لغةُ الفَقْدِ
دراسة في الحرية والهُوية في ديوان ( كلاشنكوفي الحبيب) لهرمس
كريم الصياد
(نشرت بمجلة إبداع-القاهرة- 2015)
"الكلاشنكوف هو اللغة القاتلة للكلمات، حيث تأتي على دلالاتها الممكنة تمامًا، السلاح هو اللغة، هي القادرة على التحرير المعرفي والوجودي للإنسان. هو اللغة التي تَكتب لغةً، التي تحيي الألفاظ وتميتها"
أولاً: الموضوع والمنهج:
يدشن ديوان "كلاشنكوفي الحبيب" لمحمد مجدي (هرمس)[1] مع القليل من أعمال شعراء آخرين مرحلة تحول جديدة في قصيدة النثر المصرية، وربما العربية بعامة. لم يحقق الديوان الاهتمام النقدي الذي يستحقه كالعادة، في سياق انشغال أغلب النقاد بالأسماء المعدَّة مسبقًا، والتبارز في تطبيق مناهج جديدة على نصوص قديمة، لكن الديوان -مع ذلك- ربح الجدارة بالقراءة والدراسة، وفرض دهشته في النهاية ولو على عدد محدود إلى الآن من الباحثين.
وتستعمل هذه الدراسة المنهج الظاهرياتي (الفينومينولوجي)، الذي يعنَى بمتضمنات الوعي بقطع النظر عن حكمنا عليها، كما قرأ هيدجر ظاهراتيًا جيورج تراكل وريلكه وهولدرلن، ذلك من دون إغفال خصائص أسلوبية جديرة بالإبانة. ويستعمل الباحث ثلاثة سياقات لحصار الظاهرة: سياق قصيدة النثر، سياق أعمال هرمس، سياق صاحب الدراسة التأويلي، ومنهجين أساسيين: تحليل المضمون كمًا وكيفًا، والتأويل الظاهرياتي (الفينومينولوجي)[2]. وتستخلص الدراسة ظواهر أساسية من العمل: النَّجم، الجُند، السلاح، الجحيم، وتحلل (ما لأجْلِه الشاعر): الحرية والوعي بالفقد الذاتي.
ثانيًا-الشاعر في السياق:
1-سياق قصيدة النثر العربية:
يمكن القول بأن قصيدة النثر العربية قد مرت بمراحل ثلاث متفاوتات في التبلور:
أ- القصيدة الثورية (النشأة والإعلان): بدأت قصيدة النثر كما هو معروف كثورة شعرية، استبعادية أحيانًا لغيرها، ديكتاتورية في البداية كشأن الثورات الناجحة، تحاول أن تنال الاعتراف من المجتمع الأدبي بشأن شعريتها بما تثيره من إشكالية الشكل. وفي هذه المرحلة تميزت قصيدة النثر بخصائص ثلاث: اللغة المعتِمة (أي الاستعمال الغائي أو الجمالي غير الأداتي أو الوظيفي للغة كمادة فنية) جزئيًا ونسبيًا، الموضوعات الفلسفية والتساؤلات الجذرية التي تمثل تيمة حداثية-عربية خاصة بعد هزيمة 1967، ووعي الأدباء والمفكرين بأولوية تحديث العقل على تحديث الدولة، والخطاب الرسولي أو الفيلسوفي (وليس الفلسفي)، أي أن الخطاب ذاته انتقل من مرحلة الشاعر-المناضل الاجتماعي إلى مرحلة ساد فيها نسبيًا نمط الشاعر-الرسول أو الشاعر-الفيلسوف، كما هو الحال لدى أدونيس مثلاً. وقد وقعت هذه المرحلة في تناقض جدلي، مفاده أنها ثورية من جهة، واستبعادية من جهة أخرى. وهو ما أدى إلى المرحلة التالية كمحاولة لحل ذلك التناقض.
ب-القصيدة الديمقراطية (التسعينات): بعد أن هدأت معركة قصيدة النثر كشكل اعتزل شعراؤها معركة الأشكال الأدبية، فصارت "القصيدة المعتزلية"، أو "القصيدة الديمقراطية" في مقابل استبعادية المرحلة السابقة ربما، فتغيرت اللغة وتغير الموضوع والخطاب. صارت اللغة أكثر شفافية باطّراد (الاستعمال الأداتي غير الغائي للغة، أي اللغة بوصفها أداة تعبير غير مقصودة لذاتها)، وتغير الموضوع، فقد صار أقرب إلى اليومي والتفصيلي، وناسب هذا من جهة لغةَ النص، كما لائم من ناحية أخرى خطابَه، الذي تخلى نسبيًا عن الرسولية والفيلسوفية لصالح الإنسان البسيط الرمادي الهامشي أو غير المبالي أحيانًا، في إطار أعلن أن قصيدة التسعينات هي (شعرية الهامِش والهامِس)، كما هو الحال لدى أسامة الدناصوري وعماد أبو صالح مثلاً. وفي هذه المرحلة تضاءلت نسبيًا شاعرية اللغة، أي الاستخدام الإبداعي للغة، لصالح الاستخدام الأداتي. وقد وقعت هذه المرحلة في تناقض جدلي بدورها؛ فهي "شعر" غير شعري من جهة اللغة، إذا كان من أدوار الشاعر الأساسية إعادة بناء اللغة عن طريق الاستعمال غير الاصطلاحي non-conventional للغة، أي الكلام -جزئيًا- خارج حدود المواضعة اللغوية. وهو ما أدى إلى المرحلة التالية.
ت-ما بعد التسعينات: تظل هذه المرحلة (ما بعد.. Post-)؛ لأنها لم تتبلور بعدُ في اتجاه محدد؛ فهي تارة ما بعد قصيدة النثر، وتارة النص النثري الجديد. وبرغم ذلك يمكن الوقوف على بعض ملامح الشكل الجديد، فاللغة استعادت عَتامتها إلى حد كبير، واستعاد الموضوعُ منطقَ طرح الأسئلة الوجودية الكبرى، واستعاد الخطابُ بعض الرسولية من دون إغفال اليومي والعابر، بل ربما من خلال ذلك اليومي والعابر.، ومثاله هذا الديوان: "كلاشنكوفي الحبيب". وتعد هذه المرحلة مركب المرحلتين السابقتين؛ فهي معتمة اللغة ورسولية الخطاب من جهة، وهي كثيرًا ما تتعرض ليومية الشاعر والإنسان بعامة كمضامين ومنظورات من جهة أخرى.
يعد (كلاشنكوفي الحبيب) كما سبق ذكره عملاً تدشينيًا إلى جوار غيره من قلائل الأعمال اليوم في قصيدة النثر، التي يمكن لمجموعها وتراكمها أن يبدل مسار قصيدة النثر المصرية أو العربية. وربما عبّر هذا التحول عن مرحلة (شعرية الثورات العربية)،[3] مثلما ارتبطت المرحلة الأولى بالذات لقصيدة النثر أعلاه بظرف سياسي-اجتماعي-فلسفي جارف. على أن تعبير الديوان عن الظرف السياسي لثورات الربيع العربي جاء أكثر عمقًا من عدد من الأعمال، التي كتب بعضها في ميدان التحرير في يناير وفبراير 2011؛ فقد كُتب الديوان أغلبه في الفترة من أبريل 2013 إلى مارس 2014[4]، في وقت هبطت فيه الثورات العربية من ذروة منحناها لتسير في شتاء يبدو أنه سيكون طويلًا، فتزود العمل بالوعي باكتمال دائرة الثورة (من ثورة إلى ثورة مضادة)، دون أن يقف عند عتبات التفاؤل الساذج الذي توقفت عند حدوده أعمال أخرى سارعت باستغلال الحدث السياسي.
من الخصائص الأسلوبية للشاعر في سياق قصيدة النثر اللغة، التي تمثل أحد أهم معالم الافتراق عن قصيدة التسعينات. يتعامل الشاعر مع اللغة غائيًا (جماليًا)، كمادة موسيقية وتشكيلية، بل كمادة دلالية إن جاز التعبير، كالتعامل الفني في الفنون الحسية (الموسيقى والتشكيل والفن الديناميكي) مع موادها. الشاعر لا يختار اللفظ المعبّر وحسْب، بل اللفظ الذي (يريده) في هذا الموضع. ومن المادة المعجمية ينتقل إلى صرفها، فيختار الصيغة الأجمل أو الأكثر كشفًا، ثم من الصرف إلى التركيب، فيصوغ العبارة في بنية نحوية مرادَة جزئيًا في حد ذاتها، ليصنع "نصًا كائنًا"، وليس مجرد "تعبير عن كائن"، دون أن يفقد التوازن مع الفكرة (وهذه خصيصة أسلوبية ستتضح في سياق الشاعر).
إلى جوار اللغة تبرز الموضوعات، النبوءة، المعرفة الأصيلة، المعرفة المزيفة، الوعي بالضياع، الديستوبيا، الثورة، الجحيم، السلاح، السلطة، في سياق طرح اليومي والعابر والتفصيلي على إطار المشهد، كما سيلي تفصيله. صحيح أن الشاعر يتكئ أحيانًا على تفاصيل المكان أو الموقف، لكن هذا الاتكاء قليل بالمقارنة، بالإضافة إلى أن الشاعر عادة ما يتعامل أسطوريًا وكونيًا وتاريخيًا مع العادي والتفصيلي والحاضر (وهي خصيصة تالية). أي أن العمل لا يدشن فقط تحولاً في اللغة، بل كذلك في تقنيات الترميز.
الخصيصة الثالثة هي الخطاب العالي، الرسولي والنبوئي، ويتضح هذا في مشروع الشاعر الذي عنوانه: "هرمس"، إله الخَبَر واللغة والفهم ورسول الآلهة عند الإغريق، كما يتضح في نصوص العمل، فالشاعر نوح (قصائد: نوح مرة أخرى، نحن دمى الساقي المقطع 20، والمقطع 23)، أو من صحابته، وهو منجِّم، وهو ينذر الناس بنهاية وجودهم (قصيدة طبيعة الجنود). وخطاب الشاعر ليس رسوليًا بسيطًا، يمكن القول أنه خطاب أسطوري، إذا تضمنت الأسطورة كمفهوم القصصَ الديني وبعض الأحداث التاريخية التي يرويها الناس كأساطير. وهو تطور للخطاب يفرقه عن خطاب المرحلة الأولى من قصيدة النثر. وقد استفادت هذه الخصيصة من خصيصة أخرى هي منطق بناء الصورة الشعرية عند هرمس، فهرمس يبني عددًا من صوره عن طريق استدعاء طرف المجاز من الأسطورة أو الحكاية التاريخية،
" أنا صانع السيوف العجوز
الذي أمضى حياته في دق الموت والحياة على السندان" (صانع السيوف)
بما يحيل إلى فولكان الإله صانع الأسلحة في الأساطير الرومانية، مقابل هفايستوس الإغريقي.
" إذا ما عبرتم النّهر الرمادي الكئيب
وبينما تخترقون الأقصاب الشبحية
اتركوا الموتى الذين سيوقفونكم " (الدرع)
وهو يستدعي أسطورة العالم السفلي عند الإغريق.
"أما نحن
رجيمو الطرق
فنحمل الأنابيق ونسائل العدم عن المرة القادمة التي ستتراصف فيها النيازك وتحمل الأمل للأرض" ("فُمّ" الماسورة)
وهو يستدعي سياقًا أسطوريًا غير محدد.
"في زمنٍ مضى
كنت أعبد الشمس" (ليس
هذا مقصدي تمامًا)
وهو
يستدعي سياقًا ميثولوجيًا قديمًا.
"نوح يراني كل يوم، ذاهبًا إلى المعسكر" (نوح مرة أخرى)
وهو يستدعي قصة نوح.
هذا المنطق في صياغة الصورة الشعرية (الذي قد يطلَق عليه "المجاز الدرامي") كان له دور مركزي في استدعاء سياق درامي-تراثي متنوع بين التاريخ والدين والأسطورة كلحن مصاحب في الخلفية للقصيدة الغنائية الحاضرة الأكثر سيادة في العمل، فقصائد هرمس -عن طريق منطق الصورة الشعرية- كثيرًا ما تستدعي في الخلفية مشهدًا دراميًا تراثيًا، يكون له دور فعّال في مضاعفة عدد الإحالات وتنويعها بشكل مستهدَف. بل أحيانًا يقوم بتحويل الواقع تدريجيًا إلى تاريخ أو أسطورة، كما في قصيدة "خُبز الغريبِ":
"أتمشى حول العربة قليلاً لتمضية الوقت
يستقبلني شحاذون وكلاب
أصلُ لأطلال قلعةٍ بأبوابها رؤوس وعولٍ حديديةٍ منغرسةٌ من حصارٍ قديم
أخرج علبتي الصفيح وأشرب محاولاً كتابة قصيدة
عن سرب غزلانٍ يشاهد عطشانًا يحتضر
فأكتب عن إلهٍ اسمه الغريب"
هنا يتحول واقع رحلة الشاعر بالتاكسي في المدينة المعاصرة إلى جولة في مدينة تاريخية بائدة أو أسطورية قديمة، تجري فيها القصيدة كدراما. هل المدينة هي ما يتلاشى، أم الأسطورة هي ما ينشأ؟ على أية حال ساهمت هذه الخصيصة الهامة في تكوين طابع رسولية الخطاب.
2-سياق الشاعر:
صدر لهرمس ديوان (التغريد بطريقة برايل) في 2012 بالقاهرة، وهو استخلاص وتنقيح لتجربة سابقة ثرية لم تنشَر، حين كان الشاعر يستعمل اللغة جماليًا بشكل يطغى أحيانًا على وحدة الفكرة (مع استعداد النص لعدد لا نهائي من التأويلات يبقى هذا إمكانية للنص لا القارئ، الذي يتحرك بين احتمالات محدودة في التأويل عادة)، وبالتالي كان النص (نصًا) أو مادةً فنيةً مستهدفة لذاتها غالبًا. ويبدو إنجازًا خاصًا لديوان (كلاشنكوفي الحبيب) قدرته على تحقيق التوازن بين الفكرة واللغة (انظر مثلاً وضوح الفكرة في قصيدة "طبيعة الجنود" أو "روعة السقوط" مع إعتام اللغة في الوقت ذاته). أما القفزة الأسلوبية الثانية فهي تحقيق توازن الذات والموضوع، فالشاعر يتمكن خاصة في ديوان (كلاشنكوفي الحبيب) من تضفير الخيطين الذاتي والموضوعي في القصيدة، فيطرح الموضوع (الذي عادة ما يكون همًا وجوديًا عامًا) في إطار الذات، يطرح العام والمطلَق في إطار الخاص والمعيَّن، هي خصيصة لا غنى عنها في العمل الفني الناجح، في قدرته على توجيه النظر الأعمق دون فقدان الصلة بالذات المتلقية، ودون استعمال لغة مقالية أو شارحة Metalanguage.
3-السياق التأويلي:
من أهم ملامح أزمة النقد العربي الجاري انتفاء موقف أدبي خاص للناقد يوجه منظوره ويخرج نقده من مرحلة الوصف والقراءة إلى مرحلة الفهم الجديد الإبداعي والتقييم، جزئيًا على الأقل؛ فالموقف من الفن عمومًا هو أساس الموقف النقدي. وقد تنوعت وجهات النظر بخصوص مسألتين أساسيتين في الإبداع: كيف ينشأ؟ وماذا يستهدف؟ لجأ البعض للمنشأ المثالي مثل سيجموند فرويد لتفسير نشأة الإبداع بناءً على مركبات نفسية متبقية من مرحلة الطفولة[5]. ولجأ البعض للمنشأ الاجتماعي مثل إرنست فيشر حين أقر أن الفن حقيقة اجتماعية لتلبية احتياجات اجتماعية، حيث نشأ الفن كأداة لتطويع الطبيعة مثلما كان السحر يلعب الوظيفة نفسها في العصر الحجري المتأخر[6]. في الواقع فإن الإبداع الفني ينشأ فعلاً من اتصال الإنسان بالطبيعة، لكن ليس فقط بها، بل بالعالَم الذي فيه الطبيعة موجود من موجوداته، العالم الذي يشمل كل ما يقابل الوعيَ من أشياء ووعي مقابل، لكنه لا ينشأ كمحاولة لتسخير العالم، بل كمحاولة لفهمه والتعرف Erkennen (إليه)، تمامًا كلعب الطفل في محاولة للتعرف إلى ماهيات الأشياء وخواصها. كما أن الإبداع (يتأثر) بشتى المركبات النفسية المتبقية، لكن هذه النظرية لا تفسر نشأته. وفي رأيي فإن النشاط البشري الواعي كالفن والدين والعلم والفلسفة ذو نشأة مثالية بحتة معرفية-أنطولوجية غير اجتماعية، لكنه يتعرض للعوامل الاجتماعية بعد ظهوره في الوعي.
يقوم هرمس في "كلاشنكوفي الحبيب" باستعمال اللغة للتعرف استعمالاً معرفيًا كشفيًا، اللغة هي التي تتكلم كمبنيّ للمعلوم، وتستكشف الماهيات والطبائع. تحتل إشكالية اللغة نفسها موضعًا بارزًا في قائمة موضوعات الديوان الأساسية، ترد كلفظ في العمل ككل (لغة) تسع مرات: (ص 41 (3 مرات)، 68، 78، 86، 92، 98، 99) وترد (كلمة) مرة، وترد (كلام) خمس مرات، و(معاني) أربع مرات، و(معنى) سبع مرات.
"أتحدث عن انتهاء معنى "نامية" في التركيب " دولٌ نامية
...
أريد تعلم لغة جديدة
...
على الشعراء أن يتعلموا الرماية
... لأنهم هاربون من شرطة الفتك باللغة" (كلاشنيكوف)
" ما أريده حقًا هو الذهاب بعيدًا
أو تعلّم لغةٍ جديدة " (هادئ وعديد-1)
"
يكفيني الليلة أن أشعر أنني أستطيع الهرب
إلى أماكن تصبح فيها اللغة المتناثرة في المقهى والسوق والشارع دالةً متصلةً أبدًا،
لا تتوقف، تتمايل بغنج صبيةٍ " (هادئ وعديد-9)
كيف نتكلم اللغة التي تتكلم هي نفسُها؟ هذه من المسائل الكبرى التي ينشغل بها الشاعر. وعن طريق الاستعمال الأصيل للغة، بما هو مفارق للسياقات المسبقة، ومولِّد للمعاني الجديدة، ومشغول بتكوين لغة جديدة، لا يمكن تعلمها في الحقيقة، ويمكن فقط اختراعها، يتعرف الشاعر على العالَم، ويكشفه. ومن هنا نشأ الإبداع. وكلما نشأ الإبداع كتعرُّف أصبح هذا الإبداع أكثر أصالة وقدرة على التأثير والكشف وشق طرق جديدة في الوعي، ومن ثم وجهٌ هام من أوجه الأصالة الإبداعية لهذا العمل.
المسألة الثانية في نشأة الإبداع هي غاياته الأساسية. وتنحصر غايات الإنسان عمومًا في رأيي في غايات البيولوجيا، والتسلط، والهوية: الغايات البيولوجية هي التي يشترك فيها الإنسان مع غيره من الأحياء، ومن الصعب أن تفسر نشأة العمل الفني، أما غاية التسلط فهي مشتركة بين الإنسان وغيره، وهي تفسر جزئيًا نشأة الإبداع الفني في قدرة العمل على تحقيق استعمار من نوع خاص، هو استعمار الذوات المتلقية بوعي وتجربة الأنا المبدِع، أما غاية الهوية فهي مقصورة على الإنسان، وهي التعبير عن ومقاومة التبدل في الهوية الشخصية للأنا، الذي يلاحظه حال انقطاعه عن مصادر هويته، كمفارقة مكان مألوف شارك في تكوين الهوية، وهنا يظهر تأثير الفَقْد، الذي يدفع للتعبير عنه، وربما مقاومته بالإبداع لتوليد مجال هوياتي جديد خاص حول الأنا، وطن جديد بعد ضياع الوطن، يكون معصومًا من الضياع ومسجلاً باسم الأنا. ونلاحظ هنا أن هدف التسلط يخدم هدف حفظ الهوية ومقاومة الفقد بشكل غير مباشر.
في الفقرتين التاليتين يمكن فهم العمل من خلال التسلط والهوية كمستهدَفين من الإبداع:
أ- الاستعمار بالتحرير:
كما يقول نيتشه في (هكذا تكلم زرادشت): "ليس لزرادشت أن يأتي قطيعًا كراعٍ للغنم، الكثير من الطرُق أمام القطيع لأشقها، لهذا أنا جئتُ".
"Nicht soll Zarathustra einer Heerde Hirt und Hund werden! Viele wegzulocken von der Herde – dazu kam ich."[7]
يستعمر الشاعر الذوات القارئة عن طريق الاستعمال الإبداعي للغة الذي سبقت الإشارة إليه، بالإضافة إلى محاولة تحرير القارئ من المعرفة المزيفة، ليس بمقاومتها اجتماعيًا على النهج الواقعي، بل بالاستعمال الإبداعي للكتابة واللغة الذي سبق ذكره. وعن طريق التحرير موضوعيًا يستعمر الشاعر المتلقين ذاتيًا. لكن الشاعر كذلك يواجه إشكالية السلطة عن طريق بلورة أطراف الصراع: أداة السلطة والمتمرد على السلطة والسلاح أو القوة، وذلك عن طريق رمزيات معقدة، أهمها: النجم والجند والكلاشنكوف.
تحتل ثنائية النجم/الجُند كمًا وموضعًا مميزين في الديوان في تعارض وصراع، ويمكن تحليلها كما يلي:
· مفهوم النجم: يرد (نجم) وجمعه وتأنيثه و(تنجيم) و(مُنجِّم) 17 مرة في العمل (ص 19 (3 مرات)، 18، 22 (مرتين)، 45، 47، 55، 71، 79 (مرتين)، 81، 82، 101، 103، 104)، وتخصص له قصيدتان (طبيعة الجنود) و(روعة السقوط)، حيث النجم في كل الحالات رمز للمعرفة السحرية أو النبوءة المتجاوزة لمعروف الناس، وحيث يمكن اتخاذهما سياقًا تفسيريًا لتأويل (النجم).
"يجلس الآن في مكان ما ينظر للنجوم ويسمع أسرارها" (طبيعة الجنود)
"أهرِّبُ النجومَ إلى عروقي" (هادئ وعديد-9)
تعد (طبيعة الجنود) و(روعة السقوط) من القصائد الدرامية القليلة في العمل، الأولى تحكي أسطورة الحاكم الذي حرّم النظر إلى النجوم (تحريم السلطة للمعرفة الأصيلة)، وتحكي الثانية تراجيديا سقوط نجم وضياعه في (المجتمع) البشري، ويستدعي النجمُ كمعرفة أصيلةِ الإشاراتِ إلى الجرائد والميديا والبروباجندا كمعرفة مزيفة (الميديا ص 103، الجرائد ص 64، جريدة ص 156، البروباجندا ص 40). لكن مفهوم النجم ينقسم إلى وجهين: فهو غالبًا (النجم المعرفي) وأحيانًا (النجم العسكري) في إشارة إلى النجمة كرتبة عسكرية، التي ترمز للسلطة:
"يمسمر كتفي بالنجوم" (ص 104)، "رموز نحاسية مدبسة برقبتي" (ص 58).
ويبدو الصراع بين الوجهين غير محسوم حتى النهاية. لكن المفهوم المعرفي للنجم يزداد تبلورًا قرب نهاية الديوان في اتحاده بمفهوم اللغة "لغة من المادة البحتة للنجوم" ص 98، لغة كاشفة أكثر منها مخبِرة.
· مفهوم الجُند: يرد (جند) و(جندي) و(مجند) و(ضابط) و(قناصة) و(مقاتل) و(عسكري) و(عسكر) و(عسكرية) و(جيش) بالجمع والمفرد 40 مرة (جنود: 16، 18، 23، 47 (مرتين)، 50، 51، 54، 60، 61، 77، 85، 101، 105. مقاتلون: 59. ضابط: 4 مرات. عسكرية: 3 مرات. عسكر: مرتين. عساكر وعسكري: مرتين. قناصة: مرة. جيش: 4 مرات) مما يشير إلى طغيان حضوره. وتظهر هنا بيئة الكتابة من الخارج إلى الداخل جزئيًا، بيئة معسكرات التجنيد والوحدة العسكرية، التي كُتب الديوان أثناء تجنيد الشاعر بها. ويدل مفهوم (الجند) -كذلك في قصيدة (طبيعة الجنود)- على أداة السلطة، وعلى أنهم كذلك ضحية في عالمها. إنه مفهوم (الضحية-الأداة). وهو يصطدم ويتجادل مع مفهوم النجم (الضحية-المتمردة)، ويبدو الصراع إلى النهاية بينهما غير محسوم، بين السلطة وبين التحرير.
· مفهوم الكلاشنكوف (أو السلاح): من المفاهيم الهامة كذلك في هذا السياق مفهوم (الكلاشنكوف) فهو عنوان العمل. ويرد لفظه 3 مرات فقط في القصائد بالإضافة إلى كونه عنوان الديوان وعنوان أحد الفصول. لكن (أسلحة) ترد 3 مرات (قصيدة كلاشنكوف) و ترد (مسدس) مرتين (ص 22، 74). إن الكلاشنكوف رمز للسلاح عمومًا، الذي يجب أن يتدرب عليه الشعراء اليوم؛ في عالم فشلت فيه الثورات (الربيع العربي) وساد فيه عصر القوة:
"على الشعراء أن يتعلموا الرماية" (كلاشنكوف)
وهو كذلك لغة:
"هذه قصيدةٌ مكتوبةٌ على صوت الكلاشنكوف
لم يبق فيها رصاصةٌ إلا وقتلت كلمة
أو جرحتها عميقًا حتى العدم" (خفيف كالريشة)
الكلاشنكوف هو اللغة القاتلة للكلمات، حيث تأتي على دلالاتها الممكنة تمامًا، السلاح هو اللغة، هي القادرة على التحرير المعرفي والوجودي للإنسان. هو اللغة التي تَكتب لغةً، التي تحيي الألفاظ وتميتها. إنها كالكلاشنكوف، كالسلاح عمومًا، كالسيف الذي يصنعه (صانع السيوف) بأن "أمضى حياته في دق الموت والحياة على السندان"-قصيدة (صانع السيوف). تلك اللغة يمكن للمتلقي أن يعيد بها فهمه للعالم، فيتحقق للشاعر ملكه الذي لا يجوز لغيره.
ب-الفَقْدُ أو (كلاشنكوفي الحبيب) كسيرة ذاتية:
يحدث تأثير الفقد الشامل حين يشعر الأنا بتغير مفاجئ في هويته، هذه الهوية التي تتبدل دائمًا كالنهر مع التقدم في العمر وخوض التجارب، لكن الحركة المفاجئة في الأبعاد الموضوعية للكون (المكان والزمان) تحدِث هذه المفاجأة. والحركة الوحيدة التي تؤدي إلى هذا التأثير هي حركة المكان؛ نظرًا لاستحالة الحركة في الزمان حتى الآن. والحركة في المكان تتم بطريقتين: إما الحركة المفاجئة للمسافة البعيدة (السَّفَر) أو تحدد الإقامة، كما في تجربة الشاعر التي أنتج منها عمله في معسكر الجنود.
كتب الشاعر ديوانه أثناء تجنيده الإلزامي لمدة ثلاثة أعوام، انقطع فيها عن جانب كبير من المدينة التي ألفها، وعن الأصدقاء، وعن روافد عديدة ساهمت في تكوين هويته الشخصية. هذا الانقطاع يحدث في الأنا شعورًا بالاغتراب عن ذاته، مما يسبب له ألم الوحشة وحيرة التحول غير المتوقع، وغير المفهوم، في الهوية الشخصية. ويحاول الإبداع التغلب على ذلك الألم بتوليد مجال ذاتي بديل محيط بالشاعر يشكل من حوله شرنقة الوطن الجديد/الأليف.
ولكن الفقد أيضًا يتمتع بوظيفة معرفية هامة، هي إدراك أثر الأشياء في الأنا على المستوى التكويني والبنيوي؛ فحين يحدث عطل في نسق الأشياء يتعرف الأنا على ما تعطل بوصفه أداة لغرض محدد، ويفهم ماهيته كأداة كما يفهم غرضه:
"ألوّح لسيارة نقل
لتقطر سيارتنا الميري المعبأة بالشحوم
...
سائق السيارة التي قطرتنا
يسألني عن سر عطل الجيش فجأة
أو متى ستعود سياراته القديمة
لتملأ الشوارع" (عطلٌ في اللا شيء)
لكن الحقيقة أن الإنسان يتعرف على الشيء حين فقدِه التام، حين يدرك (الأثر) الذي للشيء في تكوين هوية الأنا الشخصية غير القابلة للنسخ. ولما كان الفقد حتى الآن يحدث لأسباب مكانية، تتخذ صورة السفَر أو تحدد الإقامة، فمن المناسب منهجيًا تتبع الإشارات للمكان في العمل. ترد لفظة (المدينة) 13 مرة في العمل، بالإضافة إلى إشارات أكثر عددًا بكثير لمعالم القاهرة، كالمقاهي والبارات وأسماء الشوارع. كما يرد (معسكَر) 12 مرة، ويرد (وحدة عسكرية) مرة واحدة، مما يشير إلى توازن كمي بين المدينة (المكان المفقود) ومعسكر الجيش (المكان المحدَّد). ليست المدينة الحالية المزامِنة لكتابة العمل هي المكان المفقود، بل المدينة القديمة، ربما قبل الثورة حيث الأحلام الوردية، ربما المدينة وقت الثورة حيث لم تكن العدمية قد انتصرت على جيل كامل بعدُ، ربما قبل التجنيد في الجيش وتحددِ الإقامة، ربما هي قاهرة أخرى خاصة بالشاعر وحده، لكن أيًا كانت هذه القاهرة فهي قاهرة الفردوس المفقود بالنسبة له، وبعد فقده بقيت فقط قاهرة الجحيم، مما يستدعي دراسة مفهوم (الجحيم) في العمل.
· مفهوم الجحيم:
يرد (الجحيم) بشكل مباشر 13 مرة (ص 15، 16، 20، 22 مرتين، 26 مرتين، 29، 32، 77، 84، 105، 107) وهو جحيم المدينة "شارع فؤاد المتصالب على الجحيم" أو جحيم النفس البشرية "كأي ضائعٍ يجلس ويسكر بعينين مشرعتين على الجحيم" أو جحيم أسطوري "دعوني أبجل من جديد كائنات الجحيم ذات الألف يد"، هو قويّ الحضور كمًا بما يساوي حضور (المدينة) و(المعسكَر) كليهما، هو عذاب وهو نهاية للوجود. والجحيم يستدعي تلقائيًا الفردوس، والفردوس بما هو فردوس دائمًا مفقود. تمثل المدينة القديمة هذا الفردوس الضائع. وحين ضاع الفردوس حدث الضياع وليس العكس. الجحيم في (كلاشنكوفي الحبيب) هو جحيم الضياع والعدمية ( قصيدة "عطلٌ في اللا شيء": حيث سواء عليه أتعطل أم لم يتعطل فهو لا شيء). العدمية نتيجة للوعي بفشل الثورة المصرية 2011 من منظور هذا التأويل. ومن هنا يعد هذا العمل معبرًا عن شعرية الثورات العربية 2011. نيتشه وفوكو ودريدا، فلاسفة العدمية ونقد المركزية والتفكيك، هم الذين ترد أسماؤهم في العمل دون غيرهم. الجحيم هو انعدام المعنى "كيف أجد المعنى؟ كيف أستعيره لكتلة مرمية بلا معنى؟"-نحن دُمَى الساقي-16، هو الحطام وتوحش الحضارة والغربة الاجتماعية حين يكون الفردوس هو حيث.. "يزهر الحطام، تسقط البنوك، تضمنا التكايا، تهزنا الرعشة الطيبة" نحن دمى الساقي-15.
يعبر الشاعر عن شعور الفقد وتبدل الذات "أين ضيعتُ روحي؟"-نحن دمى الساقي-21، الروح ضاعت في المكان (معسكر الجيش):
" كم هي خالية الحياة في الجيش... زملائي يغنون. إننا عراةٌ تمامًا كمقاتلين. لا يبقى لنا إلا الغناء. وأنا في لحظتي الوحيدة أرخي الصحبة عن روحي قليلا لتضيع. وحين أجالس وجهي وأنا أحلق، لا تلتقي أعيننا، إذًا، أين ضيعت روحي؟"( نحن دمى الساقي-21)
يقاوم الشاعر الفقد والضياع بإفراز شرنقة الزمكان الذاتي من حوله في كل اتجاه بإحكام وصبر وإخلاص، بالاستعمال الإبداعي للغة، بالفن الكاشف، بطرح إشكاليات اللفظ والمعنى والدلالة شعريًا، بتأسيس المفاهيم (كمفهوم البدن في قصيدة نحن دمى الساقي مقطع 4)، باستعمار الآخرين بالحرية.
ثالثًا: ختام:
يقاوم الشاعر الفقد والضياع بإفراز شرنقة الزمكان الذاتي من حوله في كل اتجاه بإحكام وصبر وإخلاص، بالاستعمال الإبداعي للغة، بطرح إشكاليات اللفظ والمعنى والدلالة، بتأسيس المفاهيم (كمفهوم البدن في قصيدة نحن دمى الساقي مقطع 4)، باستعمار الآخرين بالحرية. وفي النهاية استطاع الشاعر إنشاء وطن بديل باللغة والشعر.. وطن يستحق العيش فيه.
كريم الصياد
سبتمبر 2015
Köln[1] -هرمس: كلاشنيكوفي الحبيب (دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2014).
[2] -لضيق المقال تتم الإحالة لقراءات أبعد في الأعمال العربية والترجمات الخاصة بالفينومينولوجيا:
من الأعمال الشارحة:
-محمود رجب: المنهج الظاهراتي في الفلسفة، رسالة دكتوراه غير منشورة، قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
-يحيى هويدي: دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
-زكريا إبراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة.
-يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة.
-سعيد توفيق: الخبرة الجمالية.
-سماح رافع محمد: الفينومينولوجيا عند هوسرل.
ومن الأعمال التطبيقية-الإبداعية:
-حسن حنفي: تأويل الظاهريات.
-حسن حنفي: ظاهريات التأويل.
ومن الترجمات:
-إدموند هوسرل: الفلسفة علمًا دقيقًا، ت محمود رجب.
- إدموند هوسرل: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية، ت إسماعيل المصدق.
- إدموند هوسرل: أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهرياتية، ت أبي يعرب المرزوقي.
- إدموند هوسرل: مباحث منطقية، مقدمات في المنطق المحض، ت موسى وهبة.
- إدموند هوسرل: فكرة الفينومينولوجيا، (الدروس الخمسة لهوسرل لعام 1907)، ت فتحي إنقزو.
- إدموند هوسرل: خمسة دروس حول الفينومينولوجيا، ت أحمد الصادقي.
-مارتن هيدجر: الكينونة والزمان، ت: فتحي المسكيني.
[3] -في حوار مع الشاعرة إيمان مرسال في (التاون هاوس) بالقاهرة في يوليو 2015 أكدتْ أن شعر ثورات الربيع العربي لم يُكتَب بعد.
[4] -هرمس: كلاشنيكوفي الحبيب، ص 8.
[5] - Freud, Sigmund, Eine Kindheitserinnerung des Leonardo da Vinci, Kraus Reprint, Leipzig und Wien, 1910.
[6] -Fischer, Ernst, The necessity of Art, tr. Anna Bostock, Penguin Books, 1963, P. 46-47.
[7] Nietzsche, Friedrich, Also sprach Zarathustra, in: Sämtliche Werke: Kritische Studienausgabe in 15 Bänden, Deutscher Taschenbuch Verlag; De Gruyter, Band 4, S. 25.
تعليقات
إرسال تعليق