اسمُها في الغيب زُلَيْخَا (1)
(كأنما البحر وراءها)
عبد الوهاب الشيخ
(1)
ذاتَ عِشْق ..
غيرُكَ سيَرَاها ليسَتْ بالجميلة ولا بالقبيحَة ، أنتَ أيضًا سترَاها كذلك ! بَيْدَ أن روحَها، روحَ العاشقة المَجْبولة من خَمْرٍ وجمر ، ستظلُّ خفيَّةً إلا عليك وعلى سواك من عشَّاقِها ، أولئك المَسْكونين بآهةٍ حَرَّى انطلقَتْ من حَلْقِها ذاتَ عشق وجرَحَتْهم أقمارُها ..
(2) ربيعُ القُرَى
خفيفةٌ كنَسْمة ، لا ترَى من الطريق سوى البدايات ، ولا تعرفُ من العِشْق غيرَ شَهقةٍ كامنة . خَطْوُها رقيق ، قدَمُها كجَناح فراشة ، وتنُّورتُها المُزَركشة في ربيعِ القُرَى الغافل رايةٌ للغرام ..
(3)
كلُّ ما يخُصُّك دائر
أيَّتها النسمةُ العابرةُ فوق ظلِّ ظلِّي ! أيَّتها اليمامةُ العاشقة ! كلُّ قلبٍ هو غصنٌ تُقِيمين عليه عُشَّك ، وكلُّ روحٍ مُسْتَودَعٌ لأسرارِ فتنتِك . تَعْبُرين من ظلٍّ لظلّ ومن نورٍ لنور باسمةً منادمَة وقد أَسْكرَكِ شَجْوك ؛ فرُحْتِ تُغرِّدين حالمةً بربيعٍ لن يأتي إلا في خيالِ روحِك العاشقة المَسْكُونةِ بخطاك صوبَ الظلِّ والنور ، والنورِ والظلّ ، في دورةٍ أبديَّة لا تَنْفَكُّ تنتهي إلا لتَبْدأَ من جديد ، مُتَعاقبٌ فيها اللذةُ والألم ، والحزنُ والسرور ، والفرَحُ الطائرُ بجناحَيْن من شَهْقَةِ روحِكِ لذَّةً وأَلَمًا ، وأَلَمًا ولذَّةً ، في دورةٍ أخرى مناظرةٍ لدَوْرةِ الظلِّ والنور . كلُّ ما يخصُّكِ دائرٌ داثر ، من رأسِكِ إلى قدمِك ، من جسدِكِ إلى روحِك ، من شَهْقتِكِ إلى شَهْقَتِك ..
في البعيد وإلى البعيد ..
(4) الرِّسَالة
زُوريه كرسالةٍ إلهيَّة :
أن ثمَّة ليالٍ
أقرَبُ للفرْدَوس
ولحظاتٍ يخْفَى
فيها الخافي
ليبين الجَلِيُّ وحدَه
بوضوحِه الشفيف
زُوريه أَجَلْ
ليُدْرك العاشق
أن الحياة تستحقُّ
أن تُعَاش
بانتظارِ لحظةٍ كهذه
تَهْبطين عليه فيها
بطَيْفِك الساحر
كغزالةٍ عصبيّة
وفوق سريرِه الواسع
تَصْخَبين
وتَركُضين ..
(4)
اهبِطِي كطائر ..
اهبطِي كطائرِ العشق وأضيئي ليلَهُ ، العاشقَ الذي انتظرَكِ ألفَ عام دونما
تَلْبِيَة ، هَبِيهِ قلبَكِ ، وهبِيه قلبَه
، وأضيئي حُجْرَتَه بشَهْقَةِ عاشقةٍ غابَ عنها العالمُ ، وغابَ الناس ، وحضرَها عشقُها
وَحْدَه .. ! كلُّ خطوةٍ خطوتِها أزاحَتْ ظُلْمَةً ، كلُّ خُطْوةٍ خَطَوْتِها أنارَتْ
ظلامًا ، وفحيحُ صوتِكِ الساطعِ نداءٌ لا ينقطع ، ودعوةٌ لمدائنَ العِشْق . كفُّكِ
في كفِّي ، خدُّك على خدِّي ، وكلانا غارقٌ مفارقٌ ، ذاهبٌ إلى ما لا يُسَمَّى .. ،
ونهدُك الوَضِيء قِنْديلٌ على رأسِ جَبَل العشق ، نهدُك الوَضِيءُ المضيءُ الساطعُ
نورٌ ونار ..
(5)
يُنَاديك نون
علِّميه أن يناديكِ : " نون " كما كنتُ أفعل ! واقرئِي عليه جداريَّةَ درويش ، وأشعارَ نزار القديمة ، وأَسمعِيه كلَّ ما أسمَعْتُكِ من قبل ، واصْحَبيه إلى حديقتِنا في الضاحيةِ البعيدة ، وعلِّقي ذراعَك في ذراعِه كما كنتِ تفعلين ، وسِيرا معًا واحملِيه لمدائنكِ العامرةِ بالأُنس ، وافرشي له قلبَك ودَعِيه يسترِيحُ من غُبَار الطريق ، وافرشي له خدَّكِ وارقُبيه وهو يتطلَّعُ إلى شهقتك الشاهقة ، وآهة روحك المحلِّقة كجناحي طائر ، وشاهِدِيه واشْهَديه وهو يعدو في مراميك دون أن يَصِل .. أنَّى له ذلك !؟ وكلُّ ما فيك عصيٌّ على الفَهْم ، أبيٌّ على المرَاوَحة ، كلُّ ما فيك نَغمةٌ بلا صَدَى ، كل ما فيك ذاهبٌ إلى حَضْرةِ وَجْدِهِ وَحْدَهُ ، راحلٌ إلى رؤاهُ دونَ سواها ، كلُّ ما فيك غائبٌ في الرغائب ، يخرجُ من بين الصُلْبِ والتَرَائب ..
وإليها يعود ..
(6)
باتِّجاه الوَصْل
أيّةُ حَيْرةٍ تلك التي سكَنَتْها فحرَّكت قلبَها باتجاهِ الوَصْل لا الوِصَال
، وحرَّكَتْ روحَها كالدراويش حول شَمْسِ الحبيب في دَوْرةٍ أبديَّة لا تتوقَّف ولا
تَنْتهي ، وحرَّكَتْ جسمَها النحيل في فضاءٍ العشق مُتَقلِّبَةً مع القلب ، شاهقةً
من قلبِ قلبِها ، وكلُّ خليةٍ فيها تدعو وتلبِّي ، تهبُ وتتلقَّى العطاء ، كلُّ خليةٍ
مَخْمورةٌ في مدى من هيامٍ ومدٍّ لا ينقطعان !؟ أيُّ بحرٍ ذاك الذي يفيضُ عليها موجُه
!؟ أيَّةُ زُرْقةٍ لهبيَّةٍ تذوب فيها حرقتُها !؟ أيُّ شُهودٍ وأشهاد .. !؟ متعلِّقةً
بشعرةٍ في طوفان ولوعِها ، مغمضةَ العينين ، سابحةً مُسَبِّحة ، وشعرُها المُرْسَلُ
الطويل كلما قصَّرَتْهُ استطال ، شعرها المرسلُ المُسْتَرسِل الطويل طافٍ على الماء
.. !!؟
(7)
خَطْوُها ..
لا يشبُه خَطْوُها ندَمَ العابرين ولا البكاءَ على طلَل ، خَطْوها زَفَّة عروس تَصْعدُ سُلَّمًا باتجاه قلبِها ، خَطْوُها روحٌ حارِسَة تتبعُ طَيْفًا ، خَطْوُها قَطْرةُ نَدَىً على بَتَلةِ وَرْدة ، خَطْوُها عطرٌ يشيع في حديقةٍ مُغْلقة على زَهْرِها ونَهْرِها ، خَطْوها صاعدٌ نَفَسًا نَفَسًا ، شَهْقَةً شَهْقَةً ..
هابطٌ مثل ماءِ الغدير على حافَّةِ التَّل ..
(8)
اسمُها في الغَيْب زُلَيْخَا
تحملُ سلَّتَها
وتدور
توزِّعُ الحُبَّ
والعطر .
في كلِّ دَرْبٍ
من أَثَرِها
عَبَقٌ خافت .
في كلِّ طريقٍ
من سلَّتِها
فاكهةٌ
مُبَعْثَرة ..
(9)
مِنْ عِشْقِها ..
سأظلُّ أَذكرُ نظرتَها التي لا تشبِهُ سواها بعد أن تلِجَ داخلةً من الباب ، وجلستَها خفيضةَ الرأس مُبْتَسِمة ، وشهقتَها بعد أوَّلِ قُبْلَة كأنما البحرُ وراءها .. سأظلُ أذكرُ ضحكتَها التي لا تشبُه سواها ، ولفتَتَها التي تخُصُّها وحدَها ، ونومتَها في حِضْني ، مُغْمَضَةَ العينين ، ناعمةً . سأظلُّ أذكرُ روحَها التي تكادُ تصعدُ إلى شفاهها لتقبِّلَني على شفتي ، وقلبَها الذي ينبضُ بالمحَبَّةِ طوالَ الوقت ، وثَغْرَها الذي يوزِّعُ القُبُلات بلا حساب . سأظلُ أذكرُها دون مَلَل عاشقةً مَعْشُوقة ، مُقبِلَةً مُقَبِّلة ، عاريةً إلا من عشقِها ، تنسلُّ داخلةً ..
ولا تَخْرُج
(10) الرقَّة الخافِيَة
نحولُها رهافةُ عصيَّةٌ على الفَهْم ! كلُّ آهةٍ تخرجُ من حَلْقِها ثمرةٌ لتلك الرقَّة الخافيَة ، وذاك النُّحولِ الشَفيف الأشْبَه بخِفَّة قدِّيسين يصومونَ على الماء فحَسْب ، فتحلِّقُ أرواحُهم إلى سماواتٍ عالية ..
ولا تَعُود ..
(11) يَحْسَبُها
على الضَوْء
لن يرى حقيقتَها أبدًا
ولن يعرفَ
مَنْ هي ..
ستظلُّ بداخلِه
نغَمًا خافيًا
وسترفضُ عيناه
أن ترياها
فقَطْ قلبُه
سيَحْسَبُها على الضوء
ويكتبُها في كلِّ لحظة
قصيدةً جديدةً ..
وتبتَلُّ
عيناه ..
(12) آيَة نون ..
كلُّ هذا العشق
ولا تسيرُ على الماء !
كلُّ تلك المحبَّة
ولا يحملُها قلبُها
لتحلِّق في الهواء !
كلُّ هذا الشوق
لا يكفيها لتُصْبحَ
قدِّيسة ..!
كلُّ هذا الضِرَام !
كلُّ هذا الغَرَام !
ولا تتقدَّس باسمِك
يا إلهي ..
أيَّ فتنةٍ هي .. !
(13) بالكَاد ..
بالكاد يتنفَّس الصُبْح
وخَطْوُها الوَئيد
في الدُّروب الضيِّقة
يُوقِظُ الأحلامَ من سبَاتِها
متلفِّعَةً بشَوقِها
تطأُ عتَبةَ البيت
كنَسْمة ..
رافعةً رأسَها
لا مُطأطِئْة
دخولُها دخولُ الفاتحين
زاهيةً مزهوَّة
وبين خَمْرِها وجَمْرِها
ووَقْدِها وشَهْدِها
يتنفَّسُ الصُبْح ..
(14)عن قمرٍ مخبَّأ
غارقةٌ في محبَّتِها
كلُّ أَنَّةٍ تُنْبِئُ
عن قَمَرٍ مُخَبَّأْ
كلُّ شَهْقَةٍ خاليةٌ
إلا من وَجْدِها
رحلتُها إلى قلبِها
فحسب
والعالمُ طوفانٌ هائج
العالم طوفان ..
وخَصْرُها الناحلُ
خَصْرُها الناحلُ النحيل
يتَراقص
مع المَوْج ..
تعليقات
إرسال تعليق