زهرة الحب
ترجمات الشاعرة نورا عثمان
أنا فضيّة ودقيقة
ليست لديّ تصورات مُسبَقَة.
كلّ ما أراه أبتلعه فورًا
تمامًا كما هو
غير مغشَّاة بالحب أو المَقْت.
لست قاسية، فقط صادقة..
عين إله صغير، بزوايا أربع.
أغلب الوقت أتأمل الجدار المقابل.
إنه زهري اللون، مع بُقَع
لقد نظرت إليه مطولاً؛
أعتقد أنّه جزءٌ من قلبي
لكنّه يتذبذب:
الوجوه والظلام يفصلان بيننا مرارًا وتكرارًا
الآن أنا بحيرة.
امرأة تنحني فوقي
تفتش ما في متناولي
عمّا هي عليه حقيقةً..
ثم تنصرف إلى هؤلاء الكَذَبة: الشموع أو القمر.
أرى ظهرها
وأعكسه بإخلاص،
تُجازيني بالدموع وانفعال الأيدي..
أنا مهمة لها؛
إنّها تذهب وتجيء
كلّ صباح وجهها هو ما يستبدل الظُلمة.
بداخلي
أغرقتْ فتاةً شابة
وبداخلي سيدةٌ عجوز
تصعد تجاهها يومًا بعد يومٍ كسمكةٍ مُروِّعة
أنا عمودية/ سيلفيا بلاث
لكن أُفَضِّل أن أكون أفقية.
لست شجرة وجذري في التربة
يتشرب المعادن والحب الأمومي؛
حتى أزهو بالأوراق كل آذار
ولا أنا جمال حوض في البستان
أجذب حصتي من الآهات المُتأثرة
ومطلية بصورة مبهرة،
بلا علمٍ أنني يتوجب عليّ قريبًا أن أفقد بتلاتي.
مقارنةً بي
الشجرة خالدة
ومنبت الزهرة ليس أطول لكن أكثر إدهاشًا،
وأريد طولَ أَجَلِ الأولى
وجسارة الأخرى.
الليلة
في ضوء النجوم متناهي الضآلة
الأشجار والأزهار ينثرون روائحهم المنعشة
أمشي بينهم،
لكن أيّهم لا يلاحظ.
أحيانًا أعتقد أنه حين أكون نائمة
أشابههم بصورة مطابقة تمامًا....
الأفكار تغيب
أكثر طبيعية بالنسبة لي، الاستلقاء؛
وقتها السماء وأنا نكون في محادثة مفتوحة
وسأكون نافعة حين أستلقي بصورة نهائية:
وقتئذٍ ربما تلمسني الأشجار لمرة
والأزهار تجد وقتًا لي
المسرحيّة/ آن سيكستون
أنا الممثل الوحيد
من الصعبِ على امرأةٍ واحدة
أن تمثّلَ مسرحيّةً كاملة.
المسرحيّة هي حياتي،
أدائي المنفرد
ركضي وراء الأيدي دون اللحاقِ بها أبدًا
الأيدي غير مرئية (هذا لأنها في الكواليس)
كل ما أفعله على المسرح هو الركض
الركض للمواكبة
لكن بلا لحاق.
فجأةً أتوقف عن الركض
(هذا يحرِّكُ الحبكةَ للأمام قليلاً)
أُعطي خطابات، المئات منها
كلّها صلوات، كلّها نجوى
أقولُ أشياءَ سخيفة مثل:
يجب على البيض ألّا يتعارك مع الحجارة،
أو احتفظ بيدك المكسورة في كُمِّ قميصك،
أو أنا أقف قائمة وظلِّي مُعوَجّ
وهكذا وهكذا
الكثير من الاستهجان، الكثير من الاستهجان
ومع ذلك أستمرُّ إلى السطورِ الأخيرة:
أن تكونَ بلا ربّ هو أن تكون كثعبان يريدُ أن يبلعَ فيلاً.
تنسدل الستائر
والجمهور يندفع إلى الخارج.
كان عرضًا سيئًا؛
هذا لأنني الممثل الوحيد،
وهناك القليل فقط مِن الناس ممّن حيواتهم
تصنعُ مسرحيّةً جيّدة..
ألا تتّفقون معي؟
أَصفَر/ آن سيكستون
حين يعيدون تشغيلَ الشمس،
سأزرع الأطفالَ تحتها،
أشعل روحي بعودِ ثقابٍ وأتركها تغني،
سآخذ والدتي وأحمّمها بالصابون،
سآخذ عظامي وأُلمِّعها،
سأكنس شَعري المبتذل بالمكنسة،
سأدفع ديونَ جيراني السيئة،
سأكتب قصيدةً اسمها 《أَصفَر》
وأنخفض بشفاهي لأشربها،
سأطعم نفسي ملاعقَ ممتلئة بالحرارة
والجميع سيكونون في منازلهم يلهون بأجنحتهم
والكوكب سيختلج بكل هذه البسمات
ولن يكون هناك سمٌّ بأيّ مكان،
لا جوائح بالسماء،
وسيكون هناك حساءٌ -صنعته الأم- للجميع،
ولن نموت أبدًا
ولا واحد منّا،
سنستمر بالحياة، ألن نفعل؟
تحذيرات لشخص خاص/ آن سيكستون
احذر السلطة
لأن انهياراتها الثلجية تستطيع دفنك
ثلج، ثلج، ثلج، يخنق جبلك
احذر الكراهية
تستطيع فتح فمها
وأنت ستلقي بنفسك
لتلتهم هي ساقك؛ جذام لحظي
احذر الأصدقاء
لأنه حين تخونهم
-وستفعل-
سيدفنون رؤوسهم في المرحاض
وسيدفقون أنفسهم بالماء بعيدًا
احذر الفكر
لأنه يعرف كثيرًا لدرجة أنه لا يعرف شيئًا
ويتركك مُعَلّقًا رأسًا على عقب
متلفِّظًا بالمعرفة وقلبك يسقط من فمك
احذر الألعاب،
دور الممثل،
الخطاب المُعَدّ، المعلوم، المفترض
لأنها ستكشف أمرك
وستقف كولد صغير عارٍ
تتبول في مهادك
احذر الحب
-إلا إذا كان حقيقيًّا وكلّ جزء منك يقول "نعم"
حتى أصابع قدميك-
سيغلِّفك كمومياء،
وصرختك لن تُسمع
وأيًّا من ركضك لن يتوقف
الحب؟
سواء كان رجلاً
سواء كانت امرأة
لا بد أن يكون موجةً تريد الانسياب عليها،
منح جسدك لها،
منح ضحكتك لها،
منح -حين يجرفك الرمل ذو الحصى-
دموعك إلى اليابسة
أن تحب آخر هو شيء كالتضرع
لا يُخطط له
فقط تسقط بين ذراعيه
لأن يقينك يُلغي ريبتك
أيها الشخص الخاص،
لو أنني أنت لن أبالي بتحذيرات مني،
مصنوعة إلى حدٍ ما من كلماتك
وإلى حدٍ ما من كلماتي.
تَضافُر!
لا أصدق كلمةً مما قلت
إلا قليل،
إلا تفكيري فيك كشجرةٍ يافعة
بأوراقٍ مُلصَقة
وعلمي أنك ستضرب بجذورك
واخضرارك الحقيقي سيأتي
تخلَّ.
تخلَّ.
آه أيها الشخص الخاص
الأوراق الخضراء المحتملة
آلة الطباعة هذه تحبك في طريقك إليهم
لكنها تريد أن تكسر الكؤوس الكريستالية احتفالاً،
لأجلك،
حين يُزال الغلاف الخارجي الداكن
وتترعرع طافيًا بالقرب
كإنتفاخٍ طارئ
رامبِلستيلسكين/ جعيدان*/ آن سكستون
بداخلِ الكثيرين منّا
رجلٌ عجوزٌ ضئيل
ليس أضخمَ جسدًا من طفلٍ في الثانيةِ مِن عمرِه،
هذا الذي قد تسميهِ سلخةَ لحم
ومع ذلك هذا الرجلُ الضئيل، عجوزٌ وممسوخُ الشكل
رأسُهُ لا بأسَ بها
لكن بقيةَ جسدِهِ منكمشة..
إنّهُ بُعبُع اليأس
مُنتِنٌ ومتعفِّنٌ بالكامل
يتحدثُ بضعفٍ كسماعةِ أذن
بصوتٍ إنسانيٍّ لا جنسَ لهُ:
"أنا قزمُك الخاص،
أنا العدوُّ داخلك،
أنا سيِّدُ أحلامِك.
لا، لست قانونَ عقلِك: جَدَّك المُسمّى "الحذر"
أنا قانونُ أعضائك: أشقائك في السوداوية والاندفاع...
أترى؟!
يدُكَ ترتعش
ليس فَالِجًا ولا هو تأثير الخمر
إنّه نظيرُكَ الشبحيُّ
يحاولُ الخروج؛
احترس...احترس"
مرةً كان هناك طحّان
-لهُ ابنةٌ بهيجة المنظر كحبّةِ العنب-
أخبرَ الملكَ أن باستطاعتها أن تُحيلَ القشَّ إلى ذهب..
استدعى الملكُ الفتاة
وأودعها غرفةً ممتلئةً بالقشّ
وأمرها أن تُحيلهُ إلى ذهب
وإلا ماتتْ كالمجرمين..
حبّة العنبِ البهيّة التي ليس هنالك مَن يقطفها
مكتنزة، وشهيّة، وملساء
المسكينة، ستموت ولن ترى "بروكلين*" أبدًا!
انتحبتْ،
بالطبعِ بدموعٍ زمرّديّةٍ هائلة..
انفتحَ الباب وأطلَّ برأسِهِ قزمٌ
كان قبيحًا كثؤلول*
"أيها الصغير، ما أنت؟!" صرختْ
بصوتِهِ الضعيفِ اللاجنسيِّ أجاب:
"أنا قزم،
عرضوني في شارعِ "بوند*"
وليس ثمّة مِن طفلٍ -أبدًا- سيدعونني بابا.
ليس لديّ حياة خاصة
إذا كنت في قُمقمي
فالمدينة بأكملها تعرف هذا بحلول وقت الفطور!
وليس ثمّة طفلٌ -أبدًا- سيدعونني بابا.
طولي ثمانية عشر إنشًا
لستُ أضخمَ مِن طائرِ الحَجَلَةِ الصغير،
أنا عينُكِ الشريرة
وليس ثمّة طفلٌ -أبدًا- سيدعونني بابا"
"توقف عن حماقات "بابا" هذه" صرختْ
"هل مِن المحتمل أن تُحيلَ القشَّ إلى ذهب؟"
"نعم، بالطبع" أجاب
"باستطاعتي فعل هذا"
أحالَ القشَّ إلى ذهب،
ومنحتهُ قلادتَها كمكافأةٍ صغيرة.
حين رأى الملكُ ما فعلتهُ
وضعها في حجرةٍ أكبر من القشّ،
وهدّدها بالموتِ ثانيةً.
بكتْ ثانيةً
وأتى القزمُ ثانيةً
وأحالَ القشَّ إلى ذهبٍ ثانيةً
ومنحتهُ خاتمَها كمكافأةٍ صغيرة.
وضعها الملكُ في حجرةٍ أكبر بكثير
لكن هذه المرة وعدَ بزواجِه منها إن نجحت
مجددًا بكت
ومجددًا أتى القزم
لكنّها لم تعد تملك شيئًا لتمنحَهُ إياه
ودونَ مكافأةٍ لن يُحيلَ القزمُ شيئًا
كان يستروِحُ شيئًا أكبر
كان كلبًا صيادًا!
"امنحيني ولدَكِ البِكرَ وسأفعل"
فكرتْ "هراء، ياله مِن رجلٍ ضئيلٍ سخيف"
ووافقت
وهنا أدّى الخدعةَ
وأحالَ القشَّ إلى ذهب.
تزوّجها الملك
وفي خلالِ عامٍ
وُلِدَ ابنهما،
طفلاً ككلِّ الأطفالِ حديثي الولادة،
قبيحًا كنباتِ الخرشوف
ولكنّ الملكة تراهُ جميلاً كاللؤلؤة
أرضعتهُ رضاعتَها الخرقاء، الحنونة، المرتجفة، السريّة
والدافئة.
بعدها ظهرَ القزمُ ليحصدَ مكافأتَهُ..
"بالفعل، لقد أصبحتُ بابا!"
صرخَ الرجلُ الضئيل..
عرضتْ عليه المملكةَ بأكملِها
لكنّه لم يرغب إلا بهذا:
بشيءٍ حيٍّ يدعوهُ خاصتهُ؛
وكونهُ فانٍ؛ مَن يستطيع أن يلومه؟!
الملكة بكتْ دلوين مِن ماءِ البحر
كانت لحوحةً ومتشبثةً كصاحبةِ عقيدة
والقزمُ أخذتهُ الشفقة؛
قال:
"سأُمهِلُكِ ثلاثةَ أيامٍ لتخمّني اسمي
وإن لم تستطيعي
سأتحصَّلُ على ولدِك"
الملكة أرسلت الرُّسل في أنحاء الأرض
ليستكشفوا أكثر الأسماء غرابة..
حين أتى في اليومِ التالي
سألتْ: ميلكوير؟
بالثِزار؟
لكن في كلِّ مرةٍ أجابها القزم:
"لا، لا، هذا ليس اسمي"
في اليومِ التالي سألتْ:
إسبيندِلشانكِس؟
إسبيدَرليجز؟
لكن ما زالَ الجوابُ "لا"
في اليومِ الثالثِ
عادَ الرسولُ بقصةٍ غريبة
قالَ لها:
"حين استدرتُ حول زوايةِ الغابة
حيث يقولُ الثعلبُ للأرنبِ البريّ "ليلة سعيدة"
رأيتُ بيتًا صغيرًا
ونارًا موقدةً أمامه،
وحول هذه النار كان هناك رجلاً ضئيلاً سخيفًا
يحجِلُ على قدمٍ واحدةٍ ويغنّي:
"اليوم أخبِزُ
وغدًا أُخَمِّرُ مشروبَ البيرة
فغدًا ولدُ الملكةِ الوحيد سيكونُ لي؛
ليس حتّى المُوَّكل بالإحصاءِ يعرفُ أن
"رامبِلستيلسكين" هو اسمي..."
الملكةُ ابتهجتْ؛
بحوزتِها الاسم
صارتْ أنفاسُها خفيفةً كالفقاعات
حين عادَ القزم
قالت بصوتٍ جهوريّ:
"هل اسمُكَ يصدفُ أن يكون "رامبِلستيلسكين"؟"
صرخَ:
"الشيطانُ أخبركِ بهذا"
دقَّ بقدمِهِ اليُمنى الأرضَ
وغطسَ داخلَ جسدِه حتّى خصره
ثمَّ مزَّقَ نفسَهُ لاثنين..
بطريقةٍ ما كدجاجةٍ مقسمومة:
سجَّى قسميهِ على الأرض:
شقًّا ناعمًا كامرأة
وشقًّا كالخُطَّافِ الشائك،
شِقًّا هو "بابا"
وشِقًّا هو "نظيرُهُ الشبحيّ".
*رامبِلستيلسكين: رامبِل,ستيل,سكين
أو جعيدان، هو شخصية القزم الخيالية التي ظهرت في قصة -في كتاب للأطفال- للأخوين "جريم" والتي وظّفتها سكستون في قصيدتها.
*بروكلين: بلدة تابعة لولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية
*ثؤلول: بثرة صلبة على الجلد
*شارع بوند: شارع من شوارع لندن
العازف البارع*/ آن سيكستون
أخواتي،
هل تذكرنَ عازفي الكمانِ في شبابِكنّ؟
الرقصات التي تشبهُ السّكارى
وتشعلُ نارًا في البطن؟
هذا الخِطاب الثاقب المجنون
الذي يثيرُ حماسة سائقي الأجرة
ورؤساء البلدية؟
أحيانًا
بأُذُنٍ إلى الراديو المجاور،
متجمدةً في مهدِكِ
كدبوسِ شعرٍ محدودب..
أو ترتجِّين لأعلى في الهواء
على تيارٍ متغيّر
كسمكةٍ في الصنارة
ترقص رقصة الموت،
أتَذكُرنَ
اهتزازات الصوت كزنبورٍ في الأذن؟
أتَذكُرنَ الرقصَ في هذه الأحذية المُكَهربة؟
أتَذكُرن؟
تَذَكَّرنَ الموسيقى
واحترسنَ..
تأملنَ العازف البارع
الذي يمشي وحيدًا تمامًا
خلال الغابة
ويعزف كمانه "تا- را"
ليجذب رفقةً تصاحبه.
الثعلب
كان متأنثًا بعض الشيء؛
لسانه يلعق مرآة.
لكنّهُ حين سمع الموسيقى
أتى راقصًا في هذه الأحذية المُكَهربة
ونذر حياته
إذا صار بإمكانه -أيضًا- أن يتعلم العزف..
العازفُ ازدرى الثعلب
لكنّه على الرغمِ مِن ذلك قال:
"عليك أن تفعل ما آمر بهِ فقط"
أجابَ الثعلبُ:
"سأطيعكَ كما يطيعُ طالبٌ أستاذَه"
وعليه، اصطحبه العازف إلى شجرةِ بلّوط
وودعهُ بأن وضع مخلبه الأيسر في صدعِها الخشبي،
ثم ثبَّتهُ بوتد إلى أن عَلِقَ تمامًا.
الثعلب تُركِ هناك راكعًا مثل روميو!
العازف واصلَ سيرَهُ عازفًا كمانَهُ "تا-را"
ليجذبَ رفقةً تصاحبه.
الذئب
كائنٌ جشع
عينُهُ على قِدرِ الحساء.
سمع الموسيقى
وأتى راقصًا في هذه الأحذية المُكهربة
أتى وتمّ خداعُهُ بذات الترتيب
العازف ربطَ مخلبيهِ إلى شجيرةِ بندق
وعلَّقَهُ كطَنّانٍ
على الصليب المصغّر..
العازف واصلَ سيرَهُ عازفًا كمانَهُ "تا-را"
ليجذبَ رفقةً تصاحبه.
الأرنب البريّ
صديقُ العتمة
ذيلُهُ يختلجُ أمام فتحةِ السرداب.
أتى وتمَّ الإيقاعُ بهِ،
بحبلٍ حول عنقِه
ركض عشرين مرةً حول السارية
حتّى أرغى فمُه كالكلبِ المُسرِع.
الثعلب
بذكاء المُستَميت حرّرَ نفسه
وبمصادفتهِ للصليبِ وللكلبِ المُسرِع
حرّرهما
واجتاح ثلاثتهما الغابة
ليقتلعوا أصابعَ العازفِ العشر البارعة.
العازف كان قد واصلَ سيرَهَ عازفًا كمانه "تا-را"
الطائر العجوز رأي الإجحاف
ولبث راقدًا كورقةٍ مالية.
الثعبان لم يتقدّم
ولبث راقدًا كالمسطرة.
ولكنّ حطّابًا فقيرًا
أتى مع فأسِهِ
ونَذَرَ حياتَهُ لهذه الموسيقى.
الثعلب، الذئب، الأرنب البريّ
أتوا للثأر
الحطّاب رفع فأسه لامعًا كسكين لحم
وأنبأهم بموتهم..
فزعوا عائدينَ إلى الغابة
والعازف واصل عزفَ كمانِه "تا-را" مرةً أخرى.
أنقذتْهُ موهبتُهُ،
مثل كثيرٍ منّا، أعني
نحن الايخمانات*
الأمهات الصغيرات.
*العازف البارع: قصة -في كتاب للأطفال- للأخوان غريم
*ايخمان: أدولف ايخمان زعيم نازي
البال والقلب/ تشارلز بوكوفسكي
بصورةٍ غيرِ مدبَّرة، نحن وحيدون
وحيدون للأبد
وكان مُقدَّرًا أن يكونَ الأمر كذلك،
لم يكن مُقدَّرًا أن يكونَ بأيِّ صورةٍ أخرى
وحين يَشرَع صراعي مع الموت،
آخر ما أتمنى رؤيته
هو حلقةٌ من وجوهٍ آدميةٍ
مُحوِّمةٍ فوقي...
يَحسُن أن يكونوا أصدقائي القُدامى فقط،
جدرانَ نفسي،
وحدهم فقط لهم أن يكونوا هناك.
كنتُ وحدي
لكن قَلّما كنتُ وحيدًا،
رويتُ عطشي من بئرِ نفسي
وهذا النبيذ كانَ جيدًا
الأفضل على الإطلاق...
والليلة
جالسًا
أحدِّقُ في الظلام
فهمتُ الآن، وأخيرًا:
الظلام والضوء وكلَّ ما هو بينهما.
راحة البال والقلب تتأتّى
حين نقبل بأنّه:
لكوننا وُلِدنا في هذه الحياة الغريبة
علينا أن نقبلَ رهاناتِ أيامنا الخاسرة،
ونجد بعضَ الرضى
في متعةِ
تركِ الأمورِ برُمَّتِها وراءنا.
لا تبكِ لأجلي.
لا تأسَ لأجلي.
اقرأْ ما كتبتُه وانسَهُ كاملاً.
اشربْ من بئرِ نفسك وابدأْ مجددًا
لا تذهبي بعيدًا/ بابلو نيرودا
لا تذهبي بعيدًا
ولو ليوم
لأنه...
لأنه...
لا أعرف كيف أقولها:
اليوم طويل
وأنا سأنتظرك
-كما في محطة فارغة
والقطارات متوقفة في مكان آخر-
نائمًا.
لا تتركيني
ولو لساعة
لأن قطرات الأسى الصغيرة
ستسيل معًا،
الدخان الذي يهيم باحثًا عن مأوى
سينساق داخلي
خانقًا قلبي التائه.
آه،
عسى خيالك لا يذوب أبدًا على الشاطئ
عسي أجفانك لا ترفّ أبدًا على مدًى فارغ
لا تتركيني لثانية غاليتي؛
لأنه في اللحظة التي تذهبين فيها بعيدًا
سأتيه محتارًا على وجه الأرض
أتساءل
هل ستعودين؟
هل ستتركينني هنا، أحتضر؟
الليلة أستطيع أن أكتب أكثر السطور حزنًا/ بابلو نيرودا
الليلة أستطيع أن أكتب أكثر السطور حزنًا
أكتب، على سبيل المثال
"الليل تحطّم والنجوم الزرقاء تتشظّى على بعد"
رياح الليل تدور في السماء وتغني
الليلة أستطيع أن أكتب أكثر السطور حزنًا:
أحببتها، وأحيانًا هي أيضًا أحبتني.
خلال ليالٍ كهذه
احتضنتها بين ذراعيّ
قَبَّلتُها مرةً تلو مرة تحت السماء اللانهائية
أحبتني أحيانًا، وأنا أيضًا أحببتها
كيف بإمكان أحدهم ألّا يحب عيونها الساكنة الرائعة
الليلة أستطيع أن أكتب أكثر السطور حزنًا
أن أفكر أنني لا أملكها
أن أفكر أنني أضعتها!
أن أسمع الليل الجسيم، ما زال أكثر جسامةً بدونها
والشِعر يقع على الرُّوح
كالندى على المَرعَى
ما الذي يعنيه أن حبي لم يستطع ابقاءها
الليل تحطّم وهي ليست معي!
هذا كلُّ شيء.
في البعيد أحدهم يغني، في البعيد..
روحي ليست راضية عن فقدانها
بصري يبحث عنها كأنما سيذهب إليها
قلبي يبحث عنها وهي ليست معي.
الليلة ذاتها تطلي الأشجار ذاتها
نحن، تزامنًا، لم نعد ذواتنا
لم أعد أحبها، هذا أكيد
لكن كم كنت أحبها!
صوتي حاول أن يجد الريح ليلمس سمعها.
لآخر، هي ستكون لآخر
-كما كانت قبل قبلاتي-
صوتها، جسدها اللامع، عيونها اللامتناهية
لم أعد أحبها، هذا أكيد
لكن ربما أحبها
الحب قصير جدًا، النسيان طويل جدًا
لأنه خلال ليالٍ كهذه
احتضنتها بين ذراعيّ؛
روحي ليست راضية أن أضعتها
ولو أنه هذا آخر ألمٍ تجعلني أعانيه
وهذه آخر أشعار أكتبها لأجلها.
من أنا؟!/ كارل ساندبيرج
رأسي تصطدم بالنجوم.
أقدامي على قمم التلال
أطراف أصابعي في وديان وشطآن الحياة الجامعة.
عميقًا في الزبد المسبور للأشياء البدائية
أمدُّ يديَّ وألهو بحصيّ المصير.
ذهبتُ إلى الجحيم وعدتُ عدّةَ مرات.
أعرف جلَّ ما عن الجنَّة؛
لأنني تحدثتُ مع الله.
أتندَّى بدماء وأحشاء المريع.
أعرفُ شغفَ حيازةِ الجمال
وتمرّد الإنسان الهائل على كلّ لافتة تُقرأ "تفادَ"
اسمي الحقيقة
وأنا أكثر سجناء العالم مُراوَغة
نرتدي القناع / باول لورانس دانبار
نرتدي القناعَ الذي يبتسمُ ابتسامةً واسعةً ويكذب،
يُخفي خدودَنا ويظلِّلُ على عيونِنا.
الدَّيْنُ الذي ندفعُهُ؛ لدهائنا البشري:
بقلوبٍ ممزّقةٍ ودامية
وبفمٍ ذي كياسةٍ لا حدَ لها نبتسم.
لماذا على العالمِ أن يكونَ مُفرِطًا في العنايةِ
بإحصاءِ كلّ دموعِنا وتأوهاتِنا؟!
كلا، ليبصروننا فقط حين نرتدي القناع
نبتسمُ، لكنْ - أيّها المسيح العظيم-
دمعاتُنا من أرواحِنا المُعذَّبة تصعدُ إليك،
نغنّي، لكنْ الطينُ الكريه تحت أقدامِنا
وعلى طولِ الدرب.
لكن، دعْ العالمَ يحلمُ بخلافِ هذا؛
نحن نرتدي القناع!
مشاطرةٌ وجدانيّة/ باول لورانس دانبار
أعرفُ ما يحسُّ بهِ الطائرُ الحبيس، ياللحسرة!
حين تسطعُ الشمسُ على سفوحِ الهضاب
حين تتحرّكُ الرياحُ بلطفٍ بين العشبِ الربيعيِّ النامي،
والنهرُ يجري كتيارٍ من الزجاج
حين يغني أولُ طائرٍ
ويتفتّحُ أولُ برعمٍ
والعطرُ الهادئُ من كأسِهِ الزهريَّةِ يتسلّل...
أعرفُ ما يحسُّ بهِ الطائرُ الحبيس!
أعرفُ لماذا يضربُ الطائرُ الحبيس جناحَهُ
إلى أن يصيرَ دمُهُ الأحمرُ على القضبانِ القاسية؛
لأنّه لابدّ أن يعودَ إلى عشِّهِ ويتشبثَ بهِ،
وقتما يتمنى، يكونُ على غصنٍ يتأرجح...
وبينما ما زال ألمٌ يخفقُ في الندوبِ القديمةِ الغائرة
وتخفقُ مجددًا بوخزةٍ مُتلهِّفة؛
أعرفُ لماذا يضربُ جناحَه!
أعرفُ لماذا يغنّي الطائرُ الحبيس، أوّاه!
حين يتغطّى جناحُهُ بالكدمات ويتوجّعُ قلبُهُ
حين يضربُ القضبانَ التي تحبسُهُ ليتحرّرَ،
ليستْ أغنيةَ ابتهاجٍ ومرح
بل صلاةً يرسلُها مِن أعماقِ قلبِهِ،
بل استرحامًا ليندفعَ عاليًا في السماء...
أعرفُ لماذا يغنّي الطائرُ الحبيس!
فنٌّ واحد / اليزابيث بيشوب
فنُّ الخسارةِ ليس صعبًا إتقانه؛
الكثير من الأشياء تبدو مملؤةً بنيَّةِ الفقد
لدرجةِ أن خسارتَها ليستْ كارثة
افقدْ شيئًا كل يوم.
تَقَبَّلْ اضطرابَ ضياعِ مفاتيحِ الأبواب
الساعةِ التي لم تحسنْ قضاءها.
فنُّ الخسارةِ ليس صعبًا إتقانه.
ثُمَّ مارسْ الفقدَ بصورةٍ أعلى، بصورةٍ أسرع:
أماكن، وأسماء، ومواضع نويتَ السفرَ إليها
أيًا مِن هذا لن يكونَ كارثة.
فقدتُ ساعةَ والدتي
وانظرْ!
بيتي الأخير أو ما قبل الأخير
من بين بيوتي الثلاثةِ الحبيبة فقدتُه
فنُّ الخسارةِ ليس صعبًا إتقانه.
فقدتُ مدينتين، رائعتين.
أوسع مِن هذا
فقدتُ عوالمَ حُزتُها، نهرين، قارة.
أفتقدهم، ولكنّها لم تكن كارثة
حتى خسارتك:
الصوتُ المَرِح، الإيماءةُ المحببّة.
لم يكن عليّ أن أكذب؛
من المؤكد
أن فنَّ الخسارةِ ليس من الصعبِ جدًا إتقانه
رغم أنّهُ يبدو مثلَ -دَوِّنْها- مثلَ كارثة
فلسفة الحب/ بيرسي شيلي
الينابيعُ تمتزجُ بالنهر
والأنهارُ بالمحيط،
رياحُ السماءِ تتخالطُ -بعاطفةٍ حلوةٍ- إلى الأبد
لا شيءَ في العالمِ مفرد
كلُّ الأشياء بقانونٍ ربانيّ
تلتقي وتتمازجُ في رُوحٍ واحدة..
فلماذا لا أتمازج معكِ؟
انظري: الجبالُ تُقَبِّلُ السماءَ العالية
والأمواجُ يتشبّثنَ الواحدة بالأخرى،
-ما مِن زهرةٍ شقيقة ستتمُّ مسامحتها
إذا نبذتْ شقيقَها-
وضوءُ الشمسِ يلفُّ الأرضَ
وأنوارُ القمرِ تُقَبِّلُ البحرَ..
ما قيمةُ كلِّ هذه الصنائع الرائعة
إذا أنتِ لم تُقَبِّليني؟!
وحيدًا/ مايا أنجلو
راقدةً، أفكر، بالأمس
كيف أجد مَسكنًا لروحي
حيث الماء ليس ظمآن
ورغيف الخبز ليس حجارة.*
وصلتُ إلى شيءٍ واحد
-ولا أظنني مخطئة-
أنه لا أحد
إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
وحيدًا، وحيدًا تمامًا
لا أحد إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
هناك بعض المليونيرات
بأموال لا يستطيعون استخدامها
زوجاتهم يتراكضن كجنيات البانشي*
أطفالهم يغنون البلوز*
لديهم أطباء يتقاضون المبالغ الباهظة
ليعالجوا قلوبهم الحجرية
لكن
لا أحد
إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
وحيدًا، وحيدًا تمامًا
لا أحد إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
الآن
إذا استمعت جيدًا
سأخبرك بما أعرف
سُحُبُ العاصفة تتجمع؛
الرياح ستعصف
الجنس البشري يعاني
وأنا أستطيع أن أسمع التأوه
لأنه
لا أحد
إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
وحيدًا، وحيدًا تمامًا
لا أحد إلا لا أحد
يستطيع أن ينجو هنا وحيدًا
*حيث الماء ليس ظمآن ورغيف الخبز ليس حجارة:
تلميح ضمني لما ورد في الانجيل في العهد الجديد،
حين قابل السيد المسيح سيدةً عند البئر فقال لها مَن يشرب مِن هذا الماء يعطش مجددًا، لكن من يشرب من الماء الذي أناوله له لا يعطش أبدًا، والأخرى حين قال له أحدهم إذا كنت حقًا ابنًا للإله مُرْ هذه الحجارة أن تصير أرغفةً من الخبز.
*البانشي: أرواح مؤنثة هي نذير شؤم في الأساطير الأيرلندية حيث نواحها نذير موت حادث أو سيحدث عاجلاً
*البلوز: موسيقى تعود للأفارقة الأمريكان نشأت في جنوب الولايات حوالي عام 1870
رفض/ مايا أنجلو
محبوبي،
في أيِّ حيواتٍ أخرى أو بلاد
عرفتُ شفتيك،
يديك،
ضحكتَك المُتجرِّئة المنفلتة،
وهذه الأعذار الحلوة التي أهيم بها؟
أيُّ ضمانةٍ هناك
أنّنا سنلتقي مجددًا
في عوالمَ أخرى
في وقتٍ مستقبليّ غير محدد؟!
أنا أعصي عُجَالَةَ جسدي؛
ودون وعدٍ بلقاءٍ لطيفٍ آخر
لن أخضع للموت.
لا تقفي على قبري وتنوحي/ ماري اليزابيث فراي
لستُ هناك
لستُ نائمة
أنا آلاف الرياح التي تهب
أنا الوميض الماسيّ على الثلج
أنا ضوء الشمس على القمح الناضج
أنا مطر الخريف الناعم.
حين تستيقظين في سكون الصباح
أنا النهوض المتدفق الرشيق
للطيور الهادئة في تحليقها الدائري
أنا النجوم الناعمة التي تتوهج في الليل
لا تقفي على قبري وتبكي؛
لستُ هناك
لم أمت
القصيدة الوحيدة لـ (Mary Elizabeth Frye)
الحاجز/ كلود مكاي
يجب علىَّ ألّا أحدِّق فيهما
رغم أن عينيكِ هما اليوم البازغ فجره،
يجب علىَّ ألّا أراقبكِ وأنتِ تمشين
طريقكِ المُضاء بالشمس؛
أسمعُكِ
لكن علىَّ ألّا أبالي أبدًا
بالنوتةِ الآسرة لصوتكِ،
التي -صادحةً كمزمارٍ من قصبِ النهر-
تخرج من حنجرتكِ المرتعشة؛
يجب علىَّ ألّا أرى بوجهكِ
شرارةَ الحبِ المتوهجة بنعومة؛
لأن هناك حاجزَ العِرْق،
أنتِ شقراء
وأنا أسمر.
زهرة الحب/ كلود مكاي
عطرُ جسدِكِ يخدِّرُ حواسي
أريد لا الخمر ولا الحشيش؛
فقط أنفاسكِ وحدها تكفي.
في هذه اللحظةِ النادرة والموتِّرة
أتعبَّدُ عند نهديك؛
الزهرةُ في أوجِ تفتُّحِها،
بتلاتُ الزعفران تُغوي فمي العاشق.
القلبُ الأصفرُ متلألئٌ الآنَ بالنَّدى،
لطيفَ الرائحة، يعبقُ برائحةِ الجنوبِ الحبيب
آهِ يا زهرةَ الحب.. أمنحُ نفسي لكِ
عاريانِ على أريكتكِ الخضراءِ المُشجَّرة،
هنا، دعينا نظلُّ متلاحِمَين.
بواباتُ حَرَمِكِ غير المرئية
تتقبّلُ عطاياي، تلينُ لي
آهٍ.. بحبِّنا، الليلةُ دافئةٌ وعميقة!
الهواءُ لطيفٌ يا زهرتي،
ولطيفٌ هو الناي الذي تهدهدُ موسيقاه
دماغَنا المشتعلَ إلى النوم
بينما نرقدُ متحابين، شغوفين، وصامتين
أعرف رُوحي/ كلود مكاي
نزعتُ رُوحي من موضعِها السريّ
وأمسكتُها مُواجِهةً لمرآةِ عيني
لأراها مثلما أرى نجمةً قُبالة السماء:
جسدًا وامضًا يرجفُ في الفضاء،
ومضةَ اشتعالٍ تتلألأُ على وجهي.
وتفحصتها لأحدّد
لماذا هذا المفتاح الهائل لعالم الأبدية
يتآمر لسلبي فرحي ونعمائي؟!
وإذا كانت الدلائلُ لا تُقرأُ بالكامل
إذا كان باستطاعتي الفهمُ فقط وليس التحكم،
فليس ثمةَ داعٍ لإتعاسِ أيامي بالقلقِ الخائب؛
لأنني أرى جزءًا وليس الكلّ.
مُتأملًا غرابتها،
تعزيني هذه الفكرةُ المُخدِّرة: أنا أعرفُ روحي!
جنيّة الثلج/ كلود مكاي
(١)
طوال الظهيرة شاهدتهنَ هناك
جنيّات الثلج يتساقطن، يتساقطنَ من السماء
يَدُرنَ بصورةٍ رائعةٍ في الهواءِ الضبابيّ.
يُقاتلنَ بشراسة لأجلِ سيادتهنَ في الفضاء
ويهطلنَ في الليلِ بقوةٍ أعتى
كما لو أن في العُلَى حدثتْ ثورةٌ وتظاهرات
وهنَّ، المخلوقات الهشّة، حلّقنَ من الفزع
نزولاً إلى الأرض الهادئة بحثًا عن السكينة والهدوء..
نمتُ واستيقظتُ مع مَطلَعِ الفجر
لأراهنَ متكومات معًا في تلّةٍ
كلّ واحدةِ منهنَ ملتحمةٌ بالأخرى فوق المرجِ
منهكاتٍ مِن العناءِ الشديد، غارقاتٍ في النوم.
الشمسُ سطعتْ -لامعةً- عليهن لنصفِ يوم
بحلول الليل -في خفيةٍ- اختفين.
(٢)
وفجأةً، أفكاري تحولتْ إليكِ:
مَن جئتِ إلىّ في ليلةٍ شتائيّة
حينما حلقتْ أرواحُ الثلجِ حول نافذةِ علّيّتي
بشعركِ المتناثر وعينيكِ المتوهجتين بالضوء.
قلبي كان كالطقسِ حين أتيتِ
الرياحُ الوحشيّة كانت تعصفُ مطولاً وبعنف
لكن أنتِ، متوهجةً -بالكلّية- بالبهجةِ والعاطفة،
رقصتِ وغنّيتِ أغنيةً صيفيّةً جزلة.
أفسحتُ لكِ مكانًا في سريري الصغير،
أحضرتُ أغطيةً من الخزانة، جديدةً ودافئة،
وسادةً مريحة لرأسكِ العَطِر
واستلقيتُ معكِ نائمةً في أحضاني..
ذهبتِ مع الفجر
رحلتِ عنّي قبل أن يبدأَ النهار
مُمثِّلاً وحيدًا في مسرحيةٍ حالمة.
شعر/ كلود مكاي
أحيانًا أرتعشُ كزهرةٍ تكتسحُها العاصفة،
وأسعى إلى أن أُخفي رُوحي المُعذَّبةَ منكَ
أُخفِضُ رأسي في تواضعٍ شاملٍ
إزاءَ الرعدِ الصامتِ لقدرتِكَ.
أحيانًا أهربُ مِن ضوئكَ الوهَّاجِ
كما أهربُ مِن بعبعِ الموتِ المُطَارِدِ لي
مُرَوَّعًا أحاذرُ نفحتَكَ القاهرة؛
ثقوبُ الهواءِ، كما في الأُرغُنِ، ستسحبني
إلى ليلٍ مُطبِقٍ.
وياللحسرة،
أخافُ أنَّهم سيُبتلَعونَ أيضًا
-أحبائي، ذوو القيمةِ الجوهريّةِ عندي،
شغفي ومتعتي في الأرضِ-
ويُفقَدونَ للأبدِ في كأسِكَ السحريّة!
أخشى....
أخشى أنّ قلبي الإنسانيَّ بحقّ
سيهلكُ على المَذبَحِ الحجريِّ للفنّ.
ديسمبر، ١٩١٩/ كلود مكاي
الليلةُ الفائتةُ سمعتُ صوتَكِ، أمي،
الكلماتِ اللواتي غنّيتِها لي
حين كنتُ طفلاً صغيرًا حافيَ الأقدام
راكعًا قبالةَ ركبتِك
والدموعُ اندفعتْ مِن قلبي، أمي
وعبرتْ خارجَ جدارِهِ
ورغم أنّ النافورةَ بلغتْ حلقي
القطرات رفضت النزول
إنَّها عشرُ سنواتٍ منذ وفاتكِ، أمي
عشرُ سنواتٍ قاتمةٍ مِن الألم
وآه، أتمنى لو أنّني أستطيع أن أنتحبَ مرّةً ثانيةً فقط.
القلب المشتعل/ كلود مكاي
نسيتُ الكثيرَ في عشرِ سنوات
الكثير في عشرِ سنواتٍ قصيرة،
نسيتُ بأيّ وقتٍ يحينُ موعدُ عَصرِ التفاحِ الأرجواني
وأيّ شهرٍ يُذكِّرُ ب "لا تنسَني" الخجولة
منسيٌّ هو الموسمُ الخاصُ والمباغتُ
لإزهارِ وإثمارِ بعض الأشجار الحبيبة،
بأيّ وقتٍ مِن العام
تصبغُ حمائمُ الأرضِ الحقولَ بلونهنّ البندقيّ
ويملأنَ الظهيرةَ بهديلهنّ الفضوليّ..
نسيتُ الكثيرَ بالفعل، لكن ما زلتُ أتذكَّرُ
زهرةَ البونسيتيا الحمراءَ احمرارَ الدمِ في ديسمبر الدافئ
ما زلتُ أستدعي ذكرى العشبِ العسليّ الداكنِ
لكنّني لا أستطيعُ أن أعيدَ لذهني: متى تحديدًا كنّا نقتلعهُ
من طريقِ نباتاتِ زنبقِ النهار
لنوقِفَ النحلَ المجنونَ في حظيرةِ الأرانب.
كثيرًا أحاولُ أن أفكّرَ:
في أيِّ شهرٍ لطيفٍ
اعتادتْ السيداتُ الواهنات أن يُرَقِّشنَ
الطريقَ المتفرعَ من الرئيسيّ
بالسلالِ الذهبيّةِ الحلوة مِن التفاحِ المتورِّد
لقد نسيت، أمرٌ غريب،
لكنّني بصورةٍ ما أتذكَّرُ
زهرةَ البونسيتيا الحمراءَ احمرارَ الدمِ في ديسمبر الدافئ
أيّ أسابيع، أيّ شهور، أيّ وقتٍ من العامِ المريح
تهرّبنا مِن المدرسة لنندفعَ في مغامراتِنا لأقصاها؟
أيّ أيامٍ كانتْ أجسادُنا المنتعشةُ بالنبيذ تخفقُ بالبهجةِ
بينما نلتهمُ التوتَ الأسودَ مِن خمائله؟
آه، البعض أتذكَّرُهُ!
لقد حنَّطتُ الأيامَ
حتى اللحظاتِ المقدّسة، حين كنّا نلهو
ببراءةٍ وعاطفةٍ لم تَفسَدْ.
في الظهيرةِ والمساء
في ظُلّةِ القلبِ المشتعل:
كنّا سعداءَ جدًا، سعداءَ تحت حُمرةِ البونسيتيا
في ديسمبر الدافئ
تعليقات
إرسال تعليق