الحياةُ فى حديقةِ الأوهام.. الحارسُ .. والبستانىُّ.. وعازفُ الناى *
كريم عبد السلام
أنا الحارسُ:
الحديقةُ للجميع،
والكائناتُ أممٌ وشعوبٌ وهائمون، لا أستثنى الهملوكَ أو بنتَ القنصل، أو حتى
ألدروفاندا المفترسة
وَصْفُ "سامّة"
لا يعنى حكمًا بالإعدام، ربما يعنى" ابتعد" أو لا تكن فضوليًا
الأسوارُ والأسلاكُ الشائكة
ألدّ أعدائى
......
عادةً ما تنبت فى الحديقة
أوهامٌ على شكل زهورٍ عملاقةٍ، أوراقُها وبتلاتها تتجه إلى الخارج، مع ذلك لا يجب
الحكم عليها بأنها مارقة، وأجدنى غيرَ مضطر لاختصار الزهور العملاقة فى كلمة
الكلمة هى المعنى، والمعنى
هو الوجود الحىُّ، و"مارقةٌ" اغتيالٌ صريحٌ، وأنا لن أكون قاتلًا فى يوم
من الأيام..
وهكذا، طوال الأيام
والليالى، أتبع الزهورَ العملاقةَ التى تنبت بسرعة كبيرة خارج الحدود، ليس لقمعها
ولكن للحوار..
أيتها الأوهام على شكل
الأوركيد بأوراقٍ مثلثةٍ شديدةِ الخضرة، أيتها المندفعة نحو مساحات من الأراضى لم
تكن موجودة، نعم أعرف أنك تَخْلُقين من الخيال.. طبعًا طبعًا أصعبُ من الخَلْق على
الصور الشائعة، لولاكِ ما ذهبتُ إلى بلادٍ جديدةٍ، لولاكِ ما رأيتُ الطيورَ
المتكلمةَ والحيواناتِ الحالمة..
ويكون علىَّ خوضُ جولاتٍ
طويلةٍ من المفاوضات لإقناعها بالعودة إلى الحديقة..
فضلًا وليس أمرًا، هل
يمكنكِ الاهتمام بجذوركِ، كثيرٌ من النباتات الصغيرة ظهرتْ فى حديقتِك المحبوبة،
وتحتاج نظرةً منكِ..
طبعًا طبعًا، يمكنكِ
النمّوَ باتجاه السماء كما تشاءين، مع مراعاة الحالة المزاجية للنجوم
والردُّ دائمًا يأتى فى
المستقبل:
سوف ننظر فى طلبكَ أيها
الحارس
بعد أن قطعنا كل هذه
المسافة! لماذا لم تخبرنا قبلَ الليلة الماضية
نشكّ أننا نستطيع العودةَ
بكامل طاقتِنا، لكننا لن نتأخر عن المحاولة..
من أجل خاطركَ، أنت حارسٌ
طيبٌ وتحب المشاهدَ الغائمة والشتاءات
.........
أوهامٌ أخرى تنمو مثل
اللبلاب على الدعامات الموضوعة، ثم تندفع بشبكتها الخضراء والبنفسجية لإلقاء نفسها
فى الشوارع المحيطة بالحديقة
-أنت أيها
الحارسُ الغافل، العالمُ ينادى باسمى
أشجارُ الحديقة التى تحرسها
تهرب أثناء الليل، وتتحول إلى لصوصٍ وخفافيش ضخمة تصطدم بزجاج السيارات، والحوادث
تقع، وهناك مصابون وضحايا..
الأوهام تهرب من حديقتكَ
وتسرق دراجات الأطفالِ، وتدقّ الأجراس فى المنازل وترش المارة بالماء ثم تختفى..
اُنظرْ، كثيرٌ من المواطنين الصالحين هبّوا
مفزوعين من نومهم بسبب دقاتٍ مزعجةٍ من زهور حديقتك على نوافذهم
ويرفع العالم أوراقا فى
وجهى: فواتيرُ لابدَّ لأحدٍ أن يسدّدَها
المفتشون بدورهم يأتون
بنظاراتهم السوداء ومعاطفهم،
هم دائمًا متجهمون كأنهم
خالدون
أين الأسوار؟
أين الزهورُ المقبوضُ
عليها؟
أين الأسلاكُ الشائكة؟
كانت هنا، نحن واثقون
=عفوًا، أنا لا أؤمن
بالأسلاكِ الشائكة
_نعم، ماذا؟.. هرطقة..
مخالفة دستورية
ثم تأتى سياراتُ الإسعاف
الصفراء، وهى تطلق أبواقَها باستمرار وتحمل تقريرًا بسيرتى الذاتية..
يستمتع بالركض حول الأسوار
ويخبرها أنها غيرُ موجودة، فتختفى على الفور
عادةً ما يوجّه الصدأ
لتحويل الأسلاك الشائكة إلى تراب
الواجبُ كان يحتّم عليه
وضعَ مؤلفاتٍ مصورةٍ عن الزهور والطيورِ والنباتات فى الحديقة
ليس لديه أى سجلاتٍ عن
الأوهام وألوانِها وحركتها وعلاقتها بالموسيقى والألعاب اللفظية والقواميس
واللوحات الجدارية والعيون
حكمٌ بالطرد..
لستَ مؤهلًا أن تكون حارسًا
أنتَ غيرُ موجود فى الحديقة
أنا البُستانىُّ:
أقسم لن أسمحَ لأحد
باغتيالكِ، أقول للزهور: على جثتى
أضمن لك ِ البقاء على
أغصانك، إلى أن تسقط أوراقُكِ، ويذروها الهواء
ستكونين أجملَ زهورٍ شائخة
المقصُّ الحديدى، لا أعرفه،
هل أنا سفاح؟
الرومانتيكية ليست تهمةً،
وسأظل أدافع عن حقّ الزهور فى ألا تكون جسرًا رخيصًا لتحقيق رغبات كائناتٍ أخرى..
هكذا أجبتُ مجموعةَ الغربان واليمام والببغاوات
والحمام البرى والعصافير البلدية التى طلبت لقائى وسط أيكة الزهور المفترسة
لكنّ زهرةً تُدعى سارسينيا
طلبتْ مِنّى أن أدفع أحد العصافير باتجاهها: لا عليك إلا أن تُزيحَه نحوى وأنا
سأغلق عليه أوراقى..
زهرة بِيبْلُس التى أطبقتْ
على أصابعى ذات يوم وجرحتنى، بينما كنت أتأمل كأسها البنفسجى ذى النقاط الصفراء
قالت لى: أريدُ يمامةً.. أريدُ يمامة
أما دايونيا فأصدرت أصواتا
بفكوكها: أيتها الغربان الرمادية سنقضى عليكِ، سنلتهم أفراخَكِ الحقيرة، الحكمةُ
لن تنفعكِ، الحكمةُ لن تحميكِ
الغربانُ تجاهلت تهديدَ
دايونيا ووجهت كلامَها إلىَّ: "هل تعرف لماذا نجتمع هنا فى أيكةِ الشياطين
هذه؟
لأنكَ لا تعرف العالم
أنت رومانتيكى، المبادئُ
وُجدتْ لنتجاوزها
القتلُ ضرورىٌ من أجل
الحياة"
نعم نعم.. القتلُ هو
الحياة، نريدُ العصافير واليمام، هكذا دمدتْ الزهورُ المفترسة،
والغربانُ المعروفة
بالحكمة، طالبتْ بعودة المقصِّ الحديدى..
المقصُّ هو الحل، لا نريد
أيدىَ مرتعشةً
أيها البستانىُّ..
"ووضع الميزان".. أين الميزان؟
عليكَ اجتثاثُ الزهور
المفترسة
أحرقوا أيكةَ الشياطين
وتماوجتْ الزهورُ المفترسة،
تريد أن تلتهمَ الطيور التى رفرفت بعيدًا:
قتلة.. قتلة
من حقنا أن نعيش.. نريد أن
نأكل
"ولحمِ طيرٍ مما
يشتهون"
وحاصرتنى الزهورُ المفترسةُ
مطالبةً برأسى، كيلا أخضعَ لسطوة الغربان أو أن أعيدَ المقصَّ الحديدى للعمل، والغربانُ
من جانبها، حشدتْ كتائبَ من طيورِ الحدائق المجاورة، بينها النسور الصلعاء
والعقبان والصقور، التى حملت فى مخالبها حجارةً لقصف أيكة الزهور المفترسة،
والزهور تمدّ أغصانها على هيئة شبكةٍ لافتراسى
وجاء المفتشون على وقع
الجَلَبة، بنظاراتهم السوداء ومعاطفهم ويقينهم أنهم خالدون
-أعزل!
أين دروعُكَ الفولاذية؟
أين قبضتُكَ الساحقة؟
وأين أحذيتُك المدرعة؟
أىُّ نوعٍ من البُستانيين
أنتَ!
=نعم يا سيدى
أعزل
الأيامُ دولٌ، ولا حالٌ
يدوم
وتعالت القهقهات
=هل سمعت عن
الزمن سيدى؟
وجاءت على الفور سياراتُ الإسعاف الصفراء تطلق
أبواقَها دون انقطاع، وقرأ مجهولون تقريرًا من سيرتى الذاتية:
مولعٌ غيرُ حذرٍ بغاندى،
بينما الحديقةُ تنفجر من الداخل
خالفَ الاستراتيجية ولم
ينشرْ الغربانَ على الأشجار، مع الاحتفاظ بتسجيلات للنعيق، وإطلاق اليمام للهديل
باتجاه الخارج، بينما العصافير تشقشق طول الوقت لإحداث ضجّة
مريضٌ بالنوستالجيا ويفضل
كآبة باخ على استعراضات بيتهوفن ويكره محمد على وإسماعيل باشا
يحتفظ بشرائط عبده الإسكندرانى
وقنديل وعدوية ومجلات فصول عز الدين إسماعيل..
مائلٌ نحو اليسار ومن
دراويش محمد صديق المنشاوى ومصطفى إسماعيل، ويهرب إلى السيدة نفيسة وزكريا أحمد..
حكمٌ بالنفى..
عليكَ أن تحوّل رملَ الصحراء
كلَّ يومٍ إلى حديقة
إلى أن تسقط من التعب
وحين تستيقظ ستجد الرملَ
عاد ثانيةً
وعليكَ أن تخترع الحديقة من
جديد
حتى الموت
حتى الموت
أنا عازفُ
الناى:
لا أدرى إذا كان عازفو
النايات يثيرون الأسئلة بدلَ الاكتفاء بالنغمات الحزينة
لماذا لا تتجولين فى الدنيا
أيتها النباتات؟
هل سمعتِ عن الأشجارِ
الطائرة ؟ بالطبع لديها أجنحة
إلى أيّةِ درجة تتبعين
أحلامك؟
تقفين مكانك طوال الوقت على
أمل أن يسمحوا لجذورك بالمرور، وعادة ليست كل الأراضى ذات أرواح طيبة، هناك أرواح
من الحجارة والملح، وطوال شهور وسنوات تبحثين عن قوت يومك وشربة ماء تخزنينها، يا
لصبرك الذى يفوق صبر أيوب، من أجل أن تكونى صاحبة جذع يواجه الريح تحتاجين إلى عمل
سنوات
وحتى تكونى وارفةً وخضراء
لابد أن تعملى سنوات طويلة تحت كل الظروف، وقد تنسين لماذا أنتِ هنا
تسمحين للثعابين بالاختباء
بين غصونك، كما تسمحين للعصافير ببناء أعشاشها، وعندما تثمرين لا تستطيعين
الاحتفاظ بثمارك لنفسك، أية غاية تعيشين من أجلها؟
قبل أن أنتهىَ وجدتُ أشجارَ
الحديقة ملتفةً حولى..
الأشجارُ المعمرة التى
قطعوا أغصانها بدعوى أنها تحمى العشاق من الكاميرات..
الأشجارُ المثمرةُ التى
واجهتِ المبيدات المسرطنة بجذوعها العارية، ومدّت جذورها إلى الأرض السابعة..
أشجارُ الزينة التى تحتمى
بالتراب حتى لا يلاحظ المحاسبون جمالها الطاغى
أشجارُ الظلّ التى استغنتْ
عن أوراقها منذ سنوات طويلة
الأشجارُ القزمةُ التى يبدو
أنها توقفت عن النمو، بينما تزدهر فى الداخل
آلافُ الأشجار تهمهم بلغتها
الشجرية: مادمتَ تُلقى الأسئلة فلابد أن تتلقى إجابات، وحملتنى إلى باطن الأرض
ما هذا؟
ورحت أفرك عينىَّ بأصابعى
أمام النور الباهر والطرق المنتظمة والأشجار الزاهية الخضرة وعليها طيور من فصائل
مختلفة، وقطعان من الحيوانات ترعى بأمان على ضفة النهر، بينما التماسيح تبتسم
للكاميرات وتلاطف طيور مالك الحزين..
حديقةٌ تحت الحديقة؟
هل تمتلكين قوى سحرية؟
وابتسمتِ الأشجارُ: أنت
تواصل الأسئلة
نحيا حياتين، حياةً فوق
الأرض للكاميرات والمراقبين والمحاسبين ورجال المنشار والمقص، وحياةً أخرى صنعناها
تحت الأرض لنعيشها..
حياتان أصعبُ من حياةٍ
واحدةٍ وتستلزمان الكثيرَ من الطاقة؟
المراقبون لا يهمهم الحياة،
يريدون السكون والموت،
اليوم الصامت هو اليوم
الجيد، ويكرهون أصوات الطيور، يعتبرونها ضوضاءَ أو مقدماتِ تمرّد
المحاسبون لا يعرفون
الحياة، يعيشون بين الأرقام وفجأة تضربهم أزمةٌ قلبية
ورجال المنشار والمقص، لا
يدركون أن فى كل موتٍ حياة، ويتوحدون مع الموت، ولذا أحيانًا ما نلاعبهم بأن يقفز
المنشار ليقطع رقبةَ أحدِهم، أو يطير المقص وينغرس فى قلب آخر كان يدخن باستمتاعٍ
بعد قطع شجرة..
لابد أن لديكم كثيرًا من
الحراس؟
كانت أول مرة أسمع قهقهة
الأشجار
أيها العازف، أنتَ لستَ
منهم، يظنون أنهم يمتلكون الحديقة، والحديقةُ موجودةٌ قبل الطوفان، عندما لم يكن
هناك مراقبون ومناشيرُ ومقصاتٌ ورجالٌ بنظاراتٍ سوداء
سنواصل الحياةَ بطريقتنا،
وإذا ضايقونا يمكن أن نبتلعهم بسهولة، هل نسيتَ أن قبوركم فى أفواهنا
وسمعتُ أصوات سيارات
الإسعاف بأبواقها الممتدة، وكان المفتشون يبحثون عنّى
-أين كنت مختبئًا؟
كل نغماتكَ مسجلةٌ عندنا
=ولماذا أختبئ بينما
أستطيعُ طرحَ الأسئلة؟
-الأشجار تختفى من الحديقة
=وأنا أسأل لماذا تحيا؟
إذا كانت الثمار هى معنى
الأشجار، فما معنى أن تكون موجودًا
-تبديد.. إهدار.. إهمال
حكمٌ بالصمت
عليكَ أن تتوقف عن عزف
الناى،
نغماتُكَ سببُ هروبِ
الأشجار
وراءَ هجرة الطيور
= ماذا أفعل بالأسئلة؟
-توقّفْ
توقّفْ إلى الأبد
= لا أحد يعرفُ الأبد..
هل وصلتم إليه؟
* مختارات من ديوان
"أيها القارئُ السعيد..ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب"
تعليقات
إرسال تعليق