القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث الموضوعات [LastPost]

كلما رأيت شيئًا دورته بالخيال / نصر جميل شعث


كلما رأيت شيئًا دورته بالخيال

نصر جميل شعث


كلما رأيت شيئًا دورته بالخيال - نصر جميل شعث - بيت  النص


حتّى البكاءُ كان فكرةً،
وكان لعبة
في طفولتنا..
كنا عندما نبكي على أيّ شيء؛
نستدرجُ الدمعَ لشفاهنا
ونَتذوّقُه.

 
مرّةً نمتُ والعلكةُ في فمي.
في الصباح رأتها أمي معجونةً في شعري.
قصّتها وبكيتُ:
"صارت حفرة على رأسي!"
قبّلتني وقالت:
في الليل سيرى الناسُ على رأسكَ القمر.

 
إذا تكشّف ولدٌ في الليل، قالت:
اسم الله عليك، وغطَّته.
وإذا كشّف الولدُ عجينَها الصباحيّ، قالت:
اسم الله عليك، وغطَّته.
أيّها الشعرُ
يا سواد العين ومحيطها الأبيض،
نمْ قليلًا،
وتكشّفْ كطفل
في الليل.

البحرُ أوسع من اسمه في فمي،
ونظرتي إليه أوسع منه.
حدّثتُ نفسي بهذا
كسائحٍ نزل من سفينةٍ كبيرة،
وعالج غربته بإعادة النظر
إلى طائرٍ في السماء.

كلّما رأيتُ شيئًا دوّرته بالخيال،
والخيالُ يريدُ الأرضَ مستقيمة.
الخيالُ يجرح نفسَه بالحوافّ:
يُعطي الماءَ جُزرًا،
ويُعطي الأرضَ ماء.

يدُ الإنسان قصيرة،
يصلها بيدٍ أخرى أو بالسلاح.
يداي نظيفتان..
إنّما فتحتُ الحنفيّة
لألعبَ بالصوت.

الشلالاتُ الصغيرةُ
على ظهور الجبال
تجري وتصل..
رغم أنها عرجاء
كإمضاءٍ يَختلفُ قليلًا
عن نفس الإمضاء.

كم كسرْنا أسماءَنا في الصغر،
كم شوّهناها،
كم كرّرنا فتنة تكسير الأشجار،
وصناعة المتاهات بأيدينا
على أوراق بيضاء،
ونحن نتدرّبُ على إمضاء
يُميّزنا عن غيرنا في المُعاملات.

قد أعطيكَ الجسرَ
ويبقى لي النهرُ،
لكن لا أعطيكَ الطريقَ.
فأنا لا أمشي تجديفًا
على الزرع
الذي سقيته بنهري.

أسماءُ كثيرةٌ للسيف
ما تغلّبَتْ عليه.
أسماءُ كثيرةٌ للورد
انتشرتْ..
ولكن عندما نُحبُّ نُسمّي
الوردةَ وردة.

أُحبُّ الخريف،
يُوصِلُ الأوراقَ إلى العتبة.
أوراقُ الخريف
لا تذهبُ إلى البحر.
والخريفُ ضرورةٌ أمنيّة،
كالحرص على الكؤوس ناقصةً
لتأمين حملها.

أُحبُّ يدي
أُقلّبُها كرغيفٍ،
ولا أكفّ عن إلقائها في الهواء
كليرةٍ من ذهب.
وتحديدًا الآن،
أُذكّرُها بالجروح التي أكلتها
وهي تفتحُ المُعلّبات.

لو أصابعي على كتفِكِ
لحرّكَتِ القمحَ الذي في فم الملاك.
جرسُ الباب مُتخَمٌ بالرنين،
ما مِن إصبعٍ تُمرِّنُه.
ما يُعيدُ الأرضَ إلى قمحها
أنّ القلبَ يُجرّبُ في حُبّكِ كلّ وسيلة.
سقفُ أحلامنا عالٍ،
لدرجة أنّنا لا نستطيع رشّ قمحنا عليه
للعصافير.

ليس الغيابُ
أن يغيبَ القمرُ وراء غيمة.
الغيابُ هو
أن تغيبَ غيمةٌ وراء القمر،
وتمطرَ عليه ليلمعَ أكثر..
فيما الأرضُ هناك
سوداءُ وقاحلة.

الأرضُ وأنا
كلانا نمشي..
أنا عليها،
وهي على الهواء.
حين أحُكّ ظهري من أثر الريح
لا أعيقُها،
وحين تحُكُّ ظهرَها
تُعيقُ الجميع.

لأّني أُحبّـكِ
وصلتُ
إلى آخر نتوءٍ صخريٍّ
مكسورٍ في الماء،
كما لو أنه بارودةٌ قديمة
طواها الصيّادُ
ليُلقّمَها رصاصة..
فتأخّرَ القتلُ
قبل استقامتها دقيقة.

لديّ أخطاءُ
غير مقصودةٍ في الحياة،
مثلي مثل ميكانيكيّ
يَفرك يديه برمل لم تصبه بذرةٌ أو رصاصة؛
بعدَ إصلاحه سيّارة
ستقلّ عائلةً خارجَ الحرب..
ثمّ يغسلُهما بالماء وصابونة بيضاء
وضعها على الحجر،
ونسي أن يغسلَها من سواد يديه.

من الأشياء الثمينة
على الرفّ:
ساعةُ يد أُهديتْ لي من زمنٍ بعيد،
وكلّما نظر إليها زائرٌ بطمعٍ
قلتُ له بخوفٍ:
لهذه الساعة قصةٌ طويلة،
ليس عندي وقتٌ لأقصّها،
فهي الآن واقفة.

مطرٌ على الشارع بعد الجفاف،
والسيارة الواقفةُ بالعشّاق مشَتْ
كاشفةً للعين نصيبَ الشارع من الحرمان..
نصيبُ الشارع من السيارات كثير،
كنصيبي من التفاحات
أشتريها من السوق،
وخطأً أظنها من شجرة واحدة.

في داخلي شخصٌ عارٍ
كلما مات عزيزٌ جرى إلى الغابة،
وتلفّت كابن وحش.

الغزالةُ
أسرعُ من الوحوش،
لكن مأساتها أنها تقفُ
في كلّ لحظة
لتلتفتَ وراءها.

سنجري في الحياة،
بحسرة غزالة
رأت صغيرتها بين أنياب الوحوش،
ولم تدر من ألمها بأنها
سبقتِ النهر
الذي لم تشرب منه.

على قبره شجرة مثمرة،
لأنّه مات وفي جوفه خطأٌ طفوليٌّ أخير:
أكلَ الفاكهة بنواتها.

أنا فاكهةُ الأرض،
شهِدتُ غسلَ الكثيرَ من الموتى.
ومرارًا اسْتجبتُ
لصرخة الأمّ عليّ:
اغْسلْها
قبل أن تأكلَها!


تعليقات