صوت اليمامة
مختارات من شعر ديمة حسون
هكذا تكلمت
لِلحزن رُوح، ولِلغفوة الصّامِتة؛
للضّجيجِ إِيقَاعاته كسحابة!
أجامل الذّاكِرة،
أَتحمّس لِلظّلال
لأَكتمل قبل أَن أَمضي!
لأثبت ؛
ثَمّة شَيءٌ في البقاء،
وإِن فشلت؛
سأنمو عَلى انفراد
كشبح الكتب أَهزّ الماء.
أَتطرّف كعنكبوت
مَدّ من الأَرض خيطاً
وابتدع لغة للنّهار،
أَرسم لِلخطوات أَرصِفة،
ووحِيدة أفتتح الغِناء.
الأرواح تضحَك مِنْ عِصيانها
والفصول تمضي؛
فما همَّ؛
أَنْ تكون أغنياتي شاذة أَوعابرة!
وأَنْ أعترِف :
قربانِي ليس أضحِية وحكمتهُ
نهاية غروب .
بياض الماء
في الطّريق
السّارح خارج الّلعبة السّرية للظّلال
خارج السّقوط العقيم للكلمة
وللاستجابات الّتي لاتتوقف
أبتاع الحبّ
أقايض الّلعنة
لأمارس دهائي كمن يحتضن الماء.
صوتك الجميل يُفسد لغتي،
ليُتيح للإيقاع جنونه
ويطفو طائشاً هنا
حيث أصرخ بلا انتهاء:
أيّها القلب الهشُّ
اترك لي بقايا الحطام.
أنتهك نفسي
كنحلةٍ تنقلبُ
داخلة خارجة، سوداء حامضة.
وحيدةٌ أدنو منك،
حين يُراقُ البياض في فراغهِ الشّاحب.
عوضًا عن الجهات والقصيدة
السّأمُ الّذي حدثتك عنه ذات مرة
السّأم الّذي تعرفه ضلعًا ضلعًا
له رائحة كالحبّ دائماً ما تتبدد
في الزوايا.
ورغم ما يحمله من هاويةٍ وعَتمات
يظل بريئًا
إذ يعي أننا نارٌ لا تشتعل إلا شهوة للرماد
وأننا أخفُّ وزنًا من فراشةٍ
يمنحها اللهبُ ملكوتَ المتعة الأخيرة.
لي فيكَ اسمٌ ومعجزة
مأدبة وأغنية،
وملامحُ يعرفُ صلصالَها الصبحُ والسنابل
ووجه ممتلئ ببهاء الأرباب!
لي فيكَ أرضٌ وصهيلٌ وأشرعة
أجنحةٌ وأهِلَّةٌ
ولسان
ولي فيكَ أيضًا حزنٌ يمتحنُ بفخاخِه ذاكرتي
آهٍ
كم تمنّيتُ لَو أنّني «أفروديت»
أُخرجُ العاشقَ من مخبئه؛ أصيّرهُ نبيًّا
يُصّلي لوجهي حتى يرى الأمواه كتابا
أرجُّ مقامه.. أجتاحهُ وأنشئ على عيني خطوه،
أتخبطُ فيه، وأهدر بالتيه فلا أضِل!
غريبٌ أن أدرّبَ أصابعي كي تُريقَ دمَ النّهايات..
غريبٌ أن أروّضَ الظمأ
وأنا يقين الماء؟!
أطبع خطواتي على أرصفةِ الشّوارع
ويضيع الطريق
تمنيتُ أن أجري نحوكَ.. أركضُ إليك
أعصفُ، أرعدُ، أضيء
وأمطر
لكن
أيّ نردٍ رميت!
كيف جهلت أن الحبَّ هو الحب
وأن السأم يشابهه:
نوافذ وأصفاد
شمس وزنازين
صمت وريحان!
حنانيكَ
أيّها الرّجلُ الّذي وأَدتهُ الظّلال
أحبكَ عوضًا عن كلِّ قافلةٍ أسلمتُها دربي
عوضاً عن معارج وأسفار
عن مجازي ورئتي وشفقي وأوراقي الخضراء.
هو ذا سأمٌ بريء يطوّقني
يعلّمني كيف أميل مع الريح وأجاهر:
أحبكَ
عوضًا عن كل شيء.. عوضًا عن الجهات والقصيدة.
هنّات
قوسٌ موتورة
أصحابي القدامى.
*
آخر الأشعار
ذاكرة لربيع شحّاذ.
*
صمتُ الرغبة
وردةٌ
تهذي في حومة الغبار!
*
الرّماد
إدراك متأخر لمعنى الاحتراق.
*
الأمل
امرأة تلعب برداءة.
*
الحاجة
راعٍ يقدم كباشه قرابينَ
عند هبوب العاصفة!
*
في المشهد الخلفي
فخّارة
شاخت في جوفها الأماني!
*
الكلمات
هاوية..
وأوطان!
*
الصدى
فاكهةٌ مُرَّةٌ..
تتراشق بها الجهات!
*
الشّيخوخة
ورّاقٌ يمنحُ اللهبَ
حِبرَ المراثي!
*
الحقيقة
سِرُّ الهدنة بين الرّيح والأغصان!
*
الباب
فطنة الطّريق للرّحيل.
- في القليل من الكلمات ثمّة وفرة من النسيان تُعلمكَ العيش حيث لايُقيم أحد.
لا ينبغي أن تنام
بَعيداً حَيثُ يُغنّي الغَربُ مَواثِيقَ الأَبديةِ ؛
لَنْ أَتذمرَ! وَلَنْ أَقولَ وَدَاعاً لِلطُّرقَاتِ المُغلقةِ
فَأَنا أَعرفُ أَنّني عَلى مَايُرامُ، وَأَنّني سَأَركضُ طَويلاً
عِندَما يَستَقبِلُني الضّوءُ .
لِمَ تَنامُ فِي قَصَائِدي بِهذَا الاستِغرَاقِ وَالصّمتِ؟
تَعَالَ نَمضِ حَيثُ تَهبّ الرّيحُ،
وَحيثُ نَغفُو بَينَ الشّجرَةِ وَالظّلِ .
أَنصِتْ! الرّاقِصونَ مُقبِلونَ
العَرائِسُ تَطفو بِفرَحٍ
وَالصّورَةُ مَازَالت حَيّةً!
فَلا يُمكِنُ أَنْ تَبقَى نَائِماً هُنا
أَمَامنَا طَرِيقٌ، وَكِتابٌ عَلى الرّفِ يَنتظرُ.
مُنذُ هَذهِ السّاعةِ؛
سَأُبعثرُ نَفِسي على أعوامٍ قَادِمةٍ؛
فَقدْ وَقفتُ زَمناً،
وَشَاهدتُ النّوارسَ تَطوفُ
وَالسّماءَ المُنعكِسةَ تَغزلُ قِصَتها
عِندَ أَرصِفَةِ السّفُنِ .
سَأُبعثرُ نَفسِي على أعوامٍ قَادِمةٍ؛
لِأتعَلّمَ كَيفَ أَحسبَ السّنينَ بِبطءٍ
حَيثُ لَاتُجدي المسافةُ وَلايُجدي المكَانُ.
أَنْ تَكونَ هَائِماً فِيمَا أَقفُ مُنعَزِلةً
سَأغني لَكَ؛
مَاذا يَكمنُ في دَاخِلي لِأعوامٍ قَادمةٍ،
فَلا يَنبَغِي أَن تَنامَ؛
فِي الغَدّ سَيتحَوّلُ الحُبّ إِلى حِجَارةٍ
وَالجَسدُ إِلى تِذكَارٍ مِن الأَرضِ .
هي.. هي
هل تعرف كيف تميّز بين الحلم و اليقظة؟
الحلم امرأةٌ تخطو
بقدمين حافيتين .. طريّة كسنبلة
يغتسلُ في عينيها ويتبلل البحر.
وهي .. هي
امرأة سمراء في قصيدة منسيّة
حاولت الدّوران فيما الرّياح تسرق أبجديتها.
امرأةٌ واحدة تقذف الوقت في سلّتها
فيما تقول:
لا أعرف أن شفاهي ملطخة بالرّجاء
أنا فقط أعرف أن لصرير الرّياح
صوت المفاتيح المنسيّة
وأنّ للأبواب حلم الحطابين الأشرار
وللقلب رجلًا من صفصاف بيديه المخبوزتين
بالحبّ والحمّى-سوّى شَعْري بيتاً صغيراً
وقال للذّاكرة كوني أفعى لأسرق
من فمها الجوهرة.
صوت اليمامة
لِأَنَّ قَلبِي بِذار الخصْب
لأرض المقامات والأناشيد
تقتربُ وبتوجُّسٍ
تطوفُ
تنزلقُ
وكالخوف تغمرني؛
لتصحو ريِحٌ اصْطَدتَهَا
تحت عريشةٍ ناعِسة.
وكمثل طائر يكتبُ إِلى الله
نشيداً وبصوتٍ أخضر يُغنّي
نسيرُ ونرتمي؛
جسدُكَ غابة وأنا ريحانة وكفن.
تصطاد سُرّتي وبين أصابعك تُطارد
سكوني
حركتي
انطفائي
وتدور .. تدور
لتنام بين ذراعيّ
فيما أعِدّ كؤوسي لما بعد الحصاد
قبل أنْ أعرجَ بوردة وحفنة أمنِيات
وأرقص ثملة وأنا أحتسي
رائحة النّحرِ على ساعديك واتبَعُك،
فثمّة أرض تربتها بيضاء
وعجينها مُختَمر،
تُشعلُ مشكاة القلب
وتجمع غَرسَها فيما الماء يهلّل:
الحُبّ رائحة والّلون وجع .
يُطَوّقُنِي صوتُكَ المرتعِشُ
باسطاً مُوسيقاه في برّيتي
فأَرسُم مزارع وأحصنةً وأسفاراً
وأعلّق الشّمس في فانُوسي
لتُغنّي فاتناتُ ( الأوريانْ بالاَس ):
يا حبيبي اشربْ منّي
واحمل بأصابعك الطّحين
فأَنا الخميرة والكأس المدوّرة.
تغمرني سنونُوّاتكَ الخضراء
ورائحتُك لمْ تزلْ تغتسِل
حتّى إذا مسّتني،
عرفتُ كمْ أنا جميلة
وكمْ سوسنة ستزهر
في كلّ ليلة
تحاوِل أنْ تصطاد بِها
أسماكَاً هُلاميّة و أرانب تتعثّر .
أمسحُ عنْ وجهكَ بقايا الحنطة
وأشدّ وثاق الفجر هاهُنا
فيما عصافير صدرك
تُعِدُّ طاقة السّماء وترتّلُ لبرّيتها :
هلْ سُمِعَ صوتُ اليمامَة؟
هل نوّرَ الرّمان؟
في سرّي جسدٌ لايصِلُ
يهرب فيما ينتشي، وكعادته
يفترس الأمس، وينصبُ الفخاخ
ثمَّ باسم التّوقِ يبوح :
لمْ يكُن رغيفي ناقصاً
وسرّتي لَمْ تَزلْ دائرة البُروج
ووحدِي أعرفُ،
كيف ينتصفُ الطّريق
وكيف تصبِح الاستعارة مجازاً
لِصلاةٍ مُبلّلةٍ بِالصَّوت .
أمَلْتُ وجهِي
كلّ شيءٍ يتراقصُ
مطر
مطر
مطر
صوتُ اليمامةِ يولدُ
يغمسُ شهقتهُ في الإِناء
ويطوفُ مرتجفاً،
يحجبُ الضّوء
ينحني
يمتلئ
يعبرُ
فينهَض الرّبّ وينهارُ الجسد.
تعليقات
إرسال تعليق