بــــيــــــــــــــــــــــــــــروت
صوت الشعر لا دويّ اللحظة
(مختارات من الشعر اللبناني المعاصر)
إعداد وتقديم : عبد الوهاب الشيخ
لا يمكن الإحاطة بالأجيال الشعرية اللبنانية المختلفة . لبنان راعي الحداثة
الشعرية بدءا من جماعة شعر وأقطابها : يوسف الخال وشوقي أبو شقرا وأنسي الحاج ، مرورا
بالجيل التالي من أجيال قصيدة النثر ممثلا خاصة في : وديع سعادة وعباس بيضون وبسام
حجار الذين كان لهم الدور الأكبر في ترسيخ قصيدة النثر كشكل فني يمكنه استيعاب
النزوع الحداثي لدى الشعراء الشباب في لبنان وغيرها من الأقطار العربية.
تلا جيل التأسيس الثاني أجيال عديدة معرفتنا بها في مصر أقل لولا ما أتاحته
ثورة الاتصالات فيما بعد من نصوص عبر شبكة الإنترنت . ورغم بزوغ أسماء كعيسى مخلوف
ويحيى حسن جابر وعبده وازن ظل الحضور الأكبر لجيلي التأسيس المذكورين سالفا . أما
الأسماء الأحدث التي شكلت صفحات التواصل الاجتماعي بالنسبة لها فضاء للكتابة
ومساحة أكبر للانتشار فقد مالت للتكثيف
والاختزال كما نجد في شعر سمر دياب ومحمد ناصر الدين وفيوليت أبو الجلد ، مع
الالتفات أكثر إلى ما هو هامشي نثري واستخراج طاقته الشعرية الكامنة وحفاوة أكبر بتفاصيل اليومي والمعيشي في استجلاء
حسي لا يخلو من نزعة روحية خفية ، حيث يقول محمد ناصر الدين في أحد نصوصه :
أما دارين حوماني فتنحاز في قصيدتها للون من التأمل
الشفيف لذاتها ولعناصر الكون من حولها ؛ فترى حياتها موضوعا لقصيدة لا تعرف إلا
الصمت لكنها تحكي حين تحكي عن الشهوة ،
هكذا ستتبادل الحياة والشعر الأدوار كثيرا في تلك النصوص التي ليست سوى نطف لغوية
في فعل خلق موازٍ يجترحه الشاعر واعيًا أو غير واعٍ لذلك .
في حين يجمع ربيع شلهوب بين انضباطه التفعيلي وحرصه على
التقفية ورؤية تليق بالنثر تغلب عليها في كثير من الأحيان روح سوداوية ، فما القصيدة في رأيه إلا فرصة سوداء يجمع
عبرها أزهار شروده قبل أن ينهشها الكون تمامًا . وعلى النقيض من أشعار محمد علي
شمس الدين وشوقي بزيع ستلوح الحرب من بعيد لا كآية للصمود ولكن كانعكاس لجنون
البشرية وعدميتها .
وفي منحى سيريالي توظف رنيم ضاهر نصها كمرآة تعكس ما حدث
ملتفتة إلى الصوت والصدى الذي يتردد بأعماقها عاجزة عن التخلص منه :
بينما يعول باسل الأمين على الحب كثيرًا فيشبِّهه بمعطف
دافئ يرعى أرق السنين ويجعل منه الجدوى الوحيدة في عالم يشرق من فوهة بركان ، لولا
ذلك الحب لصار الأمل فيه مجرد قبر آخر .
أما حنين
الصائغ فستعيد تمثيل العالم وتستدعي الآلهة والشياطين بداخلها فالمعركة واحدة
والعالم الخارجي ليس سوى حفنة تفاصيل ، وكل نص جديد تكتبه يشبه سقوط حائط أو بزوغ
نجم . لا معنى للاتجاهات لديها فالطرقات جميعها خيطان في ثوب القدر لكن سيظل الحب وحده
هو ذلك الضوء البعيد الذي يزهر بسطوعه القلب .
ومن
خلال رؤيتها للشعر كوسيلة للتعبير عن هواجس الشاعر وما يحس به من مشاعر القلق
والضجر والحب والحياة ستتأمل ملاك مكي الواقع بلا دهشة ودون أن تلفتها حركته أو
سكونه. كذلك يرى محمود مكي أن دور الشعر هو إلقاء
الضوء على الحوادث الواقعية والمتخيلة بشكل بسيط ولماح ، وستظل الكتابة من وجهة
نظره فعل وجود من دونه يفقد الشاعر بوصلته
، تلك الكتابة التي تتكون من كلمات تتابع في أسى تمتزج عبره انكسارات الشاعر
وإحباطاته وأحلامه .
ثمّ ابتعدْ.
هكذا
تواصل الأجيال الشعرية الأحدث في لبنان ما بدأه أسلافهم من انحياز لجوهر الشعر لا
شكله ومسمياته ، وتستعيد نصوصهم حيوية الموجات الأولى لقصيدة النثر دون أن تقع في
أسر التقليد ، ودون أن تجعل من تنظير السابقين إطارًا فاصلاً يحد من طموحهم إلى
التجديد والمغايرة . هكذا تولد القصيدة شكلاً ومضمونًا من خلال اللحظة الشعرية
وموهبة الشاعر ورؤاه الجمالية وحدها ، لتكشف عن ذائقة شعرية مختلفة لا تنفصل عن
جذورها القريبة تمامًا ، لكنها تتجدد باستمرار من خلال مقاربة الواقع المتغير
وسؤال الذات التي تتعدد بتعدد الشعراء .
الشّعرِ.. صرخةُ بيروتٍ المدوّية
بالألم!
مريم جنجلو
عن جديد، تجلسُ عروسُ المدن القرفصاءَ عندَ
نهرِ الموت، تغسلُ بيدَينِ مُتعبتَين ثوبَها المطُرِّزَ بالرّصاص وَالدّم. من جديد،
درّةً الشرق ودمعتَهَ التي لا تجفّ، تقتفي أثر الغائبين بشمعةٍ وَصلاة مكلومة.
ثلاثونَ عامًا وَبيروت لم تسترِح من الحُزن،
ثلاثون عامًا والحُزنُ لَم يرتَوِ من شبابِها الغضّ.
كثيرًا ما أتساءل: ماذا يريدُ الحزنُ من
المُدنِ الجميلة؟ ما قد يكفيهِ ليَفرغَ من صنعِ منجلِه الأسودِ بعظامها؟ أيُّ
هوَسٍ يدفعُهُ إلى تخزينِ رائحة الموتِ في بيوتِ مؤونتِها وفي رؤوسنا؟ نحنُ حمّالو
أسمالِ الذاكرة وكنّاسو ملحِ الوداعات عن وساداتنا ومآقينا.
قبل الحُزن بأعوام، كان لِبيروت كلامٌ كثيرٌ
تهمسُه لنا لنقولهُ شعرًا، شبابيكُها الملوّنةُ، طرقاتها الوادعة، أشجارُها
الصابرة، صباحاتٌ هانئة ليلُها مكحولٌ بِنسيم بحرٍ لا يتعبُ من تلقّف أماني
المارّة في قلبه الأزرق الهائل. اليوم لديها شكوًى كثيرة تكتمُها وراءَ كمّامةٍ من
الخوف، خوفٍ من المرض، من الاعتقال، من الصراخ في وجهِ الظلم والطمع.
بيروت الملكةُ صارت اليومَ سبيّةَ سلطويّيها،
تحتمي بِصولجانِها الماسيّ من صدأ القيود، تمسحُ بردائها النبيذيّ دموعًا خفية لا
تريدَ لهم أن يرَوها، فالملكات لا يبكينَ ولا ينكّسنَ رؤوسهن لئلّا تسقطَ
تيجانُهنّ في بئرٍ معتمٍ وتنتهي بها الحالُ بين أيدي تجار الهزيمة يفكّكونَ حليَها
ويبيعونها في أسواق الطمع السوداء.
ماذا بقيَ إذن من الثوبِ الملكيّ الممزّق إلى
أشلاء على جسدٍ منهَك؟ ماذا قد يعني التاج المرصّع فوقَ رأسٍ مطأطىءٍ من التعب؟ لا
شيءَ سوى الكلمة، اللّون وَالموسيقى.
في ديوانه (رحلة إلى الشرق 1832-1833) الذي
كتبه ألفونس دي لامارتين في لبنان، لا يخفى على أحدٍ ولعُ الشاعر والروائي الفرنسي
بأجواء الشرق التي حرّكت داخلهُ التّوقَ إلى الراحة بين ضلوع الأشجار وعلى أكتاف
الزهر والهضاب اللبنانية، حيث خطّ أروعَ ما كتب في حياته هنا، في بلادنا.
لقد دفن لامارتين قطعةً من قلبه في بيروت،
ابنته جوليا ذات السنوات العشر. وكان عليه أن ينتظر قدوم الربيع ليتمكن من العودة
إلى بلده، فترك بيروت وراح يطوف في آثار بعلبك مرورًا بقرية "حمانا "،
في حين عكفت زوجته الثكلى على زيارة الأماكن المقدسة في أرضنا.
أرضٌ كهذه تسكنها قلوب الشعراء وَصلواتِ الأمهات،
ابتدعت اللّونَ من بحرها وأرصفتها وأحراجها، اجترحت النّغم من استفاقة عصافيرها
وضحكات أطفالِها ورصّت الشعر دروعًا من أنفاسٍ حرّى في مقابلة متاريس الحروب
والأزمات، لا يمكنُ لها أن تموت إلا إذا قصّ السواد أجنحة الخيال فيها وتمكّن من
الوصول إلى قلبها واقتلاعه، وهذا ما يستحيل حدوثه طالما أنّنا شعبٌ يتذوّق الفنّ
بأصالةٍ ونَهَمٍ إلى الجمال من معينٍ صافٍ اسمه حبُّ الحياة.
أيها الشعراء، يا راتقي الصدوع من بين أضلع
الوقت المرّ،
دعونا كلما رأينا الأمل صغيرًا، خائفُا
متكورًا على نفسِه، نفردُ أطرافَهُ الطريّة بطمأنينة ونلقي بكاملِ جسمهِ على
صدورنا. ذلك هو المنفذ الوحيد للصراخ الجاثمِ فوقَ سمائنا، أن ننشدَ صراخَنا شعرًا
ونعلو به ليسمعَهُ العالم ويلتفتَ إلينا بدلًا من أن نتركَه الشرّ يَهوي بلبنانِنا
إلى هجعة المقابر.
ليِبقَ الشاعر اللبناني فينا إنسانُا يلبسُ
قلبه خاتمًا بين أصابعه ويديرُ به دفّة الشمس عكسَ الظلمة، حيثُما يريد أمراء
الموت لِبيروت أن تغرق. بيروت الحبكة والمشهد واللغة التي لم تنتهِ بعد.
مـاذا
أقـول لــكـم يـا سـيّـدي وأبـي .. وأنـت أعـلـم بالـحـدِّ الّذي ارتسما
دارت تـدور عـلينا ألـف غـاشـيـة .. من الظّلام وقلبُ
الفجر ما انهزما
تـعـلـو
بنا الـشّـمـس حتّى أنّنا علـمٌ .. ويهبط الليل يـمحو الــظّلَّ والقدما
فـاهـدأ فـديـتـك إنّـا هـادئـون هـنـا..
سـيـّان من حملَ البلوى ومن سـلما
جاؤوا مع الرّيح لكنَّ المدى عجبٌ
.. يـبـنـي ويـهـدم ما يبني وما هـدما
ما زلتُ أصغي لخطوٍ في منازلهم ..
كأنّهم لم يـمـوتـوا بل رأوا حُـلـمـا
(محمد علي شمس الدين)
بلدان غريبة
هناك بلدان غريبة تنبت خلسةً في رأسي
بلدانٌ تستيقظ من ليل طويل وتفرك
عيونها
بدهشة أعمى وحيد من سنوات
وصلَ فجأةً غريقٌ إلى ساحله
وأتخيَّلُ أني رأيتُ علامتي
في الحُفَر التي تركتها البلدان بعد
رحيلها، وهناك
أيامٌ أصل إليها على حمَّالة
ومقاهي المدن جميعها تقريبًا في فمي
وفيها رعاة بقر
ورغم أني نسيتُ معطفي على كرسيّ
المقهى
فإني مع ذلك أرتديه الآن في الشارع
والمطرُ كلمة خرافيّة
والأمكنةُ تعني: مغول ورائي
ولأني طردت نفسي من جنَّة الكلمات
إلى صمت يقف في منتصف الطريق كيدٍ
مبتورة
أحاول أن أتملَّق بالإشارة عودَ
كبريت
مترددًا بين أن يضيء أو يبقى في
علبته
وبينما يصل إليَّ إيقاعُ الحياة من
بعيد
كأصوات طبول في أفريقيا
أتأمَّلُ المدن التي مات جميع
سكَّانها بالصبر
وأتابع الطريق
عابثًا بزرّ قميصي.
(وديع سعادة)
سوق الدم
أكتب قصيدة بلا دم ولا أزهار. حين تكون الجثة
منصوبة على السهل، حين نجمع كسر رجالنا بعد العاصفة، نجد القلب ما زال يُعصر،
القلب ما زال يُعصر. الكتف تختلج كالسنبلة والقامات الصلبة التي تدحرجت كأنغام
كبيرة من الجبال تتحول إلى شظايا قانية، ودم فوار.
حين ننقب في الأرض، نجد فتات رجالنا يجرح لهاة
الأرض، والتراب يعرق من مضاجع القتلى، بينما تتفصد الينابيع الواسعة من الجراح
الغائرة.
الهواء يجدف هادئاً على المرتفعات والسفوح،
والجثة تسافر في غبرة حديدية بين شرطة وعربات تستقبلها النساء بعيون واسعة،
وقصيدتي تندس بينهن، تمتلئ البرك إلى حافاتها بخفقة قلب، وتلذع جُنوب النسوة أمومة
مذعورة، وترق الأرض تحت الجثة المرشوشة بالرصاص، بينما يجلل الحزن القرى كقميص من
حديد. ويحوم الهواء مسلحاً على رأس السرية والحرس.
تنضح أوراق
النقد دماً، ووجوه الصيارفة كوجوه الدُمى. وعلى الباحات والسلالم يُنصَب سوق الدم
القطرة مقابل الرصاصة. والقلوب تنتفخ وتعمل كالفَعَلة.
تسقط قطرات على نجوم القادة، فتكتهل وتسقط على
الأرض بلا مجد، بينما ينزف القادة رصاصاتهم في المباول. لكن القطرة تنزل أيضاً على
قلب الجبان وفم الأخرس، والأمن الذي يطحن قلوب الأطفال.
يا علي نحن أهل الجنوب، حفاة المدن نروي سيرتك
على أصفى البرك والأودية.
إن حطام أبنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح، ونحن نرى
ذلك بصمت.
تسقط كل صبيحة بندقية على الجبل، ونحن نرى ذلك
بصمت، لكننا ذات يوم سنوجه سكك محاريثنا إلى قلوبهم السمينة الفاجرة.
(عباس
بيضون)
سماء مقفرة
تحت هذه السماء
لا أسمع حفيف نسمة
ولا هديل يمامة !
لا أسمع رجع صوت
ولا وقع خطى!
الحقول أقفرت
النايات هاجرت
والرعاة أزفت ساعتهم .
تحت هذه السماء
الأطياف متشابهة
كنجوم الأمس
السأم ينزف وردته
والانتظار شجرة
من عرق ودم.
(عبده
وازن)
ويسكي
لهذا الليل الحنون
في السهرة الماضية، كنت قد رأيت النادلة نفسها
خلف البار، وكانت حينها تضع ربطة الشعر البرتقالية نفسها. وكانت قد دهنت وجهها
بمسحوق طيني اللون تكفّل بإخفاء الاسوداد تحت عينيها والبثور التي تنتشر فوق أنفها،
وفي التجاويف التي تفصل بين انفها وخديها. وكانت الابتسامة التي ترسمها على ثغرها
هي نفسها. تلك الابتسامة التي تتقن اصطناعها كلما نظرت الى زبون أو نظر زبون اليها.
في السهرة الماضية كانت الحانة كما هي الآن.
مضاءة بضوء خفيف. موسيقى صاخبة تنبعث في جنباتها، يختارها شاب لا يتوقف عن كرع
الويسكي الذي يقدم له مجانًا. لا وجه له. رائحة الدخان المنبعثة من السجائر ومن
أفواه المدخنين تضحي أكثر حدة، رويدًا رويدًا. الأفواه التي تضخ سوائل نحو الأدمغة
منشغلة عن الأنوف تلك التي يتوقف عملها في تلك الآونات. فرائحة دخان التبغ
المشتعل، ورائحة الطعام الذي يحضر في المطبخ، ورائحة الكحول المتسربة من الكؤوس
ورائحة هواء سهر البارحة وروائح الأجساد، رجالا ونساء، جميعها ممزوجة في فضاء
الحانة الكئيب والنشط. ومع ذلك فإن السهرة تسير على خير ما يرام، لا وقت للتنشق
الآن.
أطلب كأسًا. النادلة تعرف كأسي. جاك دانيلز وثلاث
ثلجات، لا يضير لو كانت ثلجتين، مملوءة أكثر بقليل عن كؤوس الزبائن الآخرين.
النادلة تعرف انني أكرع كأسي كرعًا، وتعرف أنني لا أشري كأسي الا مملوؤة حتى نصفها.
لا تنظر إليّ ولا أنظر إليها، فهي لا تراني وأنا
لا أراها. أنظر في كأسي، وهي تنظر في حياتها الكئيبة التي ما أرادتها على هذه
الحال.
كأسي تتناغم مع الضوء الخفيف الذي تبصقه
لومبديرات ملصوقة على جنبات الجدران. مضاءة الكأس بذاك النور الخفيف، وكأنها
منشغلة عني، أنا محوّل ما فيها إلى أفكار. جرعة أولى وجرعة ثانية وجرعة ثالثة والكأس
الثانية والكأس الثالثة. يا إلهي ما أطيب الويسكي. ماذا كان ليكتب النفري لو كان
يعاقر الويسكي؟ ماذا كان ليكتب هنري ميللر بلا ويسكي؟ أتساءل ووجهي الى الطاولة
ملّ كونه ملحقًا بعضو محمول على الأكتاف. الوجه يريد الزحف الى القدم، يتنقل بين
الفخذ والركبة، أحدس هاذيًا.
محمد أبو سمرا في ذهني. أريد أن أتصل به كي أطلب
منه أن يتبناني، يعجبني أن يكون محمد أبو سمرا أبي. فادي توفيق يحضر ويغيب كما
ينتقل الممثلون في فيلم "ستار تريك" من مركبتهم إلى الكواكب المفجوعة في
المجرات. أتتصل بفادي توفيق؟ يا للوحشة.
النادلة تتناول اسفنجة زرقاء تمسح بها البار
الخشبي، تمررها تحت الكؤوس وفي المساحة التي مسحتها قبل قليل. ترمق أصابعها كأنها
تراها للمرة الاولى. بهدوء وحزن وانتظار طير خرافي يحملها فوق قصر السحرة، تتأمل
أصابعها الذاهبة والآيبة فوق الاسفنجة. يا لسوء حظ النادلة أنني زبونها، أنا
الحائط المدكوك دفعة واحدة.
ويسكي لهذا الليل الحنون كما يقول يحيى جابر.
ويسكي لهذا الليل المجنون، ويسكي لي أنا.
(فيديل سبيتي)
الثلاثون
البارحة ، قلت حكمة عابرة، فانتبهت
إلى أنني أصبحت فوق الثلاثين وهذا يعني أنني في الطريق إلى الأربعين. وبعدها إلى ... !
لا أريد الحكمة
أريد العودة إلى بلاهتي الطيبة
إلى أسئلتي الأولى.
كيف تدور الأرض ولا ندوخ؟
مهبل المرأة بالطول أو بالعرض؟
وأين تذهب أرواح الشهداء.. !؟
(يحيى حسن جابر)
واحد من هؤلاء
واحد ممن يغمضون عيونهم
ليروا الشمس
في الداخل
يرمون شباكهم
في مياه الحلم
يبتسمون
لابتساماتهم
في الظلام
يَحْبون إلى النوم
لينهضوا في الصباح
كالأفراس
واحد من هؤلاء
بوذا
وهولاكو معاً
(جاد الحاج)
غرفة الخادمات
جدران متقابلة في مساحة مستطيلة وضيقة. طاولة
وكرسي وسرير .
لوهلة تظن أن كل شيء هنا. الرطوبة بمقدار ما
تحتمل والضجر أيضًا .
لكي تشغل نفسك ترتب السرير، تدفع الكرسي في
اتجاه الطاولة. تفتح كتابًا وتتركه، بمفرده، هناك. تصنع لنفسك قهوة. ويبقى لك في
اللحظات المقبلة, حين تضجر، أن تصنع لنفسك القهوة مرة ثانية. إذ لا شيء يمنعك من
استخدام الوقت كما تشاء. فالأشياء جيدة هنا. والوقت أكثر مما تظن. لكن النافذة
ليست هنا. أعني ليست على هذا الجدار أو على الجدار المقابل. ليست على الإطلاق .
غدًا سأخبر العجوز جارتي أنني في حاجة
لنافذتي. وأني بدل الكوة التي في السقف، أريد نافذة ودرفتين وأُصًّا للنبات. وربما
سحابة وطرف مبنى مقابل وعابرين بثياب الشتاء الداكنة.
(بسام حجار)
فقاعات
فُقاعات
فقاعاتٌ،
قُبُلاتُ
ماء،
تتعالى
من تلقاء نفسها
وفق
مزاج الهواء.
صورةُ
ما يمكن أن يكون،
بشفافيته
الساحرة،
من
دون أثقال العناصر والمحيط.
فقاعاتُ
تجربةٍ من دون كلفة،
حروفُ
ما يتسللُ في النَّفَس
من
دون جملة واحدة...
ذلك
الكيان المتلاشي في عذوبته،
مثل
قبلةٍ، لا لأحد،
وإنما
لمجرد تدريب الشفتَين
وتمكينِهما
الدائم من الشهوة المتطايرة بدورها.
فقاعاتُ ما يَبحث من دون دليل،
من
دون سبيل،
ما
يصلُ من دون بلوغ،
في
ذلك التهاوي،
في
التلاقي الخفيف،
في
نسيمِ ما يتمايل في الارتعاشة،
في
انجذابِ الرذاذ إلى الرذاذ،
ما
يتناهى من شفةٍ إلى شفة،
في
ذلك الشبق الكوني،
في
هنيهاته الرقيقة،
من
دون قصد.
(شربل داغر)
(1) الهواء
كان الهواء ثقيلاً هذا الصباح،
ثقيلاً في صدره، وثقيلاً في الشارع، وخلفه، يصطدم بالأجسام والعربات والأعمدة.
توقّفا : هو والهواء، كأنهما أمام جدار سميك. فتح فمه وصرخ : شقّتْ صرخته طريقاً
صعباً وضيقاً، فأكمل سيره تاركاً الهواء وراءه .
(2) يهرم خلف الزجاج
يجلس وينظر من خلف زجاج المقهى إلى
الشارع ويهرم ببطء. لكن المشكلة أن المارة يسرعون أحيانا أكثر من اللزوم. لهذا
يسحب الجريدة المطوية من جيب الجاكيت ويفلشها أمام عينيه .
(3) الخلود
قُتل المحارب بعدما أبلى البلاء
الحسن . دفنوه مع حصانه وسيوفه وأوسمته وجراحه .
في الذكرى السنوية الأولى لوفاته
ذهب صديقه يزوره حاملاً باقة من الزهر، فوجد قبره مغطى بالذباب الأخضر.
(بول شاول)
حُلْكة
كنّا داخل سيارة
ثيابُها القليلةُ تموء
المقعدُ متأوّهٌ من حنانِهِ
في الخارج
منارةٌ ساهرةٌ في ماءِ الانتظار
لهاثٌ مهلِكٌ بحرارتِهِ
الرذاذُ المتهالكُ لم يحتمل غيرتَهُ.
جسدُها العارفُ كان منارتَنا في الميناء
المساءُ المتراخي من عينيها رتّب أحلامَ أيدينا
وحُلْكةُ جسمِها أشاعتْ توسّلاً في الجوار.
كانت تفترّ في غموضِ صمتِها
وجسمُها يزيح غبشاً عن القلب
صفاؤها كثّف صيفَنا النزِق
ضحكتُها عطّرتِ السوادَ المبدَّدَ بنزولِ القمر
والشارعُ المثخنُ بالزوّار انضمّتْ إلينا أشجارُهُ جوقةً من
الجواري.
كانت عميقةً كغموضِ ما تضافر من يديَّ
يداها أعجوبتانِ وترفعانِ الغريق
زورقُها يجعل وطأتَها ليّنةً كبحيرة
لم أعرف ضوءَ ها إلاّ حين نزلتْ أعمقَ
حكمةُ جمرٍ حين أطبق على مأواه
الأشياءُ المرتَّبةُ انسحبتْ الى أحوالنا
في غيمةِ وجهِها
تبدّد هولُ السماءِ
أضواءُ الشارعِ زيّنت القناديلَ بحميّاها
الواجهاتُ انحنتْ
كان المشاةُ يرسلون وشوشاتِهِم
شظايانا انسدلتْ على المرآةِ المتأوّهة.
المراكبُ التي تاهت في بحرِنا عادت تهتدي الى بحرِ الميناء.
(عقل العويط)
سوء تفاهم
في قلب الليل
همسات صراخ مخنوق
تحكي قصّة الحياة والموت
على شفير الشفتين المنغلقتين
أمام أبواب الصمت.
سواد الليل حالك
كعيني الذئب
قبل أن يبتلع النجمة
إقفل فمك
قبل أن يتحوّل فحمة حقد!
في الأوقات الحرجة
لا تدري إذا كنت قمراً
منسيّاً وراء غيمة ملبّدة
أو عناقاً لم يكتمل
أو وجهاً آخر
لحلم هارب.
بين الكلام والكلام عزلة أميال
بين العناق والعناق فراغ الوحشة
بين السماء والأرض سوء تفاهم
في حجم الكون.
(ندى الحاج)
على بُعد شمس
عينكَ ذهبٌ يا هذا وعيني يباب
ابتعدْ كي تراني من عُلُوِّ يومي
سلسلةَ جبال حُبلى بالبرتقال.
ابتعدْ كي ترى كيف وأنا أنام
يسودّ الكلام على جلدي،
وكيف أحلامي تتدلّى في الأُفق
كالجليد من النوافذ.
ابتعدْ كي ترى
أنّ البحر دمعة في عين الشمس،
وأنّ زُرقتي المُظلمة والبلا قرار
لا كلمات ولا أيدٍ تبلغُها حيّة،
وأنّ العصافير التي تُخلّفها دعساتي
فهي لفرط الصمت
يمتلىءُ خيالي بخيالها.
ابتعدْ
فأنا حين أشتهي البحر
كلّ شيء يغدو رمليّاً فيَّ،
كلّ شيء.
(آمال نوار)
بروميثيوس الجديد
لا أعرف أحداً وأنا صاعد الى
الطوابق العليا
ولا يسألني أحد عن السلام الذي
يُصنع في ورشٍ للدهان
فقط
السيريلانكية، يوم السبت، تضحك لي ولامرأتي
"مستر، بدي واتر للدرج"، ثم تأتي برفيقها الى حفلة البخور.
لا
أعرف إلا اليمامة الصغيرة، زائرتنا في كلّ الفرص، وهي
التي
كسرت باب الكلفة بيننا، وراحت تنظر بعينين سوداوين
إلينا
من دون أن تبتسم أو يعلو ضحكُها لمرآنا ونحن نلوّح لها
ساذجيْن،
طائريْن من المفاجأة. وهي تستغلّ ذلك، وتزيد
التنزّه
أمامنا على الدرابزين الحديد.
لا
نعرف أحداً. نسمع شجاراً أحياناً، وبكاء
أطفال، ووقع أقدام
لنساءٍ،
على الأرجح، يُعِدن تنسيق الأحلام لتطير أو تعبر،
على
الأقلّ، الطابق السادس، ومنه الى أول غيمة
عابرة.
لا
أعرف أحداً. هذه لازمة تنفع لقصيدة
بروميثيوس
الخالية
تماماً من الصخور أو المثاقيل التي حملها، لزمن بعيد
جداً. بالكاد أعرف الجواب عن المساء الهابط
ورذاذ
المطر العجيب النازل، ههنا، كسائح أجنبي.
ربما
أعرف غداً، وأنا صاعد، بلا عضل يُذكر،
إلى
حلُم البناية
الأعلى،
ثم
أهوي.
(أنطوان أبو زيد)
لم أرتكب ما يكفي
علقتُ سهواً في الحياة
ورغماً عني
ولكي لا أقع من حافة الضجر
نذرت يديّ لأغلاطٍ حميمة
ولم أكن يوماً واهمة
أحببتُ وأغلقت أبواباً كثيرة
لئلا أهب أحداً غيابي
تعمدّتُ أن آثم
لتكون لي ذنوبٌ مستحقة
سرتُ طويلاً في صحبة الظل
وطويلاً أغويتُ الملذات
ما رأيتُ سراباً إلا تبعته
ما صادفتُ ناراً إلا أخذتني
لكنّي لم أرتكب ما يكفي من الأخطاء
وسيمضي وقتٌ طويل
قبل أن أبكي كما يجب
سيمضي وقتٌ طويل
قبل أن أعرف
كيف
أفسد
حياتي.
)جمانة حداد(
الحنان القاني
مقلتاي عرين الدهشة
وفي ابتسامتي عِصْمَةُ الصَّولجان
أنا الكمان المعلَّق
بين خلجة الروح
ونبضة الوتر.
بين يديك ارفعني
بقوَّة الرهان الأخير،
بحنانك القاني خضِّب
مروج الطفولة الخصبة،
أَتْرِعْ جرار البرهة
بخمرةٍ دَفْقُها الأزل.
إلى الأسطورة
أَحِلْ حدود ثغري،
اخترع لمحيّاي
أفقًا ناصعًا كالقيمة.
احملني في صدرك
كلذَّة السرِّ
بروضته تلوذ
كلَّما ضاق بك الحنان،
وارِني بين عظامك
لُغزًّا متوهِّجًا بالخرافة
ربيعًا يتسلَّق شرايينك.
إلى سكينتك خُذْني
عند كلِّ فجرٍ
أُرشُفْ من ذكراي مَطَرَها
واسِ بدفئها صقيع الروح.
أصْعِدني إلى ذروة انتظارك
اهزمْ بأشعة هُدبي
أباطرة القسوة،
اغسِلْ بعذوبة قلبي
كونًا مرجومًا بالضباب.
هناك هناك انتظرْني
في مساءاتِ الزمن الآخر
حيث تُصاغ الأعمار الجديدة.
انتظرني هناك هناك
على ضفاف المطلق،
هناك احتوِني جميعي
اهزُجْ معي ظَفَرًا
بلقاءٍ محصَّنٍ بالأزل
بالحريَّة المعجونة باليقين.
(حنان عاد)
هدايا
صوتُكَ
لأُردِّدَ مع صداكَ:
أُحبُّكَ
عيناكَ
لأراني دونما مرآة.
لئلاَّ أنكسرَ
أنفُكَ وكتفاك.
قامتُكَ
لئلَّا أنحنيَ لأحد.
كي لا يغتربَ في سريرِنا قمرٌ
شعرُكَ
رموشُكَ
شامتُكَ،
دفءُ يديك
لألمِسَ روحي.
لأُودِّعَ قسوتي
قلبُكَ الذي ليسَ حافَّةً.
خطوتُكَ على الأرض
ليستحقَّ عودتي ترابُها.
(سوزان عليوان)
اتجاه
لأنني لم أعد أميّز بين الخطأ
والصوابْ
أكتب دائماً وكأنني أعتذرْ
وأرى وجهك ابتسامة ودموعاً
ليس
ما يقهرني هو الحنينْ
إنما
الجهل بأصول القبلة الأولى
هكذا
يا مريمْ
رجع
الحمارُ برسن جميل وأذنين قصيرتينْ
بينما
السهل يموجُ بالحشائشِ الخضراءْ.
(محمد العبدالله)
جميلة هي الأرض
جميلة هي السحابة المتهادية
لوحدها في سماء زرقاء، كطائر ضيّع سربه وشرط طيرانه. جميلة النجوم وغريبة أنوارها الحائرة، حارسة المدى
اللانهائي، تراقبك من بعيد، تعرفكَ هي وأنتَ لا تعرفها. تُرى أترأف بك لأنّك لا تدرك ما الذي ينتظرك عند العتبة،
أم أنّها تدرك أنّ مصيرك ومصيرها واحد؟
جميلة هي النسمة الرحيمة في صيف
الجُزُر البعيدة تلفح الجباه. جميلة هي الأمطار الرشيقة فوق الأعشاب العطشى. وجميلٌ عطر الأنثى المجهولة
التي تمرّ بقربك ماضية في سبيلها.
جميلٌ
لقاؤنا قبل أن يتعثَّر بالتفاصيل. يأخذُ شكلَ هلالٍ نُعَلِّقُ
فوقه أحلامَنا.
جميلة
هي الأرض حين تغادرها روحي وألتفت إليها كما رائد الفضاء من مركبته فأراها زرقاء
مضيئة من داخل. ترفع أشرعتها البيضاء
وتتقدّمني، تسبقني إلى حيث أمضي، كأنّها تدلّني على الطريق.
جميلةٌ
هي الأرضُ الماضية إلى حتفها بسرورٍ نادر.
(عيسى مخلوف)
قيلولة
إنني أتوارى
أحفر جورة في الرمل
أطمر فيها يدي ..
بعد ذلك أستسلم لقيلولة
أرى فيها نجوما
شموسًا ! لكن الصيف مغلق و...
عقيم
آه تذكرت
لي حلم معك .
(فادي أبو خليل)
مكان
للحب
لو
كان هناك مكان لإيداع الحب
لوجدتموه
على الشرفات
بشكل
نباتات و أزهار
لنساء
يوزّعن فائض الحب
على
مزهريات
ويتركونها
تتدلى فوق الأرصفة
أمرُّ
بالاحياء السكنية على مهل
أطيل
النظر في زرع الشرفات
وأفهم
كم أنا غريبة
أفهم
أيضا كيف يتمسكّن النساء
بالغطاء
الأخضر لحيواتهن
بما
أوتين من نكران
بما
استطعن من حب
بما
تدبرن من تحويل الخيبة
إلى
سماد
أفهم أمي أكثر ...
لأمي
أربع بنات
وأربعون
شتلة
جميعنا
نطلب منها
ألا
تدعنا نذبل
أفهم كيف الحب يُذبل الأمهات
وكيف
الزرع يجعل ذبولهنّ
أكثر
أناقة
أقل
قسوة
وكيف
يجعل الطريق
إلى
الموت أسهل...
أختار أن أكون نبتة
ساق
نبتة
أو
حتى ورقة نبتة
تتدلّى
من شرفة إحدى النساء
فوق
رصيف ما
تحمل
بكينونتها
كل
هذا
الحب
في نشاز الصمت
لا سبيل لأن تعودي
قد تآكل كل ما سلكتيه من طرق
وسقفُكِ الأخضر مهترئ
يتساقط على تماثيلكِ المجوّفة
…
سيري
إذاً
بأذنٍ
صماء عن جوقة الآلهة
وعن
معزوفة الإغواء
فعمّا
قليل يستوطنُ الهباء ذراتها المتبقية
ليتفتح
نداء الموت
ويأتي
في نشاز الصمت
إلى
المقطوعة المسروقة
…
لا
مفر من أن تلاقي أناكِ ثانيةً
مخيضاً
من سواد وبياض
على
المرايا المهشمة
فاقرعي
بالمرآة كأسكِ
لتشربي
نخب
كل ما حلّ بكِ من خراب
…
عُمِّدت
أقدامكِ
في
كنائس الوحل
ونُشبت
أصابعكِ
صاريات
للسفن الراكدة في المنفى
وها
أنتِ هنا
عند
كل فجر
تشرّعين
في المدى شَعركِ
تطعنين
به الغمام
لأنكِ
صدّقتِ البحر حين قال
"على الغمام أن يفنى كي أدرك
كنه زرقتي"
فأطبقي
على ملح البحر
عينيكِ
للمرة
الأخيرة
و
نامي…
(سكينة شكر)
الرجل الذي يكلم غيمة
الرجل هناك
أخبروه عن ألف طريقة
ليكلم غيمة :
نادِها من أعلى سقوف المدينة،
اسرقْ قلعة من بطاقة بريدية
ثبِّت في أحجارها بوقًا عظيمًا
الرعد فخ عظيم لغيمة بريئة
كالعصافير،
تظاهر بحب كل ما هو أبيض:
غاندي، الثلج، الكفن، شتول القطن،
طرحة العرس، مربّع ماليفيتش،
البس جزمة من الحجارة
لتقنع الغيمة أنك لست صيادًا
وأنك أزلت كل عثرة من طريقها؛
الرجل هناك
كلما جرَّب طريقة
ليكلم غيمةً
طارت في الصمت
مثل عجوزٍ ماتَ للتوّ.
(محمد ناصر الدين)
تفاصيل
كتفان
عاريتان من الليل
مضيئان
بهيّتان
تليقانِ
بانكسارِهِما
والصوتُ وجهُ ماءٍ
يليق بالرتابة الّتي تعقب الحياة
أو تطعنها
حرّاسُ الليلِ عميانٌ
ولا شيءَ لتلتقطهُ البصيرة
في فراغين
لا سَفَر يُحصي عدد الشامات في جسدٍ
يعدّ الفراغَ للبكاء
فالمجرّات الهائلة الخائفة الّتي
تحمل احتراقها على كفّيها
تُهابُ ولا تُحصى
ولا دربَ يطأ سياج الصدى
بعد انتحابِ النشوة
والموتُ لطيفٌ جدًا
بسيطٌ جدًا
يقبلُ دعوة الفقراءِ إلى الموائدِ
الأخيرة الّتي تعوي من الجوع
وترتشفُ الفقرَ الفاحشَ من فرطِ
يباسِ النبيذ
كأسٌ فارغٌ من النورِ
ووردٌ مهجورٌ
وشمعٌ في طورِ اختفائهِ
والموتُ هنا
يتلمّس آخر منحنياتِ الأحلامِ في
الشرود
ينبعثُ في آخر زوايا المرايا
طلاسمهُ في أذنين اعتادتا سماع
الرعشة التالية للولادة
والخصرُ مثقلٌ بأظافرهِ
والعتمة
غرق
غرق
غرق
….
….
….
تطرق جارتي العجوز بابي في الصباح
لتقول لي: أعدّي لهُ موائدكِ كلّ ليلةٍ، لينساني..
(زنوبيا ظاهر)
أنتظر موتك
أبحثُ كلّ صباح عن خبر موتِكَ
في صحفِ بيروت التي لم تعد تصدر،
في حاناتِها المهدَّدة،
وفي أزقّتها المرمَّمة فوق جماجم
أهلها.
أحملُ
في جيبي اسمَكَ،
في
الآخَرِ حفنةَ آلهةٍ،
وكمّا هائلًا من الملائكة.
أنا ربّةٌ حين أكتبُ،
ربّةٌ حين أُحبُّ،
النسّاكُ في مغاور الجبال عِبادي،
أملكُ أرضًا وبحرًا وسماءً
لكنّي أنتظرُ موتَكَ لأكتملَ بجمالي.
أستمعُ كلَّ مساءٍ إلى نشراتِ
الأخبار :
قتلى وجرحى وحروب.
غير أنّك آمنٌ كحبلٍ سرّيّ،
آمنٌ كشاعرٍ على منصّة،
متواطئٌ مع التصفيق الحارّ لقصيدةٍ
باردة،
ولموتٍ ناقصٍ بين مخالب هذا النصّ
الحزين .
(فيوليت أبو الجلد)
أعمار
أريد أعمار الآخرين
أريد أعماراً كثيرة
عمر وردة
عمر شجرة توت يابسة
وواحداً لطاولة
ليلعبوا القمار
ويعيدوا ترتيب العالم
على شكل غابة
ويكسروا كراسيهم
حتى لا يخسروا
وحتى تبدو اللوحة أقلّ هشاشة
ويهزّ كلّ واحدٍ سريره ليلاً
حيث تنام وحدةٌ بكامل عريها
وامرأة بوجهٍ ناشف
معلّقة على النوافذ
كقرينة
أريد عمر سيجارة
حتّى أعبث بالأصابع
وحتى لا أحترق
إلاّ واقفةً على قدميّ
وعمر غيمة شديدة الحرص
وشديدة الخيبة
وهزيلة القسوة
وعمراً لرجلٍ أحببته
حتى أقبّل نفسي برويّة
وأمشّط سنوات الخذلان
كمن يقشّر تفاحة
وحتى أستعيد الأطفال
العالقين في حوض الآخرين
وحتى أُحِبني
وحتى لا يذوب هذا الملح
أريد عمري
مستعاداً إنما
كان على عمري
أن يُهدى لي
ولو لمرة
(باسكال صوما)
عن المطر و امرأته وآخرين
الماء
أحمله على كتفي
رأسه المشعث المليء بالطحالب والقمل
يتدلى كسرّة هوجاء على صدري
قلت له
كل خوخة في الأرض كانت لتكون جسدي
لولا أنك رمادٌ والغيم يشبه الفخار ..
الماء بشفتيه الزنجيتين
ورجله الخشبية يطقطق بها في دهاليز
العطش
يعلم أن الموتى لا يبتلون في مدينتي
ويعلم أن قلبي كافر
..
هكذا ..
دققت في عينه وتداً ..
وفي قلبه وتداً
وحين صاح أنا الماء
نبتت على رأس السكين وردة
وفتح الموتى مظلاتهم.
(سمر دياب)
ذات حانة:
ببساطة، هذه قصّتنا:
وكُنّا
إذا مَشَيْنا على السّطر تَعِبْنا، وخرجَ من لهاثنا
حِبرٌ
عظيم.
في
بادئ الأمر، اعتَقَدْنا أنّنا تحت سماء مفخوتة
فأعطَيْنا
أيدينا للغيوم وانتظرنا.
ثمّ
اكتَشَفْنا، ونحن عائدون إلى انكفائنا الطويل، أنّ كلّ ما ربَّيْناه في السرّ خرج
إلى العلن، والتهم الصّفحة، والشّارع، والسيّارة التي تدور في الشّارع، والكلمات
التي تدور في السيّارة، والذّباب الذي يدور في الكلمات.
ثمّ
حين قرَّرْنا الدّخول إلى الحانة، دَقَقْنا أصواتنا كمسامير على الباب، ودَخَلْنا. طَلَبنا كأساً. ما تيسّر من كلمات في
جيوبنا، سَحَبْناها خلسة ودَسَسْناها في الكأس. نَقَعْناها حتّى استوتْ بالكامل. وحين جاء دورُنا، أخرَجْناها بخفّة وطَرْطَشْنا بها
الحيطان حولنا،
وقلنا: مساء الخير.
(فوزي يمِّين)
قلفة الإيمان
منسيّاً في البرّاد
أعواماً
لو خسّة أكلوك.
لم يتعرّف وجهَك
أحد.
في المستشفى الحكوميّ
نتانةُ الرائحة منك
لا تدلّ عليك.
ولا ملامحُك الغائرة.
قلفتُك العاصيةُ
حالت دونك ومقابر
المسلمين.
وحَرَمَكَ الاكتظاظُ
ثرى المسيحيين.
لا يهمّ أيها الصامد
بشحمه ولحمه
أن تنغِّصَ مواجهةَ
الحيّ للميت.
أن يشكوك حارس البرّاد
إلى قانونٍ مغَفَّلٍ
لا يحمي المستغفلين
مِثلك.
لو ملكتُ جبّانةً
لاستقبلتك على سرير
الأديم:
بروفا تريحني
أيها الغريب.
ولو وجدتُ كنزَ الغابة
لدسستُكَ بين متصوّفةٍ
وملحدين
في بلادٍ تفحص الإيمانَ
بقلْفة.
)جوزيف عيساوي(
خارج العاطفة
أعرف هذا الفجر،
يشبه ابتسامة نبات القرّاص
عند النافذة،
رائحة الماريوانا
وصخب الهيبيين في الشقة المقابلة،
الدرج الذي ينطق بكلمة
مع كل خطوة،
الأشياء غير المتقنة
كسهرة أو آلة خياطة،
تاكوس آخر الليل
او البيرة في حانة أول الشارع.
يداي اللتان عذّبهما البرد
تزيحان خصلة حزنٍ عن وجه المرآة،
هروبي المستمر من ذنوبي
وإصرارك على الصلاة
تحت تمثالي الآثم.
ميدتاون وقتٌ قليلٌ للوقت،
استراحةٌ خارج العاطفة
خارج الأيام التي، إذ تتكدّس
ينبت لها شوكُ الذكريات.
)زينب عساف(
قصيدة لنهار الأحد
لطالما تكرّرتْ هذه الحادثة
أنْ أراك تُشبه الكتب التي تقرأها
أنتَ "كافكا"
اليوم لأنّه الأحد
غداً أنتَ "كارل ماركس".
حين يتعب
يجلس كصخرة أمام البحر
يتلقى بقدميه حزن الأمواج
أقرأ له
كتباً بديلة عن حروبٍ مجاورة
تترك خدوشاً على اليدين
لكنّها ملأى بالبشر
أغلبهم موتى
يحفر أسماءهم على الصّخور
ومع آخر موجةٍ تطأ الشاطئ ليلاً
يُغادرون
وفي غروبٍ جديد
تكون الصّخور سليمة
والكتب ملأى بالبشر
أغلبهم موتى.
(عبير خليفة)
أن نكونَ معًا
لم أكُن أتامّل التجاعيد التي
يتركها "إصبع" الحُمرةِ
على الشفة العُليا،
كنتُ أفكّرُ بالنار التي أذابت
الإصبع فصُيِّر شَفَة...
لم يُكن يُغريني شكل السلسال ولا
روعته وهو يتشكّلُ حول العنق،
كنتُ اريدُ سؤاله كيف يقاوم
الانصهار فوق جِلدٍ يشتعل كاللّهب...
لم تكُن تُدهِشُني أظافرُكِ
الطويلة ولا من التي سنّنَتها لكِ بهذه الحِدّة، بل كُنتُ أنتظر اللحظة متى يثبوا
وينشبّوا، كي أُدرِكَ عُمقَ النشوة والخدوشِ التي سيتركونها في جسدي...
لم
أتعجّب من الحبّتين اللتين يحاصران الميلة اليُسرى لوجنتيكِ،
كُنتُ
مشغولاً بكيفية زرع قُنبلةٍ منزوعةِ النون بينهما،
كي
تنفجِرا ...
فانفجرتُ
أنا ...
لم
أكُن متفاجِئاً في براعتك بالتقبيل من بعدي،
كان
يعنيني انتظار متى تخمدُ الحرائقُ فيكِ، كي أرى رماداً ليس يُشبِهُني، أو دُخاناً
غير الذي أنفُثُهُ...
لم
أكُن بانتظار وصولك النشوة،
كنتُ
مشغولاً في التأكُدِ من عدد المسامات التي ستفتحُ بعدها ...
لم
أكُن متأّكدا من أي شيء قبل أن تأتينا...
كان
يكفي أن نكون معاً وكُنّا......
(حسام ديب)
محال
أعدو كي أتجمّع
أنقسم
أحدّق بالألوان العابرة
يغدق عليّ السواد
سعته البيضاء
من المحال التوقّف
من المحال الجلوس كأن شيئاً لم يكن
من المحال أن ترى وجهك
حتى في المرايا
(نسرين كمال)
انعتاق
مثلَ هواء خفيف أمضي ولا أنظرُ خلفي
من فوقِ عمود إنارة مُطفأ أُحصي مع
بائع العلكة غلّتَهُ،
وَأساعد ماسحَ الأحذية في تلميع
صُوَرِ المارّة.
قلبي لؤلؤة في جَوفِ سمكةٍ نافقة،
داخلَ زَورقِ صيدٍ رَطِب
وَمثل كسرة خبز مُبتلّة أنامُ على
نفسي،
أخرُجُ من الأفواهِ على ظهرِ أغنية
وَأدخُلُ بين الأرجُلِ مثل جروٍ
هجينٍ في نُزهة،
أعرفُ لونَ الأرصفة عند المطر
وَأحفظُ حوارَ غريبَيْن لبعضِهما
قبلَ أن تُعلِنَهما المصادفةُ زوجًا
وَزوجة.
ديدانُ الأدراج المُعتمة أحصنتي،
وَالشفاه طُرقاتُي الوَعِرة.
إنني مندفعةٌ دومًا مثلَ لَكمة،
مستعجلةٌ لِأَموتَ قبلَ الجميع،
فالشمسُ تنتظرُني بفستانٍ أسود
باعَت ضفائرَها في الحربِ
لِتشتريَه وَتُحرِّرَني..
(مريم جنجلو)
يا إلهي
يا
إلهي
كل
هذا يحدث الآن
لكي
تُقلب
في
التاريخ صفحه
يا
إلهي
كل
هذا الصمت
كي
يسمع صوتي
كيف
تستسلم أعماقي
لأوراقي
التي ضاعت
ويغرورق
إرهاقي
بتأميم
المرايا والحكايا والمفاتيح
وما
يقترح الموتى
على
الشاعر ، حتى يتفادى قتلهم،
من
أغنيات واستعارات ملحَّهْ
ثم لا يعبر
فينا
اللانهائيّ
الى
العالم
من
منحوتة مغمورة
او
ريشة مكسورة
داخل
لوحَهْ
ثم
لاشيء تمامًا
في
الرؤى البيضاء
مثل
الكفن الطازج
بل
مثل المراييل التي يلبسها الجزار
في
محترف التقطيع
والعامل
في منشأة ذرية .. أو في مصحَّه
يا إلهي
كل
هذا الموت
كي
ينتصر الليل
على
المعنى
الذي
كان على الأرجح مزحَهْ ..
(ربيع شلهوب)
الوحدة رصاصة في مخزن
الشمس التي تجرّ الظل
معطفك الأسود الكبير
الذي يلبسك
كيف تقنعه أنه ليس وحيداً
هناك مَن صنعه
كما هناك مَن صنع الوردة
الشمس أوحد مخلوق في هذا العالم
حتى أوحد من الله
تخترع الظلال
الأوركسترا الخاصة بها
كي لا تغنّي وحيدة
لأنّ الضوء شيءٌ مملٌّ للغاية
وُلد الكون أسودَ
مَن كان تعساً إلى هذه الدرجة في السماء
مَن لوّن الوحدة على هذا الشكل
مَن قرر احراق العالم بكرةٍ من نار
الله هو ذلك الطفل الذي يكتب على جدار غرفته
أنّ لا أحد يحبّه
أنّه مثل تفّاحة على منضدة
وحيد كنردٍ يدور في مقمر
كرصاصةٍ علّقت في مخزنها
تخترع أسباباً للحياة
تسدّ كل طرق الموت
ربما هكذا الحياة للطفل الوحيد
كونٌ معتمٌ واسع
مجرّاتٌ عالقة في مخازنها
وظلالٌ كالنحل التي في قفيرها
كالدببة المشرّدة
تبحث عن صديق
لتأكل معه الرمّان الذي في الحقل.
(باسل الأمين)
قصيدة قلقة
كل شيء هنا يسقط من العش قذراً
عينان مسرورتان
باحتراق الشجرة
لوحة يتساقط منها موتى
يدلون بشهاداتهم
أمام الضياء
ذكرياتهم
عن ما يتلف القلب..
ما يتلف القلب
ما يجعلني ملوثة
من هذا العالم
تهيؤات إدغار آلان بو
وأشياؤه المتشائمة
تمتزج بفزعي
من هذا الجحيم
الذي اسمه العالم ..
خطيئتهم أني ولدت
خطيئتي أني ألقيت البذور
حيث لا يجب
وحيث مكتوب لك
أن تلقي البذور
فتسقط في الشقاء..
حياتي موضوع قصيدة قلقة
لا تعرف إلا الصمت
ثم تحكي عن الشهوة
المخنوقة بحبل تحت الشجرة
وما عادت تظهر
منذ سنين..
(دارين حوماني)
حول الغياب
كلّ أشياء الغياب حاضرة حول
المساء
السمُّ الأزرق الذي يسيل سيلًا من
الأضواء
وأشير إلى سمٍّ لم يُخطئ غابة
أخيلتي يوما
أشير إلى سمٍّ لم يسلم عليه وجهي
لأنّه أرقُّ منه وألطف
أشير إلى سمّ يسيل من غير اعتصار
في أبدٍ وأزلٍ ممسكين باكتمالهما
أشير إلى سمٍّ شاخص يتقدّم في ضلوعي
كأنّه جناح
أشير إلى سمٍّ يقع على ظهري
وينشقّ عن أعذب ما يحمله حبيبي من
الجنى والأوصال
*
كلّ زينة الغياب حاضرة تأخذ المساء
إلى صيرورته وانفتاحه
الجلدة الرقيقة فوق دم العزلة
الخالص
القبلة الشحيحة تطوّح نفسها على
الأهداب
قصاصات الغطاء الملون التي تشرب
غدائر طفولتنا،
وتطويني طيّة الشوق إلى الشوق ثم
اليأس إلى اليأس
جرعات مجنون ليلى التي تطرق هدرًا
باب الحكاية
ولا يجفّ ريقُها على الأسنان
*
كلّ دلائل الإعجاز حاضرة حول المساء
لحظة الانفعال التي يأخذني فيها الشّعر
إليه ثمّ خُبُوّها على هيئة اختمار عقل يرتّب فوضاه
الهلوسة التي تهشّ للمستحيل ثمّ
تطعن بسنانها عاليات الحلم
اللّغة التي أُتيح لها من السماء
انصبابًا دامعًا
والكلمات التي حيّا الله طللًها
وطلالتًها، ولم تطمح عيناها لسواه
*
كلّ الأشياء تتزلزل، وتمدّ أعناقها
كنافض الحمّى حول المساء
الخسارة
والقمر الذي وصل إلى القمر ثمّ
صدّتْه نيّةٌ، فعلا بي كما يعلو الماء بالزّبد ليقذفه
ليبعثره
ليفتّته
كلّ الأشياء تتزلزل، والقيامة حاضرة
حول الغياب وحول المساء
القيامة التي طمّت على كلّ شيءٍ..
طمْت الغموض
وطمّت المعنى الذي وصلنا إليه من
دون عناء!
) ريف حوماني (
كنتُ إذا نظرتُ إليك
كنتُ إذا نظرتُ إليك
ينجو محارب من الموت
وإذا أطلْتُ النّظر أكثر
تتوقّف الحرب تمامًا.
يا أبا كلّ الأشياء الجميلة
يا لحظة تطأُ أقدامي طراوة العشب
يا النفَس الدّاخل
والنفَس الخارج منّي
يا الماء في الماء!
إنّي أفتقدك
أدخلُ غرفة الملابس وأبحث عن ثوبٍ يُخفي
نقصكَ على جلدي
ولا أجِدْ
ولا أجدْ مجدّدًا وأُعيد: إنّي أفتقدك!
ميلك من جسدي
طيب
ضعيف
وناقص
كطفلِ العائلة المدلّل ومسَّه مرض!
يا اعتصار قلبي
يا الجميل في وجهي
إنّي أفتقد وجهك
الصمت هنا
يبلّل الشوارع بالدّماء
يعود ويلوكها
وجلدي من دونك
يؤلمني.
)لولا رينولدز(
قصائد
(1)
سألني أحدهم لماذا تكتبين
أجبته بأنني لم أجد من يمسك بيدي
في هذا الليل العميق
فحاولت أن أمسك بكلمة، أن التقطها
بيدي
واذكر جيدا أن الليل كان عميقا.
(2)
وجدت الحب
انه ليس في القلب
بل بين رموش العين
أدركته ذات مرة
وأنا أقبّل رمشك وأنت تغمض عينيك
(3)
هي لا تعرفه
قال لها إنه سيغمرها ذات مرة حين
يلقاها
غير أنه لا يعرف أن صوته غمرها
أكثر من مرة قبل أن يلقاها
صوته ذراعان
(4)
يدي ترتجف.
أشعر أن هذا الحب يمرّ يوميّاً،
ولو لبرهة، بين يدينا، نحن الذين نحزن، أو نتعب، أو نقلق،
أو نستوحش
يمرّ هذا الحبّ كتحيّة لرجل عابر،
كلحن موسيقي،كابتسامة، كنسيم، كفكرة، كصمت خفيف في الرأس.
وأصدّق، أنه وبالرغم من تعبنا،
نلتقط دائماً شيئاً من الحب بين يدينا، فنرتجف، ونحيا.
الحياة ارتجاف
(ملاك مكي)
الورد الخفي
خارج الرحم ...
حلقي أيتها البجعة السماوية
الريح تعصف في الحقول
والقمح المستنير يرنو إليك بعطف
لا مساء هنا لتستريحي على كتفيه.
أزهار
البنفسج
تتنفس
رائحتك العطرة
والمطر
يرسم وجهك
على
نوافذ البيوت المهربة في الدم.
لماذا
لا تستريحين على كتفي
فأنا
ابن الشمس الذهبية الشعر
وأنا
ابن الخواتم المرمية في البحار البيض.
( لملمي شعرك
المتطاير على الأشجار
اسكني
بيوت القرميد المدلى من السماء
وانشدي
نعيم الغابات الأبدية...
البحيرة
صافية
والظهيرة
العظمى تنهض من تلال الخوف)
إلى
متى تبقى النوافذ مشرعة الرياح؟
إلى
متى تصغي الحملان إلى ناي الراعي؟
ما
كتب على وجه التلال
لم
يزل أبيض كالذهب
أبادلك
سيف النجوم
زهرة
القطب.
أيتها
البجعة لم يزل في الريح ذهب
في
شمالها سمك البحار البعيدة
وفي
يمينها إنجيل الشوك.
هنا
مدينتك المعلقة
شعلتك
المقدسة
اطمئني …
حينما
مررتِ فوق القطب
رفع
الثلج قامته
وأعلن
شعراء أنهم شاهدوا الورد الخفي.
(جوزف دعبول)
وعد
أيّها العصفور
أمنية
غير متحققة تحوم حولي كذبابة، لا تمسّني ولا أمسها. أحلام غير منضمة الى سرب
الحقيقية. نوع من اليأس الغرّ، أكثر ما يعذب فيه أنه ما زال يدور في الرقعة
الفاصلة بين وبين، أحيانا يميل به الهواء الى جهة السواد، وأحيانا إلى البياض.
أؤنب
نفسي على تلك الأصوات التي أضغطها بدل أن أحررها. هل يمر عصفور ويأخذ معه حلمي؟
وعد أيها العصفور أني سأكون لك جارية.
هل
الحزن ينتقل بالعدوى؟
الحزن
هو الحلم قبل أن يولد، هو ذلك القمر الذي يختبئ خلف السماء، هو عصفور مسجون.
ممتلئة
وعلى حافة البكاء، هزيلة، مرهفة، على شفير الضحك،على شفير الحب، على شفير الشفير...
أين
الحب الذي كنت أرسم له؟ على غفلة كل شيء يختفي.
عبثاً
أحاول أن أتصالح مع نفسي، أن أغني، أن أضمك الى وجهي في المرآة، أن أرى فيّ ضوءاً،
عبثاً.
(زهرة مروة)
هذيان
(1)
كم ستكلّفني
العمليّة؟
أن أقتلَ رجلاً أزعجني
أو أنزع السّترة عن ثدي امرأة
في المقهى
أو أن...
أن أشربَ دم عدوّي الغائب!
أن أفتح باب البيت ونافذة
الأوهام
أن أسرقَ حبل غسيلٍ لامرأة حبلى!
أن أفتح باب الموسيقى
وأغنّي للًه وللشيطان
أن أفعل ما ينكره العرّافون
وأخلعَ بزّة أحزاني
وأموت.
(2)
وأحياناً
يحلو لي
أن أكونَ إلهاً
فوق وسائد حجريّة
المكان لا يتّسع للأرصفة
كرسيّ جاثمٌ فوق صدري
نوافذي هرمة لا تليقُ بأحد
ذلك العمر الذي قضيته
دون فائدة .
(3)
بلا حسدٍ وسحرة
وشعوذات
جرياً على عادتي
محمولاً في نعش
أو مرمياً في مستنقع.
(4)
أكتبُ
كي لا أضلّ الطّريق.
(محمود وهبة)
أراجيح خفيفة
حين يمرونَ
تغيبُ الأرضُ
وهكذا تهبط ُ
السماءُ
في سمومِ الريبةْ.
يمرونَ بخفةٍ
بلا ظلالٍ
بلا وجوهٍ .. فقط
بلا عيونٍ كثيرة
تراقبُ ..
ثم تحيط المرايا
بالفراغِ
بالعزلةِ
هذهِ حياةٌ ما
تسمعُ غمغماتٍ هاطلةً
وشوشاتٍ خرساء !
ثم أصرخُ
وأجعلُ الأرجاءَ عويلاً
وأقفلُ بابَ عودتي
إلى الأبوابِ
على حزنٍ لا وجهَ له
ثم
يرحلون
دون أثرٍ
حتى .. وحدها السماءُ
تعرفُ مكانَ الوشوشاتِ الخرساء
ومكان القصيدة التي
غابوا فيها
حين يمرون.
(
ماري جليل )
ليدي ماكبث
حتى يصبح شكسبير شاعرًا
كان لا بد من وصول ماكبث الى
الحكم
الهلوسة اعتلت الخشبة
لم يمر الجُرذ في رأسه
ليقضم الهباء الشامل
لكنها نزعته الفارغة من الحياة
فاضت كزوجته عن يديه
مُتحولة بحة في صوته
الطاغي على النّص
إنها اللامبالاة يا شكسبير
غريزة هدم الهواء
كم نحن مزدوجان أيها الأحمق العميق
حين نُحدق من العدسة
يَتمدد الزمن كهالة داكنة
تحت نظرة المخرج
(رنيم ضاهر)
بعد الأبالسة بقليل
الضرائرُ غادرْن جسدي بعد
الأبالسة بقليل ،
مُنْذُها
بالكاد تتّسع هشاشتي لامرأة مفردة
في قصيدة واحدة ،
أنا صنيع الارتباك ، لم أنافس
يوما على السّعفة الذهبية عن فئة المتدارَكِ من الكلمات ،
هذه المتأرجحةُ المتدليةُ من عنقي
قلادةُ العين الفارغة من طُرّتها ، وعلى نقشتها نُضْوَةُ الحصان،
لم تبق لي آيةٌ لم يلِجْها
الشعراء من كل الجهات
فاتخذتُ صخرةً أسميتها حبيبتي
وشجرةً دعوتها حبيبتي
وبلاداً كنت سأقول إنها حبيبتي لو
لم تكن حاملاً بآلاف السلاطين ،
كنت أريد قضاءَ عطلة العيد خارج
نظامي الشّعريّ ، لكنّ نومي كان ثقيلاً على هذه المسافة بين نهدين ،
وكان المسبار عجولاً على الخروج
من جسد بهذه الفوضى ،
الكتابةُ مؤذيةٌ في الحَرِّ ،
قاتلةٌ تحت الصفر المئويّ ، والإمساكُ يودي إلى الجنون ،
أيها الكافر الاوّل الذي اهتدى إلى
الشعر
منكَ لله
(ناهيد درجاني)
الشاعر
دائمًا يكتبُ ما يجهلُهُ
دائمًا
يتبعُ سهمًا غيرَ مرئيٍّ
ونهرًا
لا يرى أوَّلَهُ
هائمًا
في كل وادٍ
ينهرُ
الأشباحَ كالماعز عن أقبية الروح
وكالساحرِ
يلقي أينما حلَّ
عصا
الشكِّ
ليمحوَ
بعضُه بعضًا
مقيمٌ
أبدًا في شبهة البيت
ولا
بيتَ لَهُ
كلما
همَّ بأن يوضحَ يزدادُ غموضًا
وبأن
يفصحَ يزدادُ التباسًا
والذي
يكتبه يحجبُهُ
هو
يدري أن بعض الظن إثمٌ
ولذا
يومئُ
للمعنى ولا يقربُهُ
يدَّعي
الشاعر أن الشعر ذئبٌ
فيقول
الناسُ:
إن
هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر
أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
أعذبُه
أكذبُهُ
لم
يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعرُ،
لم
ينتبه الناس إلى الموتِ
الذي
ينهشُ في هيئة ذئبٍ
جسمَهُ
الرثّ
لكي
يستخرج المعنى الذي في قلبِه،
الناسُ
نيامٌ
فإذا
الشاعرُ مات
انتبهوا!
(شوقي بزيع)