مسبحة من جمر في يد الأيام
مختارات من ديوان أناشيد ميونيخ
فواز قادري
صليب الشاعرالأرض، وحيث تصل أجنحة الطيور
ثمة مغيب قريب يغرق وجهي فيه
الإشارات دول وممالك
ومدن جاثية في الخراب
هذا آخر رحيل ومعي
قوافل من الذكريات والوجع
اجلسي بجانبي واشربي
ما تشتهين من النبيذ
هذا بستانكِ وهذه
العناقيد صالحة للمازة والسكر
ما اسم المدينة التي
تعرفنا؟
المدينة التي لقنتني
هديل الحمام
على جدرانها تركتُ
عيوني ترعى
هي الصليب أحملها
صاعداً إلى الجلجلة
ونازلاً إلى الهاوية
أنا الصليب تحملني
وأعفو عن يديها
الخشب الذي شرب دم
الألم
المسامير في لحمي
وتنزفني الصرخات
ميونيخ وسادة الأحلام
والكوابيس والأرق
توأم تلك التي تركتها
على الفرات.
الشاعر أخضر ويشتعل
ميونيخ تنسى أخضرها أحياناً وتشعلني
أذكّرها بالبعيدة
التي سكبت فراتها علي
قبل أن تتخشّب الجذور
أستغفرها بالزقزقة كل
صباح
كفرخ عصفور تائب عن
البكاء والحليب
ميونيخ تجمعني كغيمة
موزعة على جهتين
انسكب الكثير من
روحها هناك
وما تبقى يشبه بحيرة
من زرقة ودموع
أنا تلك الموجة التي
لم تغادر "الحصّيوة"*
ومازال حصاي هناك
يتلألأ في أيدي
الصغار
وكلما تذكرتها مررت
متعباً "بإيزار"**
جلستُ ونثرتُ رمال قامتي على شاطئيه.
*شاطئ على الفرات
** نهر يمر بألمانيا والنمسا
ما يشبه ميونيخ
الدير التي كتبتني وسكنتها بعيداً
ميونيخ التي أكتبها
وتسكنني قريباً
صدران حنونان
راودانني قبل ألف قبلة
القريبة وسادة الرأس وصرّة
الأحلام
والبعيدة ولادتي
وميلادي وحليب الفرات
متّكئي
وأنا أتلوّى الآن
ميونيخ سكن وجنّة
وأنا في هاجرة الغربة
كل يوم أكتشف فيها
زهرة مجنونة العطر
أكتبها وأصف عينيها
وأشرب ماءها
ليست الشجر ورفيف
أجنحة الطيور
ليست الأنهار ونوارس
البحيرات والأشرعة
ليست الطرق التي مرّنتُ
أقدامي عليها
وأطلقت وعول قصائدي
نحو الأعالي
هي كل ذلك
وهي المشرط الذي مر
على قلبي بحنان
أترك ظلالي هنا وأصير
هناك
أتبادل الهذيان مع
مدينتين تطوّبان رأسي
مرسومتان مثلي كخطوة
عابرة على الأرصفة
أنا منسيّ كدمعة في
عيون تلك البعيدة
وأنبض في هذه القريبة
كقلب كثير الخفقان
ساحدثكم عنها ليس
كعابر غريب
أو سائح مر صدفة فيها
ولا يعرف كيف يعود.
ميونيخ قبل فوات الأوان
اسمها "ميونيخ"
اسم قلب أو سماء
اسم شوارع تعبر القلب
واسم نهر يعبر يابستي
تخفق فيّ ولا أسقط من
سمائها.
اسمها "الدير" مدينة باجنحة وفراش
تظللني أينما أكون
أطير أحياناً فتصير
السماء
أهوي فتصير أرضاً من
رغوة وزبد
وسادة ليلي وديك
صباحي
أجنحة تتبادلها
الحدائق والطيور
سنوات وأنا أحاولها
بالشعر
مدينتان تفترقان في
المنتصف
دون إذن من المسافات
والجغرافية
وحين تلتقيان تتحد
القارات.
قصيدة ميونيخ
لم أتذكّرها الآن
من زمن طويل
لم نعد غريبين
يتجاوران بشكل عابر
بيننا أكثر من حرقة
النبيذ
جمعتنا العصافير
باكثر من أغنية
مثلما جمعنا الخبز
وشاي الصباح
وفرقنا اللهاث خلف
الحافلات
كنت أنتظر أن أفرغ من
طفولتي
حتى أصف الكثير الذي
بيننا
أحرسها حين توغل في
البرودة
وتتذكّرني حين أطفح
بالدفء والبكاء
قاسمتها مطرها الغزير
وقاسمتني جفافي
الفائض
أقرص يدها حين تتناسى
وتنبّه قلبي إلى كل
وجع طارئ
حين أمعن في الحب
والذكريات.
زمن نفاث
عبر الزمان فيكِ ميونيخ
وأنا نائم على جنب
واحد كالسيف
لا أجرح الأرض ولا
العشب ولا التراب
في الطبيعة ناعم كجنح
فراشة حالمة
مسبحة من جمر في يد
الأيام
أشتعل وأضيء وأخرس
العتمة
على جنب واحد
سنوات تشبه التابوت
أتنفس الحياة وأغلق
درب المقابر
لم يبق نخل فراتي
أستظلّ به
على طريقي سارت قوافل
بلا حاديها
تلتقط كل ما تناسته
الرمال
وما تساقط من أنجم في الليل.
خسائر
في وقت لا يصلح سوى للنشيج
أحلم كأنني لم أخسر
بلادي
ومع هذا
تركت نهر البكاء
خلفي
وقفزت جسر الخسارات
إليكِ
جمعت بين يدي ماءك
العذب قطرة قطرة
وسيّرتُ الغيوم إلى
نزيفها
سأدّخر لك النبع في
الرمضاء
وأجمع الأماني كأعواد
مبلولة وأشعلها
حتى تتشكل غيمة خضراء
على روحك
رغم المرارات أدون
سيرة عشقك
ولن أكون على حياد
ما دامت المدن تنبض
بالناس
أخلع سوادي وأتزيّا
بالخمرة والخبز
أحتفي بكِ وأدعوك إلى
الرقص في المآتم والأعراس.
تعليقات
إرسال تعليق