عندما تُفْلِتُكَ الحرب
مختارات من ديوان " تلويحة عالقة في الهواء "
مفتاح العلواني
نعتذر
للمتاهات التي عرفتنا قيمة السبل..
للسُّبل وهي توصل التائهين
ولا أحد يعانقها..
للشجرة وهي تقف على ساق واحدة منذ زمن
تحلم بأن تلتقط أوراقها المتساقطة..
للزمن ونحن نتذمّر من ركضه
بينما لا نفعل شيئاً عندما يتوقف سوى الضحك..
للدمع الذي يقوم بواجبه وينحدر
فرحاً وحزناً.
للصباحات الجميلة التي تستمر بالمجيء
رغم ليلنا الطويل..
للرفاق عندما توشوشنا أنفسنا بهجرهم ثم نلعنها..
لليد وهي ترتعش داخل جيوبنا
متعبةً من التلويح..
لجباهنا ونحن نسمع صوت تشققها كلما تداعكت
الذكريات في رؤوسنا..
لخُطانا التي أجبرناها على المضي قدماً
دون وجهة معينة..
للمقاعد الفارغة إلا من بقايا قُبلٍ متناثرةٍ لم يتغير لونها..
للشعر الذي يعرف أننا يتامى..
فيمسح على رؤوسنا بيده الناعمة..
للنوم ونحن نترجاه أن يأتي كل ليلة قبل مجيء كل شيء..
وللخذلان أيضاً
الخذلان الذي لعنّاه كثيراً ثم تبين
أنه كان ينتشلنا منهم..
لكل الذين أحبونا ولم نجد الوقت لنسمعهم
عن قربٍ ونحبهم........نعتذر
أنت؟
أنتَ أيّها الشّمعة!
- أتقصدُني؟
- نعم..
و إلَا فكيف أراكَ
تحترقُ... و تذْوي... و تُضيئُني معاً!
قال الظلامُ لي..
ثمّ اختفَى خلفَ الصّباح...
**
- أنتَ يا رأسَ الحجَر!
- أتقصدِينني؟
- بلا شَك
مالِي أسقِيك كلّ ليلةٍ
بماءٍ منهمرٍ و لا يخضرّ وجهك؟!
قالتْ العينُ لي
ثمّ أرسلتْ نهراً...
**
- أنت يا عديمَ الزمن
- أنا؟
- ومن غيرُك؟
و إلا فكيفَ نمرّ عليكَ كما يمرّ
طيرٌ على أعمَى!
قالَ رأسُ السّنة
ثمّ احتضنَ ذيلَ السنةِ القادِمة...
**
- أنت يا شمْعة.. يا رأسَ الحجرِ.. يا خَاليَ الوقت
- من أنت؟
- مالكَ كلّما ضاقَ صدرُك خَنقتني!؟
قال الشعرُ..
ثمّ دفعنِي من على حافّته...
عندما تُفلتك الحرب
عندما تفلتك الحرب من دونهما
ستكون عاجزاً مثل عمود إنارة مُطفأ..
عن مسح عينيك إثر بكاء حار..
وعن احتضان الأحبة كما كنت تفعل
حينما كنت تلفهم بهما كي لا يأخذهم الزمن
غلاباً..
ستتلكأ.. حينما يسألك الناس
عن الوقت..
وتنسى آخر مرة ارتديت فيها ساعة..
ستتمنى لو أن شيئاً يعلق بهما
أي شيء ولو كان قيداً..
ستبكي عندما يقول أحدهم مصادفة
(يد واحدة لا تصفق)
ستبكي لأنك لا تقدر حتى على التلويح
للراحلين بيد واحدة..
وستتشقق جبهتك كلما حاولت عبثاً مسح عرقك..
ولن تعرف أيضا كيف تمد أحداهما
للذين يحاولون انتشالك..
عندما تفلتك الحرب دونهما
ستعرف حينها قيمة الموت
في ساحتها بيدين كاملتين.
تَقهقُرٌ بلاَ جسد
منذ أن مات أبي وأنَا
أَركض..
لم أبرح مَكانِي.. لكنني كنت أركض
بقوةٍ هائلة عكس الزمن!
كانت أطرافي تسقط وتذوب..
و الدمع يجرح خدّ الريح
كلما انحدرت دمعة.. رأيت
دماً يسيل في الهواء!
أركض..
ماراً بأَحلامي القَديمة
أَحلاَمي التي فَتّت أَبي
أَحلامه لأجلها..
لوّحتْ لي.. غير أن رأْسي الْتوى
و أنا أنظر إليها مشدوهاً حتى
توارت في الأُفق!
في الطريق أَيضاً صادفتُ ظلّي..
كان يجري في الاتّجاه
المقابل..
لم يتعرف عليّ!
كما أن أطرافه لم تسقط!
مطّ شفتيه وابتعد أيضاً..
مات أبي.. ومذ ذاك وأنا أعدو إلى
الخلف..
أَرى أُناساً يبتسِمون..
و آخرين انفجرت حناجرهم وهم
ينادون موتاهم..
لكنهم ليسوا مِثلك يا أَبي..
لا يشبهونك يا حبيبي..
أركض..
أعبُر أزمنةً قديمة.. وحضاراتٍ شاسعة..
تُصادفني أغانٍ لَطالما ردّدتها لأمّي
في غفلةٍ من الحزن..
أَصابَها الخَرسُ يا أبي..
وأنا تعبتُ.. تعبتْ
أَعيانِيَ الرَكضُ مِن بعدك
ووَهنتْ رُوحي.. وتَساقطْت
كُل أطْرافِي..
و استحالت أرضُ قَلبي قَفراً..
و النّاس.. كلّ النّاسِ فِي غِيابِك سَواء..
سأَقِفُ الآن عنِ الرّكض.. و أَنتظر..
أَنتظِرُ أنْ تَلوح رُوحكَ في الأُفق
لأَستَعيد بعضاً مِن نفسٍ ادّخرتُه لِعناقٍ
طويل..
طوِيل..
مفتاح
اسمي مفتاح
لست صالحاً لأي باب
ومحاط بخمسة وثلاثين سنة من السير
بين أزقة الأيام...
وعندما أتعب أجلس فوق رصيف العمر
بينما أتسرب مني كإطار مثقوب
لدي أصدقاء لا أحبهم
وآخرون أخفيهم عن أعين الغياب الحادة
وحبيبة أحبها ألف عام في كل يوم..
وشوارع في رأسي مزدحمة بأناس زائدين عن الحاجة
لا وزن لي.. لكنني أسقط بقوة
لي ظل حزين جداً..
مرة نزلت لألتقط أنفاسي فتشبث بي وبكى
هناك سوء فهم بيني وبين الحياة
لم أفعل لها شيئاً..
لكن موت أبي لمس رجلي من الخلف بينما
كنت أركض نحوها..
منذها وأنا أتدحرج وأمد يدي لها ولا تلتقطني..
اسمي مفتاح
للآن وكل الذين وصلوا إليّ على شكل موج
تراجعوا..
وأنا أقف كشاطئ حزين.
مُجازفة
ليست لي خطّة ما..
دخلت الحياةَ هكذا مجازفةً..
لا سكين.. ولا مسدس
ولا عصا أهش بها هوامّ
الحزن..
حافياً.. أمشي مسافاتٍ طويلة
دون وجهةٍ معينة..
وعندما أتعب أضع
رأسي على فخذ ظلي
ولا أنام..
لا مأوى لي..
أبيت حيث ينتهي بي النهار..
مرةً وجدتُ كهفاً صغيراً فدخلته..
في الليل صارت الجدران تتسرب
منها الدماء..
فهربت..
لكن الكهف ظل يركض أيضاً..
يركض ويذوي حتى
عرفت أنه كان كومةً من الذكريات..
لا أعرف طريقة للعيش
حتى الآن..
إنني أحيا فقط..
أنصب أشراكاً كثيرةً للحزن فأقع فيها..
وأحاول جمع الأيام
في صرّة واحدة
لكنها تتبدد في كل مرة..
أحث السير على الطريق الخطأ..
والكل يصفّق بقوة
دون أن ينبهني أحدهم عن الحافة..
لا مواعيد لي..
لا ينتظرني أحد في نهاية الوقت..
لي صديقة واحدة أخبرتني مرةً أنها ماتت..
ضحكت كثيراً ولم أصدقها..
لكنني رأيت جثثاً تخرج من فمها فبكيت..
بكيت.. لأن أحداً لم يشعر بموتها
كل هذا الزمن مثلي..
كانت تضحك حتى تيبّس جسدها دون إشارة حتى..
ليس لي خطة ما..
تسيل دموعي إلى الداخل..
بينما تتشقق جبهتي كلما قررت التفكير
في خطة للنجاة.
ثُقب
مجروحة هذه الأيام
و نحن نسيل منها كدماء ساخنة..
من قال إن الزمن كفيل بالنسيان؟!
لابد أنه كان بلا ذاكرةٍ أصلاً..
أو أنه نحت ذاكرةً قبيحةً لدى أحدهم وهرب..
ها نحن نكدّس الوقت فوق الوقت
و لا ننسى..
نتذكر حتى أشياء لا تتعلق بنا..
ثم نضحكُ ببلاهةٍ لأن خيالاً عزيزاً مر
بالصدفةِ أثناء تذكّر ملعون..
أذكر مرةً أنني أسرفتُ في محاولةِ النسيان
فتشقّق وجهي..
قال جاري: إن هناك رؤوساً صغيرةً تخرج من جبهتي
و ترجع!
صدّقته.. ذلك لأنني نجحت في قطع أحدها بالصدفة..
للآن وأنا أسمع صراخه
لابد أنه صار
ذاكرةً ثابتة.
هذه الأيام مجروحة نعم..
لا شيء يشد على جرحها المتسع كل يوم..
وأنا كَخيّاط مُسن.. أحاول عبثاً أن ألِج ثقب الحَياةِ..
و لكنّ رُوحِي تَرتعِشْ.. تَرتعِشُ يا صديقي!
حزن الرعاة
من يحدّثنا عن حزنِ الراعي؟!
من يخبرنا كيف يبكي
الرعاة؟!
الرعاة الذين كلما ماتت نعجة..
توسدوا جذع شجرة وبكوا
قليلاً.. وحزنوا كثيراً.
الرعاة الدراويش..
أولئك الذين تتدفق دموعهم على جرو مريض..
وتثقب قلوبهم ندبةٌ على جنب الحمار..
من يشعر بهم؟
الطيبون..
الذين تتمسح بهم جراؤهم
فتغمرهم نشوة الفرح العظيم..
يغشاهم الشجن كلما عوى
ذئب في الجوار..
فيطمئنون أن الغابة لا تزال صالحةً للاختباء..
يرقصون على صوت الجنادب
وهمس السنابل في الحقل..
ويحتفون بقطع سلحفاة طريقهم المسرعة
على مهل..
من الذي يغني لنا عنهم
وهم يحشرون أنوفهم في "العرعار"
بعيون مغمضة
ويستذكرون ميلاد الشجرة..
يرددون "الغناوي" خلف شياههم
ويصيخون لألحان المزامير المنهمرة
عبر الأودية..
يهشّون بعصيّهم ضجيج المدن..
وتحفظ وجوههم مسارب "البطّوم"
من يحدثنا عنهم؟
أولئك الذين كلما ابتعدوا قليلاً عن مسارحهم
ردهم الحنين..
وصوت "قمرية" تضلّل الصقر عن
أفراخها.
ارتطام
الدلو الذي غاص عميقاً
خانته البئر..
لذلك كان لارتطامه
المؤلم كل هذا
الدويّ.
الغريق
كل اليابسة تبدو على
شكل قشة
في مخيلة الغريق.
منْ أنت؟
منْ أنت؟!
قال وجهي في المرآة..
ثم مدّ يدهُ ومسحني..
تعليقات
إرسال تعليق