كأنني وصلت
مختارات من ديوان " أنت في القاهرة "
إبراهيم داود
زمَن آخر
لا
أُشبِهُ الزَّمَنَ الذي أتفَقَّدُ الناسَ فيهِ
أتخيَّلُ
أنني قادمٌ من زمنٍ
كانَ
الناسُ فيهِ
يغسلونَ
وجوهَهُم بالأُلفةِ
وأنَّ
ملامِحي
التي تشيرُ إليَّ
لا
تُشبهُ الشخصَ الذي يَخصُّني..
رُبّما
لأنَّ الناس الذين أتفقَدُهُم
لا
يَفتقِدونَ أحدًا..
ولا أعتقدُ أنهُ كانَ
مهيبًا
كما يَعتقِدُ الذينَ
لا يُحبُّونَ الزمنَ الذي
يعيشونَ فيهِ
لأن البشرَ الذينَ جئتُ
مِن صُلْبِهِم
كانُوا يَمشونَ على أطرافِ
أصابِعِهِم
وهُم في طريقِهِم إلى
المَقابِر
وكانُوا غيرَ مَعنِيّين
بالإضاءةِ
التي أغْرَقتِ الذينَ
أتفَقَّدُهُم الآنَ
يُخيَّلُ إليَّ..
أنَّ الشوارعَ هذهِ
تَخُصُّ آخرينَ
لا تَعرفُ مَن هُم؟
ويَضيعُ عمرُكَ وأنتَ
تَقطعُها
لكي تَشْعُرَ أنكَ
تَعيشُ في زمِنِكَ
البُطولَةُ
يَنقُصُها حبٌّ كبيرٌ
كانَ موجُودًا في زمنٍ ما
خالٍ مِن الحروبِ
الصَّغيرةِ
كانَ الفلاحونَ فيهِ
يَتوضئُون بالنَّدي
ليَتَغلَّبوا على الزَّمنْ
يُخيّلُ إليّ أنّ الحياةَ
أصبحتْ أكبرَ مِن الأحياءِ
ورُبما- لهذا السَّبَبِ-
اختفتْ الحَدائقُ..
التي كانَ هُناكَ أُنَاسٌ
يَحملُونَها مَعَهُم
وهُم في طريقِهِم إلى
الخُضْرَةِ
وهُم في طريقِهِم إلى
الفِطْرَةِ
وهُم في طريقِهِم
إلى الله.
استهلال
أحيانًا
يحتاجُ الواحد منا أنْ يتنفّسَ بصوتٍ عالٍ
ليُقنِعَ نفسَهُ بالشّتاءِ
وهوَ يَعبُرُ منْ ليلٍ
إلى ليلٍ
متجاهلاً الدخانَ
الذي يُخلفُهُ الركضُ..
أحيانًا
يتمنّى أنْ يغفُو في آخرِ السّطْرِ
ليبْدَأَ جُملةً مفيدةً
يَسْتهلُّ بها ما يُريدُ
أحيانًا
يقبضُ الواحدُ منّا على نفسِهِ
وهو يبكي
البكاءَ الذي لا ينظُرُ الآخرونَ إليهِ
بإجلالٍ
ورُبما وهوَ يضحكُ
عند تَصَادُمُ الأيامِ
في الطُّرقِ السّريعةِ.
مِن التحرير
كلُّهُم هُنا:
الذي كانَ يَحْلُمُ
والذي كانَ نائمًا..
والذي فاتَتْهُ صَلاةُ
الجَماعةِ
والذي اكتشفَ صوتَهُ..
فجأةً
والتي تبحثُ عن نَغَمَةٍ
جَامِعِة
والتي أجَّلتْ حُزنَها
للخريفِ
والذي انتظرَ حتى يَحُلَّ
الظلامُ
ليقبضَ على أقْمارِهِ
والذي تركَ أمْرَاضَهُ على
أوَّلِ الجِسْرِ
ليستردَ عافيتَهُ في
الزِّحامِ
العيونُ تَرى بوضُوحٍ..
هنا
واللغةُ.. لا شَحْمَ فيها
ولا صوتَ يَعلُو فوقَ صوتِ
الأمَلْ
يَحملونَ بداخلِهم
نِداءاتٍ.. كانتْ مُكَبَّلَةً
والمُناضِلون القَدَامَى
هُنا
"يُتمِّمُونَ"
على أيامِهِم
والذينَ اخْتلَفُوا في
أوّلِ العُمْرِ
اتفَقُوا على الخُطوةِ
القَادِمَةْ
والذينَ استُشْهِدُوا
موجُودونَ
رُبّما قُرَبَ دبّابةٍ
أوْ جَنْبَ طفلٍ يحملُ
عَلَمًا
أو أُغنِية
أوْ قُربَ حَنْجَرةِ الذي
يَتَسَلّقُ أعمدةَ الضَّجَرِ.. هناك
ليَهْتِفَ ضدَّ الخَرَابِ
ليَهْتفَ ضدَّ الطّاغيةْ
الحياةُ هُنا هادِئةٌ
رغْم كلِّ الضّجيجِ
ودفءٌ تَمَرَّدَ على ما تُريدُ الطبيعةُ
دفءٌ عريقٌ هُنا
يُحِيطُ الذينَ أتَوْا فاتحينَ
والذينَ يَحرُسُونَ حدائِقَهُم في البيوتِ
والذينَ لمْ يتمكَّنوا من المَجيء
والذينَ يَسِنُونَ أَعمارَهم لمُواصلةِ الرّفضِ
في مكانٍ ما
هُنا أنتَ في مصرَ
أنتَ في القاهِرَة
أنتَ في بيتِكَ
في مَلاعِبِ طفولَتِكَ
أنتَ معَ نَفْسِكَ
ومع الذين سيبدأون الغناء
معك .
برج العذراء
كانَ القمرُ- ليلتَهَا-
كاملاً
(بعدَ انتصارٍ مَهيبٍ
أوّلَ العامْ)
وكانتِ الحروبُ الصغيرةُ
مُزدَهرةً بالخارجِ
ولمْ تكُنْ هناكَ حربٌ
لكِنّ الناسَ
في مَدِينتي
كانوا خارجينَ مِن هزيمةٍ
ثقيلةٍ
يَمشُونَ في الشوارعِ
خائفينَ
الخوفُ لهُ رائحةٌ...
تَستقبلُكَ وأنتَ تودّعُ
عامًا آخرَ
تَسْتقبلُكَ وأنتَ ذاهبٌ
إلى البَهْجَةِ
وأنتَ تتذَكّرُ بَشَرًا
لا تَتذكرُهُم
إلا وأنتَ وحيدْ
القمرُ هذهِ الأيامَ
يبْدو صغيرًا
يُطِلُّ على مدينتي
ولا ينظرُ إليها
تحسُّ أنّ شيئًا ما
بداخلِكَ
يرفضُ أنْ يعيشَ معكَ
فتبحثُ عن امرأةٍ مُضيئةٍ
تأخذُكَ خارجَ المدينةِ
تساعِدُكَ على ترميمِ الأماني
وتزرعُ أشجارًا معكَ
تُعوِّضُكَ عن الأرضِ التي فقَدتَهَا
في السباقْ
بعدَ كلِّ هذهِ السنواتِ..
لم تَعُدْ الرّيفي
الذي دَخلَ المدينةَ
بأقمارِهِ
ولمْ تَعُدْ المدينةُ
مضيئةً
كمَا كانتْ
كنتُ أستعدُّ للتّخلُّصِ
من خطُواتي السّريعَةِ
التي أفقَدَتْني
أكثرَ مِن فُرْصَةٍ
للنَّجاةِ.
تائه
أضلُّ الطريقَ أحيانَا
وفي اللحظةِ التي أتأكّدُ فِيها
أنني تهْتُ
تَنبتُ على شفتيّ ابتسامةٌ
كسولٌ ودودٌ باهتةٌ
ابتسامةٌ لن يَفْهمَها غيرُكَ
توحي للآخرينَ
بأنكَ على ما يُرامُ
وأنكَ مهمومٌ بأشياءٍ
ليسَ مُهمًّا أن تتحدثَ فيها مع أحدٍ
وعندَما تستوعبُ المكانَ الذي تهتَ فيهِ
ترفعُ رأسَكَ قليلاً
وتكفُّ عن تَفادِي النَّظراتِ
التي- كنتَ قبل لحظاتٍ
حريصًا على تَفادِيها
ورُبما وقعتْ عيناكَ على بيتٍ...
يفرضُ إيقاعَهُ على البناياتِ المُجاوِرَةِ
الحديثةِ
ولا يدَّعي أكثرَ مما خُلِقَتْ البيوتُ لهُ
ورُبما لافتةٌ مكتوبةٌ بفيضٍ عظيمْ.
أحيانًا
تَغفرُ المُوسيقى "للأمَاكنِ" باذخةِ الإضاءةِ
وتمنحُكَ وأنتَ تتأملُ حركةَ المكانِ المُفاجئ
ثقةً مفاجئةً
.. هي تعرفُ أنكَ تعرفُ
أنكَ أخطأتَ
وتُبطِئ مِن خُطواتِها قليلاً
ومَرّاتٍ تنتقي مقهًى أو مطعمًا
لكي تُرتّبَ ابتسامَتَكَ..
إذا كانَ المكانُ الذي ضللتَ فيهِ
بهِ حاناتٌ
لأنكَ لا تشعُرُ في الأماكنِ القديمةِ
أنكَ تُهتَ
وتَعرفُ أيضًا
أنهُ لا يوجدُ أشخاصٌ وَدُودونَ
في الأماكنِ الجديدةِ
يعتقدونَ أنكَ عابرٌ
ولا يأخذونَ مودتكَ
محملَ الجِدّ
خصوصًا إذا دخلتَ عليهِم
متأخرًا
المَودَّةُ تأتي
رُبّما..
بعدَ ذلكَ
عندما يكتَشِفونَ احتياجَكَ
للمكانِ
يَحْلُو الذهابُ إلى
الأماكنِ الجديدةِ
في الهزائمِ
وعندَما يبوخُ الكلامُ في
الأماكنِ القديمةِ
التي يعيشُ فيها أصدقاؤكَ
وأقاربُكَ
وأعداؤكَ
وتكونُ مضطرًا إلى المشي
بمفردِكَ تمامًا
أنتَ لا تشْكو مِن شيءٍ
محددٍ
وتُشفِقُ على الذينَ لم
يَضِلّوا أبدًا
ولكنّكَ مضطرٌ لمُجاراةِ
مُوسيقى
لا تعْنيكَ
تَخرُجُ من الأماكنِ
الجديدةِ
التي لم تكتشفْ إيقاعَها
بَعْدُ
رغمَ الإضاءةِ
المفتَعَلةِ القديمةِ
التي تُشعِرُ أصحابَ
الأماكنِ الجديدةِ بالزَّهو
وأنتَ تائهٌ
لا تفَكِّرُ في الاحتفاظِ
بذكرياتٍ
معَ المكانِ الذي تهتَ
فيهِ
أنتَ تَستعرِضُ فقطْ
صورًا لا تلوحُ لكَ إلا
هناكَ
ترتبطُ- معظمُها-
باللحظاتِ..
الكثيرةِ
التي كنتَ تنسحِبُ منها
حزينًا
وغاضبًا
اللحظاتِ التي كنتَ
تتمنَّى
أنْ تبكِي فيها بصوتٍ عالٍ
وفي أي مكانٍ
ولا تَصيرُ هكَذا!
اللحظاتِ التي كنتَ تنتظرُ
أن يكافِئُكَ الآخرونَ
فيها
على إيقاعِكَ وأنت
تتفاداهُم
اللحظاتِ التي تَضَعُها
جنبَ بعضِها
عندَما تريدُ أن تقيسَ
زمنَكَ
في الأيامِ الأخيرةِ
أنتَ فرحانُ
لأنّهُ يُوجدُ ما يدعو
للفرَحِ
تتفقَّدُ وسطَ المدينةِ
(مَدينتِك القديمةِ)
بروحٍ حزينٍ
وتَشعُرُ أنكَ تفتقدَ
الابتسامةَ الكسولَ الودودَ الباهتة
التي لنْ يفهمَها غيرُكَ.
أشباح
الظلام سد الطريق
كأننى
وصلت
تعليقات
إرسال تعليق