنا في الداخلِ أفعلُ مثلَها

أنهضُ عن الحافَّة

يدي اليمنى تتلمَّسُ جرحَ صدري الطويل

بينما اليسرى تُحاوِلُ الإمساكَ بذلك الشعاعِ الذي يظهرُ ويختفي كطيفٍ مخاتلٍ لفراشةٍ بيضاء  .

 

شهوةٌ

 

أريدُ أن أكتبَ عن الحياة،

الحياةُ في رئَتَي عصفورٍ صغيرٍ، يُحاوِلُ الدخولَ من دَرْفَةِ النافذةِ المواربةِ، فيضربُ رأسَهُ بالخشبِ

الحياةُ في جناحَي فراشةٍ شفَّافةٍ، تقتربُ من أثرِ الضوءِ، وهي تعتقدُ أن السلامَ يكمنُ هناك، فيحترقُ طرفُ جناحِها الأيسر

الحياةُ في بُطءِ نملةٍ، تسيرُ على حافَّةِ الجدارِ، وهي تحلمُ بذرَّةِ سُكَّر، ستجدُها في مكانٍ ما

أريدُ أن أكتبَ عن الحياة

و أنا أشمُّ رائحةَ جِلْدِكَ كذئبةٍ متوجِّسةٍ حين تتَّصلُ بي

أو حين يبدأ الخَدَرُ اللَّذيذُ يُعرِّشُ على جَسَدِي كلَّما سمعتُ صوتَكَ، ثمَّ أحتفلُ وحدي بهذا الحُبِّ كلِّه الذي لا يعرفُ به أحدٌ غيري.

أريدُ أن أكتبَ عن الحياة

عن الذين يَفرِدُون أحلامَهُم، ولا ينتبهون كيف تنحني ظُهُورُهُم وهم يُنقُّون الأحلامَ من الحصى والتراب

عن الذين يحملون بُيُوتَهُم على أكتافِهِم، يحتمون بها، كلَّما مرَّ مِعوَلُ الموتِ وهو يحفرُ في الدُّرُوبِ حولَهم

عن الذين يَختِمُون غُصَّةَ القَهْرِ بالسخريةِ، كما لو كانوا يُرسُمُون على جدرانِ التاريخِ أعيناً مفتوحة

أريدُ أن أكتبَ عن الحياة

أنا التي قضمتِ الحياةُ أصابعي اليمنى، كما يَقضِمُ فأرٌ لعبةً بلاستيكية، وراقبتُها دونَ أن أُبالي، ثمَّ مَدَدْتُ لها اليسرى دونَ أن أشعرَ بالندم.

 

تعليقات