مع تحياتي لميدان الجيزة!
أسماء ياسين
عيناي رأتا نارًا. وكانتا مغمضتين. فانفغرتا مثل شفتين مندهشتين. أمس كاد البيت أن يحترق. لكنه لم يحترق. لماذا لم يحترق؟ لأن لكل شيء إيقاع. حتى الكوارث. وإيقاع أمس لم يكن مواتيًا للحريق. شبَّ الحريق. أي ظهر وانتشر. ثم سكبت الماء على البوتجاز. وجلست على دولاب المطبخ أتأمل كيف تحولت النار إلى لا شيء.
هوووف.
ظللت لثوان، أو دقائق، أتأمل النار المطفية. كيف أتأملها وهي مطفية. كيف تتأمل الإنسانة نارًا ليست مشتعلة!
كنت أتأمل الفراغ الذي كان نارًا مشتعلة. احتفظت ذاكرتي بمشهد النار التي أمسكت بما عنَّ لقوتها السوداء أن تمسك. وأنا لا أتذكر، إلا ما يحلو لذاكرتي أن تبقيه، أتذكر أنها أبقته. وكان مشهدًا كارتونيًّا؛ كانت عيناي تتأملان الرماد القليل والحائط الذي تهبب. مثلما تتأمل المسافة الجديدة المتسعة بيني وبين جسدي. مثلما أرى ظلي بجانبي. أمامي. خلفي فلا أدركه. كيف أرى ظلي خلفي. أين تقع عيناي هنا؟
عيناي رأتا طريقًا ضيقًة، معتادة اليوم. وفيها رأتا جذع شجرة بعرض شارع جانبي متفرع من ميدان الجيزة. كيف جاء جذع الشجرة إلى الشارع الجانبي المتفرع من ميدان الجيزة. من وضعه هنا ليتعثر به سارحون في الصباح. ليخطئه غير المدربين بعد على المفاجآت.
ورأتا سائق تاكسي سألته: خاتم المرسلين؟
قال: ماله كفى الله الشر؟
وفي طريق أخرى. ليست ضيقة. رأتا أشجارًا على اليمين ومبنى مزيف على الشمال. سرت في الطريق الطويلة حتى دخلت. مسحت آثار أقدام القطط عن مكان جلوسي. جلست على آثار أقدام القطط الممسوحة. ومع أنها ممسوحة ظلت هنا. كانت قطط في كل مكان. تمشي على الحوائط. تقفز فوق أكتاف الجالسين. تجلس على دواليب الملفات الرسمية. وكان الجالسون يثرثرون بلغو لا أسمعه. وضعت سماعاتي في أذنَي. لكنهم ظلوا يثرثرون بلغو لا أسمعه. رأيتهم يحركون شفاههم. ويضحكون ضحكات صفراء. ويحركون آياديهم في كل اتجاه. كأنهم يرقصون رقصة هندية. لكنهم ليسوا راقصين وليسوا هنودًا. ولا رقص دون موسيقا. يبدو أنهم كلموني ولم أسمع. حين نزعت سماعاتي صمتوا تمامًا. واختفت القطط من المكان. عادت إلى الطريق التي دخلت منها إلى هنا. فخرجت مسرعة أقتفي آثارها. كانت تسير جماعة. في طابور طويل. على غير عادة القطط التي لا تسير إلا فرادى. فخمنت أنها ليست قططًا حقيقية. ربما هي شياطين متنكرة في هيئة قطط. وبدلاً من إضاعة الوقت فيما لا طائل من ورائه سألتها مباشرة:
هل أنتم قطط حقيقية؟
ابتسمت القطط ابتسامة جماعية مخيفة ماكرة. لكنها لم تجبني وأكملت سيرها وعبرت الطريق دون أن تصيبها سيارة واحدة من السيارات الفولكس المسرعة التي كادت تسويني بالأسفلت. اعتبرتُ ابتسامتها اعترافًا ضمنيًّا بأنها ليست قططًا حقيقية. فلو كانت قططًا حقيقية لما ابتسمت بمكر. القطط الحقيقية تقول بخيلاء: نعم، نحن قطط حقيقية. القطط الحقيقية لن تنكر نفسها لأي سبب كان.
وهنا فكرت أنني أسير وراء سرب من الشياطين. لكن أي سرب! كأن الشياطين طيور. لها أجنحة. ومناقير. وريش ملون. وأعراف حمراء كالديوك. وأنها ستطير في السماء. وتحط على الأشجار. وتقيم أعشاشًا من القش. وتبيض كل حين. ثم تترك ما يفقس من صغارها. وتحلق في آفاق بعيدة. وترحل عن ميدان الجيزة. لأن أي عاقل لا يحب أن يظل كثيرًا في ميدان الجيزة. أو قليلاً.
الشياطين عاقلة. صحيح أنها أشعلت النيران في بيتي أمس، لكنها عاقلة مع ذلك، ولا بد أنها فعلت ذلك لحكمة خفية لم أدركها حتى الآن. قد تكون فكرت أنني إذا خفت لصرت أفضل حالاً. أو أنها مزحة ثقيلة. أو رسالة أدرينالين حادة الوطأة. لكني لم أخف.
حين رأيت النار نظرت إليها من المسافة البعيدة التي أتخذها من الأشياء مؤخرًا. ضيَّقت عينَي. وقدرت حجمها. واتخذت قرارًا حكيمًا أن أبتسم. وتخيَّلت أنها لو أتت على البيت فستأتي علَي. ثم تأتي على العمارة. ولو أتت على العمارة فستحرق كل الجيران. وهذا خبر كفيل بأن أسمح لها أن تنتشر في المطبخ. وتأكل الخشب. وتأكل البوتجاز. وتأكل الحوض. وتأكل الأطباق الخزف. وتأكل الملاعق الفضة. وتأكل السجادة الصغيرة. وتخرج من المطبخ. تأكل الأنتريه والمكتبة والسفرة. وتأكل مفرش السفرة الأحمر الذي أحبه. وتأكل الستائر والتليفزيون. والسجاجيد. وتأكل غرفة نومي. وملابسي. وعطوري. وحقائبي التي أحبها أكثر من ملابسي. وتأكل مروحة السقف. والبانيو. وتأكل أحذيتي التي أجمع منها أكثر مما أجمع من الكتب. ثم تتجه نحو الباب.
لن أكون في حال تسمح لي أن أفتح لها الباب. بعد أن قضت علَي إسفكسيا الخنق. لكن للنار مثل كل شيء إيقاع. وهي تجيد قفش إيقاعها. فتخرج من الباب وتبدأ بشقة جارتي المقابلة لشقتي. وتنزل وتطلع. وتتجه يمينًا وشمالاً. والرياح تساعدها أن تشب أكثر. حتى تأكل العمارة بساكنيها. كلهم، وخصوصًا جارتي العجوز في الدور الأول التي تصرخ كلما أغلق أحدهم الباب بقوة فأيقظها من نومها. أو أيقظها من شرودها. أو أيقظها من يقظتها.
ثم تخرج وتنتشر في البارك. وتأكل العيال ولاد القحبة من أمن الكومباوند الذين يراقبونني كلما رحت أو جئت. ثم تذهب لتأكل بقية العمارات المجاورة. تبدأ بعمارات الجيش. ثم عمارات البوليس في الناحية الأخرى من المدينة. وتحيلها رمادًا رماديًّا.
أريد أن أتوقف قليلاً لأعرف إن كان الرماد سمي رماد لأنه رمادي أم أن الرمادي سمي كذلك لأن له لون الرماد. لكني لن أتوقف لأني أريد للنار أن تنتشر أكثر. وأسرع. وتترك المدينة المسورة بسور قبيح مطلي بالجير الأصفر، وتمتد على الكورنيش فلا تمسه بسوء، لكنها تسري وتعبر كوبري عباس. وتصل إلى ميدان الجيزة فتأكله تمامًا بكوبريه. بحواجزه الحديدية. بزحامه. بترابه. بالميكروباصات الرمسيس والترامكو والميني باصات المتجهة إلى شارع فيصل. حتى يفنى ميدان الجيزة. فلا يظل فيه بشر ولا حجر ولا أمين شرطة.
قد يعجبك ايضا
تعليقات
إرسال تعليق