القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

يا جميل يا جميل / مختارات من ديوان بلا خبز ولا نبيذ / مؤمن سمير

 

 يا جميل يا جميل

مختارات من ديوان بلا خبز ولا نبيذ 

 مؤمن سمير

 

مختارات من ديوان بلا خبز ولا نبيذ - مؤمن سمير - بيت النص

 

مراوغات

 

الأعصابُ و الجِلْدُ ، فقط ، هما أحزمةُ جسدي .. الأمرُ الذي لا يحتاجُ إلا إلى العبثِ الليِّنِ بأي آلةٍ حادةٍ عند المداخلِ ، لتنفكَّ ، وينفلتَ ويصيرَ طرياً تلوحُ للممرِّ خيوطهُ ... مجردَ خرقةٍ يمسكها الولدُ الشقيُّ ويفردها مع خوفِ الصباحِ ويصنع شبكته الملونة ، أو يرتاح الطيِّبُ بألا ينسى أن يثقبها ، أو ينيمها عاشقان على الأعشاب فلا تتسخ المشاعر ... حتى أن يبرمها المخاطرونَ ثم ينفخونَ بكلِ حماسٍ

ليُطِلَّ المنطادُ الذي سيكشف عن أذرعِ السماءِ ،

الطويلةِ .....

 

جسدي قابلٌ للطَيِّ في علبة ولتقطيع أجزاءَ بعينها كمناديل بعد القتلِ وللشنقِ على الحبالِ بعد أن يرقصَ الدمُ في عيني ... وعندما يكشطونَ بشدة ، يمكن استخدامي للكتابةِ أو للشدِّ بين مهووسينَ

قبل سقوطِ المنتحرِ

الأخير ..

 

جسدي نافعٌ حقاً وقادرٌ على شَدِّ الألفةِ و نَحْتِها ..

لكنَّ هذا لا يعني ألا أَحِنَّ لحياتي القديمةِ .. وقتها ما عليَّ إلا أن أختار خرابةً بعيدةً و أحشوني بالتواريخ والحوادثِ المنتقاةِ بالرعشةِ واللهاثِ .. فأعوضَ ما فقدتهُ بكثرةِ الاستخدامِ وأربِّتَ على عظامي لتشتدَّ عزيمتها وتتمكن من لفقِ وتخييط الأنهارِ والساعاتِ وأعود أعدو لتقبيلِ زوجةِ جاري الميتةِ

وأنا أكثر ثقةٍ

وأحفرُ جَناحَاتٍ ..

 

وأحتملُ العالمَ ....

 

 

لحيتــــــي

 

لحيتي كَثَّةٌ وعشوائيةٌ وعجوز ، منذ أعوامٍ أحملها معي في كلِ مكانٍ ، وهي في غالب الأحوال لا تفرج عن ثقلها ، حتى لو اقتَنَصت الماءَ أو العَرَقَ أو القبلاتِ .. أُحسُّ بوطأتها فقط عندما أفرح من القلبِ أو أفتحَ عينيَّ فجأةً : أَجري للمرآةِ وأبتهل للدغلِ الصديقِ كيلا تصحو الرائحةُ .. مذاقُ القسوةِ في الأعطافِ .. وقتها أنكمش وأشوفها هائلةً وتشبهُ أظافرَ جَدِّي .. عندما نصحتني المَلاكةُ أن أُخَبِّيها انكسر الموسَى وأخفى البخارُ السماءَ وبعدها امتلأ الحوضُ بالدماءِ الغامقةِ : كلُ قطرةٍ تجري على أختها ويصيرانِ بحيرةً ، والبحيرةُ تطيرُ وتسحبُ الحدقاتِ بعيداً بعيداً ... تَوحَّشَت لحيتي بعد هذا اليوم وكلَ مساءٍ تُخرِجُ ذراعَيْنِ يقبضانِ على رقبتي فلا أتنفسُ إلا إذا رَكَلت الظِلالُ البابَ و خَلَّصتني .....

 

 

سَأعجِنُ الأسوَدَ بالسُمِّ بالأحمرِ القاني ، وأدهنها برفقٍ فتنشغل عني بالدراما ... والشياطين التي تقفزُ

في كلِ الأرجاءِ ...

 

الخوفُ كلُ الخوفِ ، أن تغافلني لَمَّا أُغمِضُ رعشتي وتستطيلُ وتغطيني فأُدفَنَ في شرنقةٍ لزجةٍ ، مجدولةٍ من الضحكاتِ السحيقةِ ساعةَ يلهو صداها في جدرانِ روحي ....

 

هذا فقط ما أخشاهُ من لحيتي ..

التي تحبني ..

ولهذا تَقْصِرُ حياتها عَليَّ .....

 


عندي حَفَّارُ قبورٍ يحبني وأحبهُ

 

أمتلكُ مقابرَ كثيرةً ترعى حولي ، وتحبُّ أن أسقيها لتزدهرَ وتغني في المواسمِ .. ومع الأيام صارت عشيرتي ، التي أحسُّ أنني لا أتنفسُ إذا غابت ولا تبتسمُ إذا اختفيتُ .. الكتبُ التي أحب أشباحها ، أكلمها بحرصٍ ثم أدفنها في درجٍ بعيدٍ ، أراعي ألا ينغلقَ جيداً .. فيتسلل التراب ويغطي بصماتي ، الرسائلُ أدسها تحتَ الملابسِ والضحكاتُ تنام تحتَ المقعدِ ويجلس فوقها العابرونَ بذكرياتِهِم الثقيلةِ ..

أُخفي كلَ شئٍ وألهثُ آخرَ النهار ..

أبي مرتاحٌ تحتَ بلاطِ الصالةِ ويكلمني بعد أن يناموا وحبيبتي سِبْتُ لمستها الصادقة التي وقعت منها فجأة ، كي تتجمد وتظل تقول أحبك حتى تكبر وهي تظن أن الزمن هو الذي أرشدها في البحيْرةِ .. أصواتي التي تركضُ كلَ بَرْقٍ ، أَلُمُّهُم في علبةٍ أخبَط على قلبها فتخبرني بالوقتِ .. كأنني ثَبَّتُّ عقاربَ الساعةِ على الخوف ،

 

الخوفُ حبيبي ..

 

الذي دفنتهُ في قلبي

... وأغمضتُ عيني

 

واسترحتُ ...

 

 

إذن ، هي أحاديثُ بَيتِنا الذي تحتَ الشجرةِ

 

يا أصدقاء ،

تذكرونَ أننا تحدثنا كثيراً عن الملاكِ .. الذي وقعَ في الحجرةِ .. أو الذي تَشكَّل الحائطُ وراءَ ظهرهِ بحراً ،           أو استعارتهُ البنتُ وحبستهُ بين خيوطِ سروالها .. الخ . وتذكرونَ ،

كيف تكلمنا عن المقابرِ .. يومَ بَصَّت علينا من شُبَّاك الخَطِيَّةِ ، ويوم ضحكت لنا باسم الغَمْرِ ،

ونَقَرْنَا على ظهرها لتصفوَ سماءُ الراحلينَ ... الخ .

 

وتتفقونَ أن الوقتَ مناسبٌ لتزويجهم ، يعني نَعجِنُ الأَسْوَدَ بالأبيضِ وعينَ الربِ بسهمِ الشيطانِ .

الملاكُ الذي سكنَ التمثالَ المجنَّحَ ، هو من أطلق النفير في حُفَرِ القاتلِ وأقنعهُ بدفنِ حبيبتهِ هنا .. تحتَ القاعدةِ الشبيهةِ بالنورِ ، وعلى نفسِ مقاسِ البهاءِ .

القاتلُ شالَ مخاوفَهُ وعقلهُ أطلقَ النفيرَ في قلبِ الملاكِ : تركَ الدود ليحميني وسابَ بعمقي ما يُغَنِّي لنارِ الأرضِ ، وبرودتي ..

 

مهووسٌ ويحمل بلطةً لكنهُ يملكُ رقصاً في أصابعِ كفيهِ وفكاً يجيد الصيدَ وظلاً سيأتي كلَ مساءٍ ، ليفوتَ خطواتِ السَكِينَةِ ......

 

عندما كنا شباباً ..

كنا نرمي بالأسئلةِ إلى فوق و نتسلى بمراقبةِ الملاك الذي يتدرب على التقاطها ، واكتشاف كيف أنه ضَيَّعَ عمراً بقلبِ تمثالٍ رعديد يخشى أن يفكَّ من جَناحَاتِهِ ، شَبَكةً تناوِرُ الخَشْيَةَ ..

وعندما كنا نُقَبِّلُ فتياتِنا ، نسمع الجميلةَ السفليةَ تنادي     " لم أصدقه إلا بقبلاتٍ مثلَ هذهِ ، اهربي .. طيري من هنا يا مجنونة .. " وعندما متنا ، كنا نحب كثيراً شجار المحاربينَ الذين تُزيِّن ظِلالهم الدروعَ ، وأكاليلُ الغارِ تُثبِّتُ أحلامهم كي لا تزاحم الطيورَ .. الحَفَّارينَ الذين تَعوَّدوا على جرفِ الأصواتِ كي لا تَئِنَّ مشاعر العاصفةِ ...

 

إذن فلنستمر.. وندقَّ بصراً في الأحداقِ

ونفتحَ السِكَّةَ للنائمةِ هناكَ ..،

والسارحِ الأبعد من القسوةِ ..

 

.. نَدِّبُ برفقٍ ..،

 

عَلَّ ملاكاً

يذوبُ ،

 

قربَ

منطادِ

الهروبِ .... 

 

على الدوام ، بلا خبزٍ ولا نبيذ 

 

في النَفَس الذي بين آيةٍ و أخرى ، الكاهنُ يفتحُ طريقاً ، لأَزُقَّ جناً يُغنِّي ويبني مَسَلاتٍ وصحراءَ في صُرَّةِ الذكرياتِ ، ثم في مراودةِ العذارى للخرافِ ..

والنبيذِ و الأجنحةِ ..

أشدُّ الهواءَ ، حينَ انتقامِ رمشِ الخائفِ ، وأسحبُ من يمينِ المحبةِ صيفاً وطيناً وشَلَّةً من الكَذِبِ والأرواحِ ... أزرعُ الملابسَ دُمَىً ....

أعبثُ وأترك الظِلالَ عَرايَا

حتى يتنزلَ ربنُّا من على صليبِهِ

ويجربَ الرسمَ ثانيةً .....

رَبَّنا يا رَبَّنا

من أجلِ خاطرِ المشلوحينَ تحتكَ ... الزارعينَ خَدَّكَ الواسعَ .. كلما فاتت عليكَ الرعشةُ لا تنساني .. وسأعطيكَ أزميلاً من عَظْمِي وكلما شَويْتَ غابةً بنظرةِ قَنَّاصٍ ...

أنا النهارُ الطيِّبُ ، تَذْكُرْ ؟ ، الحاجزُ عن بَصَّاتِكَ العواصفَ .. الكدمةُ في حضنِ شيطانكَ الوديع ...   أنا خَدَّامُك... فاتكئ عَلىَّ وهيا لنمضي ..

أولادُكَ لن يوقفوكَ مرةً أخرى ..

وعلى صفحةِ الجدولِ

الديكُ يصيحُ

وبناتُ القريةِ يغنينَ :

 

يا نَسِيمُ يا نَسِيمْ

هل مَرَّ الأعرجانِ ..

هل فاتَ الأعرجانِ ..

يا نَسِيمُ يا نَسِيمْ ..   

 

 

الأرواحُ لونُها حزينٌ .. وقديم

 

في بلدتِنا تَلٌ ، يَقسمُهَا من محبتها إلى الأطرافِ ويسمونهُ " الكوم " . الولدُ يُفَجِّرهُ كل يومٍ ويَسُدُّ برمالهِ عيونَ الوحشِ المختبئِ في الشَهيقِ وتحتَ الوسادةِ .. الناسُ الذين زحفوا ببطءٍ وسكنوا فوقَهُ ، خافوا في البدايةِ من النجومِ .. التي لا تلقي كلامها عليهِ في الأعيادِ .. وبعد أن يناموا ، يُفضِّلُ المطرُ أن يُفْرِغَ ذاكرتَهُ في الممراتِ الوحيدةِ .. لكنهم أحبوهُ عندما أظهر لهم دفئَهُ في أحلامهم .. وبعدها أَعْلَمَهم بالخبيئةِ :

أغاني الرَحَّالةِ الذين ذرفوا دمعتين لأجلِ حبيباتهم المأسوراتِ والجوارحُ التي اختطفت الضحكَ الكاذبَ من فمِ الأميرةِ .. ذَهَبٌ على هيئةِ فلاحينَ في حدائقِ الفرعون .. تمائمُ وتماسيحُ .. قرابينُ وصمتٌ وحُفَرٌ و رقصاتٌ .. دبيبُ الولدِ الذي يصنعُ الطلقاتِ ويجري نحو أبعدِ بيتٍ في الناحيةِ ويقف فجأةً ، ويلهثُ ، ويَلِفُّ رأسَهُ ببطءٍ نحو النارِ التي تثيرُ الطبولَ وتفتح سماءً  في الليلِ .....

 

.. عندنا تَلٌ عجوز ،

كان يتمنى أن يكون مُصَوِّرَ أحزانٍ وينجبَ أولاداً وينطَّ على سجادةِ الهواءِ .. يبيتُ في غَبَشِ الصبحِ ويرنِّمُ بصوتٍ مجروحٍ ...

   

.. في بلدتِنا شَبَحٌ

يُكوِّمون عندهُ الذكرياتِ

ولهذا يسمونَهُ " الكوم " .....

 

 

القِدِّيسون

 

القِدِّيسونَ وحدهم في محطةِ القطار .....

لا تماثيلَ حولهم ولا صلبانَ ولا دموع ، لا تَطْلُعُ الحَمامَاتُ من أكمامهم ولا عُلَبُ البيرةِ ولا يفاجئهم حصانٌ كان يغني قربَ ساحةِ الملكوتِ .. كفوفُهم خاليةٌ من الأجنحةِ والصورِ المقطوفةِ من القبلةِ والأحضانِ وضحكتهم مكتومةٌ في الممرِّ .. ينزلونَ من الكتب على الرفِّ ، فيصعدونَ إلى جِلودِهم ،

ويرشفونَ ريقَ الربِّ من الأواني المسحورةِ .....

لم تعد للصناديقِ طاقةٌ لغنائِهم ولم يعد الهواء يحتفي بعظامٍ تفتحُ القبورَ وتصعدُ للذكرياتِ ... مخداتُنَا شلناها لشيطانِ الحظيرةِ وغفرانُنَا لم يعد له حائطٌ

ولو طالت وقفتُنَا أمامَ الشموعِ ...

لن نسمع بعد اليوم دبيباً يشدهم للحنوطِ ، إنهم في المطاراتِ وفي الأظافرِ وفي ملابسنا : تأكلهم الحسرةُ بأسنانِها وترفضهم بنوكُ الدمِ .. وعندما يَهِلُّ الضجيجُ ، يرقدونَ كالجنادبِ مرتعشينَ كالقَداسَةِ ..

المملوءين بالنوافذِ ، لن يشبهوا بقعاً في خريطةٍ ، ولا كوكباً في مشجبِ أرملةٍ ، بل سيظلون يُخبئونَ السماءَ

ويلبسونها كلما صَحَت

وكلما مرت بأقدامِهِم الطائرةِ

وكلما غارت

ظلالُ السعادةِ ...


 

من المرَايَا

يا الله ،

أنتَ أكبرُ من حقيبتي وكراسةِ الرسمِ العريضةِ وأطول من الدراجةِ والصالونِ ومن بلدتِنَا .. فلماذا لا تأتي إلا من السِكَّةِ المهجورةِ ولا تترك إلا ظلاً صغيراً ..؟

أنتَ أخذتَ أبي ، يقيمُ عندكَ ويغني معكَ فاترك أمي .. أو أقولُ لك خذ أمي واترك أختي حتى تُكْمِلَ حدوتةَ الأمسِ أو خذ أبي وأمي وأخي واتركني ..

 

أنا ، صَاحِبَك ....

 

سأختبئ منكَ وراءَ المقعدِ وإن تَسَلَّلتَ وأخفتني سأُخبرُ معلمتي كي تفتحَ كفها الذي تخفيكَ فيهِ وتهمس: دعهُ يكبُر يا رب ، رسائلهُ لكَ ستخلو من أخطاءِ الإملاءِ وسيُحَسِّن خطَّهُ ويكلِّمكَ بكلامٍ صريحٍ لكنهُ مؤدب ، سيحبكَ في الصباحِ وفي العواصفِ .. وإن أفلتَ لسانُهُ قبلَ النَوْمِ و شَكَاكَ ..،

سيشكوكَ فيك ..

يا ربُّ يا جميلُ

يا جميلُ يا جميلْ ... 

 

 

تعليقات