القائمة الرئيسية

الصفحات

المجموع في الطبيعيات / (من ديوان الأغشية) / كريم الصياد

 

المجموعُ في الطبيعيّاتِ

(من ديوان الأغشية)

كريم الصياد


المجموعُ في الطبيعيّاتِ (من ديوان الأغشية) كريم الصياد



1- إحياء الموتَى


أعلنتُ نَزْعتي إلى الإِحياء، ولم يتْبعني إلا الموتَى.

حملتُ الدخانَ في كفَّيّ، وعلمتُه الطيران. لا تصعدْ لمجرد أنكَ أخَفّ. اصعد إذ ما أردتَ المجدَ، إذا أردتَ إعلانَ موتِ المادّة، أو أن تكون أول خبرٍ عن سقوط أركان دولة الكربون في كتابٍ ورَجُلٍ يحترقان، أن تكون جدارًا رابعًا نصف معتمٍ لسينما الظل، شاهدًا على تشريح كل قَلْبٍ حي وغير حي، أو صفحةَ وفيّات العناصر التي تقرؤها السماءُ، وعنوانًا أسود ثقيلاً في أغلفة الهواء عن نهاية العالَم. فرَدَ الدخانُ جناحيه، وراح يمتصّ مِن كل شكلٍ ملوّنٍ رحيقَ النور.

وحين مات الماءُ حزنتُ عليه كثيرًا. عاش عديمًا ومات عديمًا. لم يؤنَّث قَط، وهو الأنثى التي قَط لم تؤنَّث. حملتُها كابنتي في الأهداب، وأريتها قوامها في الغيوم، ورِقِّتها في الندى؛ لتعرف أنها أشفُّ النساءِ. لا تقبعي في القيعان لمجرد أنكِ مجذوبة. ارقصي عاريةً إن أردتِ، أو ارتدي الطحلبَ في الليل، والمرايا في النهار. اصنعي بنفسكِ موسيقى تليق براقصة الأجفان، وضَعِي بلا خجلٍ ما بأرحامكِ الشفيفة. كوني -لأنكِ أُمُّ كلِّ شيئَينِ حَيَّيْنِ- قاتلةً لا ترحم إلا مَن حملَ على ظَهرِها من كلٍّ زوجَينِ.

ثم استويتُ، فيا أرض ابلعي ماءكِ. لا تكوني فخّارًا إذا لم تُعجبكِ أَطوارُ الإنسانِ، ولا تسمحي لإلهٍ أن يضاجعكِ إن رفضتِ. ويا نار لا تكوني سلامًا إن جُعتِ، ولا تسجدي لأصنام الطين لو سَجَدْتِ، واهدمي المعابِدَ تحتَ الذَّرّيّةِ على رءوس المدُن إذا تَأَلَّهْتِ.

كن أيها الكون شجرةً حية، ودعني أتدلَّ لأغازل زهرةً وحيدةً على ذات الفرع الأعوج. لا تكن عبدًا لا يعرفُ التأملَ لمجرد أنكَ بلا إله، ولا تظلَّ صامتًا، إنْ كنتَ يومًا مألُوهًا. لقد سرتُ طويلاً، حتى جلستُ في آخر الطريق إلى الأبد، أنزع من قدمَيّ أشواكَ الأسبابِ. أريد وجودًا بلا أسبابٍ إلا الحب، وحُبًا بلا أسبابٍ كالحرّية. أريد كونًا يَكرهني، أو يحبني، مِن لحظة الانطباعِ الأوّل العظيم.

21.12.2015

Köln 

 


2- تحقيقات جديدة في قضية مقتَل الجَمادِ


يسأل القديمُ: "مَن الذي قتل الموادَّ، وترك النيزكَ المشويَّ يهوِي في صحن الأرض بلا صَيادٍ؟ من سمّم السحاب، فوُلد الماءُ محايدًا بلا أضداد؟ من نشر الوباء في اللا منقسمات، وتركها خرائبَ تنعب فيها الكهاربُ على أنويتها الشهيدة؟ من جرَّف السديمَ، فذبلت الشموس، وخرجَت النار أشباحًا من جحيمها المخمودة؟"

لم يسمع سؤالَه إلاي من الإنسان الحديث؛ فحين ماتت المادةُ صار الكون ساعةً، تدق نحو صِفرٍ مُطلَقٍ، وأصبح للزمان مكانٌ، وضربتْ الأشياءَ كينونةٌ نافدَة. وتساءلتُ: هل كان الكون في البدء حيًا، لا يخفت منه نور، ولا يبترد فيه كفٌّ، لا يَخرج رُوحٌ، ولا ينقُصُ شيءٌ؟

زرتُ أقدمَ الأطلال بحثًا عن أول الزمان، بكيتُ في مدن قارات العالم القديم، وفقدتُ في كلٍّ أبًا أو صديقًا -والفقدُ ثمنُ الزيارات ومَجازُ السفَر- فلم يجبني نقشٌ أو وَشْمٌ عن السؤال. أنا الصياد اللاهوتي، الذي اكتُرِيَ؛ كي يَقتُلَ الجانيَ الرهيب. لا بصمة على كوكب، ولا شَعرة على قمر، والموت في كل مكان.

عبر أجيال من العناصر جاء شعاعٌ هيروشيميٌّ في السبعين، هو في الأنوار آخر السفاحين الأحياء، ووريث حكمة الضوء القاتل. نصحني ألا أبحث، ثم غاب –حتى هو!- في صدري كالخنجر الناريّ، وانطفأ بعد أن أَلهَبَني محتضرًا كمصباح يَنْفَقِئ، ويَجِفّ في خفوت.

كان يريد أنْ يقول إنّ مَن قتل المادةَ هو مَن عرف في اللحظة الأولَى أنه لا يَخلُق. هو مَن اخترع الموتَ، وجاء إلى الكون بلعنة النَّفاد. هو القاتلُ بالأصل، وهو الـمُنتحِرُ بالانفطار. كان يريد أن يقول.. غير أنه أضاءني دون أن يقول.

4.1.2016

 Köln

 


3- أقدارٌ نِسْبيّةٌ


اللحظة هي الحُلمُ، والزمانُ الأرقُ الطويل.

والبيتوتةُ المَحَلُّ، والمكانُ.. رَحيل.

.

ستعبرونَ من أرقٍ إلى أرق. وحين تسيرونَ -مسيرةَ الأنوارِ- تصيرون أقليّاتٍ حيةً في الأكوان. أطوَلُ السَّفَرِ سفرُ اليَقْظَانِ، وأسوأُ الأحلامِ التي لا تجيء. أينما سِرتُم في الأرقِ، مضى عليكم رحيلٌ.

.

الآنُ صَحْوٌ،

والآنَ.. فِراقٌ.

والبَيْنُ غُصَّةٌ إلهيةٌ تَعبُرُ جسدي

بينَ حِبالِ الموتِ،

وأليافِ الأحياء.

3.6.2016

Köln

 

 

4- رقصةُ الغاشيةِ

M-Dance


حين ضَموا الأوتارَ على منوال الزمان، ونسجوا أولَ غشاءٍ يدوي بيدٍ بشرية، قلتُ إن التماسَ جفنين عَدَمٌ وحُلْمٌ، وإن انفصالهما عالَمُ شهادةٍ. قلتُ إن انقباضَ أيدي العظامِ على المخ والرئات خَلْقٌ مُدَرَّعٌ، وإن انبساطها إلى العالَم، ليَبلغَ أنامِلَها، تَسَرُّبٌ لأعضائنا من بين أصابعِنَا. قلتُ إن جلودَنا خرائطُ للمكان المرتَّبِ طبقًا لأسباب النزولِ، وإن انقراضَها قيامةٌ للعمارةِ سَدًّا ضِدّ التاريخ، فأخذهم الخَلْقُ بالإثمِ.

كانت التجارب الأولى لالتماسِ غِشائَين مخيفة: اختفى رصيد ضخمٌ من مَصرِفِ المادّةِ، حين التحما على مَسرح الوجود، ثم انبجست المادةُ مِن عُلبةِ الفراغِ، حين افترقا، عفريتًا مَجَرِّيًّا، واضطروا إلى تصفيته بصواريخِ الانفجاراتِ العظيمة.

ثم تساءل الفلاسفةُ: هل يكون عالمُنَا شَظِيّةً في حربٍ بين عالَمَين سحيقين، امتلكَ أحدُهما –على الأقل- شَفرةَ الأغشيةِ؟!

كانت ملائكةُ الحربِ تمتثل للتكتيكات الإلهية، وتُثبّتْ في الأفلاك ما خَزَّنتْه منذ الأزل من ألغامِ القيامةِ، فعرفنا أن أي حركة مِنّا في أي اتجاهٍ، قد تكون الآخِرةَ.

أنا الوحيد الذي طوّحتُ ساقيَّ وذِراعَيَّ لأُصادِفَ قيامةً مُتَجرثمة، وأنا أتمدّدُ في قارات العالَم القديمةِ والتاليةِ، عَلَّ الزمنَ ينتهي برقصةٍ واحدةٍ لرَجُلٍ وحيدٍ، اسمها "الغاشِيَةُ".

إن تحت كلِّ غشاءٍ عالَمًا،

يطفو كالفقّاعةِ،

نحو الأكوان العالِيَة.

وأنا أقبِضُ الأغشيةَ.

وأنا أَبْسُطُ الأغشيةَ.

12.8.2016

Köln

 


تعليقات