القائمة الرئيسية

الصفحات

فروغ فرخزاد: تنظر إلى العالم بعينين زجاجيتين / چوانا سكوتس


فروغ فرخزاد: تنظر إلى العالم بعينين زجاجيتين

چوانا سكوتس

ترجمة: أسماء يس


فروغ فرخزاد - چوانا سكوتس - بيت النص



في 1954، دخلت شاعرة في التاسعة عشرة من عمرها، دون سابق إنذار، مكتب رئيس تحرير مجلة "روشنفكر" (المثقف)، إحدى أعرق المجلات الإيرانية. أصابعها ملطخة بالحبر الأخضر، وأعصابها مرتجفة وهي تُسلمه ثلاث قصائد. إحداها، قصيدة "الخطيئة" المكونة من 12 بيتًا، وصفت فيها علاقتها برئيس تحرير المجلة بتفاصيل دقيقة!
الترجمات تطرح دلالات مختلفة لافتتاحية القصيدة: "لقد أخطأتُ خطيئةً مُبهجةً/ في حضن دافئ مُلتهب" (شُوله وُلْبِه)، أو "لقد أخطأتُ خطيئة مُبهجة/ في حضن لاهب كالنار" (حسن جوادي وسوزان سالي)، أو "لقد أخطأت/ خطيئة شهوانية للغاية/ أخطأت بين ذراعين قويتين كالحديد/ حارتين كالنار ومنتقمتين" (فرزانة ميلاني). وسط هذه الاختلافات، ثمة ثوابت فاضحة: حرارة، وعناق، ومتعة، وأنا جريئة لا تخجل. تعلن المتحدثة نفسها آثمة، لكن القصيدة تخلو من أي توبة أو عقاب. هي ليست ضحية حبيبها، بل شريكة في المؤامرة، مبتهجة بقدرتها على إثارته: "أشعلت الشهوة عينيه/ وارتجف النبيذ الأحمر في الكأس/ وارتجف جسدي، عاريًا ثملاً/ على صدره برقة" (وولبي).
نشرت المجلة القصائد. وقت كان عديد من الشعراء الإيرانيين ينشرون بأسماء مستعارة، لم تكتفِ كاتبة "الخطيئة" باستخدام اسمها الحقيقي، بل أرفقت بقصيدتها صورتها وسيرة ذاتية موجزة كشفت عن أنها متزوجة وأم لطفل يبلغ عامين. كما وصفت مظهرها الجسدي بعبارات جنسية، لافتةً الانتباه لـ"شعرها الأشعث" و"عينيها الثاقبتين".
هنا، تعترف شابة بصحوة جنسية بين ذراعي رجل ليس زوجها، في "انقلاب متعمد على ألف عام من الأدب الفارسي" خطَّه الرجال عن عشيقاتهم، في عصر كانت كتابة السيرة الذاتية للنساء معدومة في إيران. أزالت السيرة الذاتية أي مسافة بين الزوجة المحبة والشاعرة الشهوانية، ما يوحي بأنه ليس عملاً من نسج الخيال، بل تقرير عن تجربة، جعل القراء يتساءلون عما قد تفعله زوجاتهم!
نادرًا ما كانت البدايات الشعرية لتكلف ثمنًا باهظًا كالثمن الذي تكبدته فروغ. كان الرجال في إيران أحرارًا في الزواج من نساء والحصول على عشيقات أخريات، لكن المرأة [التي تدخل في علاقة مع رجل غير زوجها] كانت تخاطر بحياتها - قد تُقتل على تجاوزها، ولا يُعاقب قاتلوها. وحتى لو نجت من العنف، فقد تُعاقب بطرق أخرى، مثلما اكتشفت فروغ. إذ عندما طلقت زوجها بعد فترة وجيزة، كلفها القرار حضانة ابنها، كاميار. وأدى بها الضغط النفسي إلى انهيار عصبي، ومحاولة انتحار، وأمضت شهرًا بمصحة نفسية وخضعت للعلاج بالصدمات الكهربائية، واضطرت للاختيار بين طفلها وفنها.
تنتهي قصيدة "لك" التي أهدتها لابنها عام 1957، وتحمل حزنًا عميقًا، بأمل أن يستمر ارتباطهما بطريقة ما عبر شعرها: "ستبحث عني في كلماتي/ وتقول لنفسك: أمي، هكذا كانت".
أحيانًا يُطلق على فروغ اسم سلڤيا بلاث الفارسية، إذ تداخلت معها في العصر والأسلوب والوفاة المبكرة (في حالة فروغ، حادثة سيارة في الثانية والثلاثين). ومع أن الشاعرتين لم تقرآ لغة بعضهما البعض، تطرح الباحثة ليلى رحيمي بهماني أن كلتيهما عانتا من الفجوة بين "صورتيهما الذاتيتين المثاليتين كفنانتين" ورؤى ثقافتيهما الاختزالية والقمعية للمرأة. في شعرهما، تسجل سلڤيا وفروغ الصراع من أجل التمسك بالذات الفنية تحت ضغوط الزواج والمرض العقلي. وتنشر كلتاهما صورة متناقضة منعكسة في مرآة، كرمز چندري للخيلاء وأداة خادعة لاكتشاف الذات.
في قصيدة فروغ "المنسيون"، تمثل المرآة يأس امرأة تبحث عن هويتها في عالم تصممه رغبات الرجال:
ما دامت عيناه لا تنبهران بوجهي
ما فائدة جمالي؟
يا أمي، حطمي هذه المرآة
ماذا أجني من زينتي؟
وقد طبع هذا الصراع بين المظهر والقيمة، بين نظرات العالم وحقيقة الروح، أعمال فروغ وحياتها.
*
ولدت فروغ طفلة جميلة متمردة، في طهران، يناير عام 1935 لعائلة من الطبقة المتوسطة العليا، بين سبعة أبناء لأب عسكري صارم وأم أصغر سنًا بكثير. التحقت بمدرسة ابتدائية مختلطة، وهو غير مألوف آنذاك، ثم بمدرسة ثانوية فنية، حيث درست الرسم والخياطة.
هوست والدتها بالدمى، وأحاطت نفسها بها في المنزل، وطالبت (دون جدوى) بدفنها مع دماها المفضلة. أصبحت الدمى لاحقًا موضوع إحدى أقوى قصائد فروغ "الدمية الآلية"، التي تنتهي بـ:
مثل دمية آلية، للمرء أن ينظر إلى العالم عبر عينين زجاجيتين،
يقضي سنوات داخل صندوق من اللباد،
جسده محشو بالقش،
مُغلَّف بطبقات من الدانتيل الرقيق.
مع كل ضغطة شهوانية من يده،
يبكي المرء بلا سبب:
آه، كم أنا محظوظة،
كم أنا سعيدة!
مثل المرآة، تستحضر الدمية الجمال السطحي والوداعة المتوقعة من النساء في مجتمع أبوي. ثمع عمى وصمت قسري للدمية، ورهاب أماكن مغلقة في حبسها المزين بالدانتيل، وفوق كل ذلك هي مطالبة باللطف والامتنان عند الطلب.
كانت إيران في طفولة فروغ عالمًا يتأرجح بين العصور الوسطى والحديثة. طهران "مدينة المساجد والملاهي الليلية والملابس المودرن والشادور". بالنسبة للنساء، كان عصر التغيير السريع ذاك مربكًا جدًا. بعد ولادتها مباشرة، أصدر نظام الشاه الموالي للغرب قانونًا يحظر الحجاب، وبدأت المدارس والجامعات تفتح أبوابها للنساء. ولكن حتى مع توسع إمكانيات النساء، استمرت الأفكار والأنظمة الأبوية. وظل الزواج هو الهدف الرئيسي لحياة المرأة، مع أنه يعني التبعية والعزلة المنزلية.
في مراهقتها، وقعت فروغ في حب جارها الأكبر سنًا، وهو قريب بعيد لوالدتها، ورسام كاريكاتير ساخر يعمل في وزارة المالية. وتزوجا رغم اعتراضات العائلتين، لاحقًا قالت عنه: "هذا الزواج السخيف في السادسة عشرة دمر مستقبلي"!
لم تتضمن مجموعتها الشعرية الأولى، "الأسيرة"، قصيدة "الخطيئة" الملتهبة، لكنها مع ذلك تحدثت بصراحة وصدمة عن الصراع بين الحرية الفنية والحبس في المنزل: "يا سماء، إذا أردت يومًا ما/ أن أطير من هذا السجن الصامت/ ماذا أقول لعيني الطفل الباكية/: انسي أمري، فأنا طائر أسير؟"، القصائد موجهة إلى رجال مجهولين، سجانين محبين للأسيرة، وهم في الوقت نفسه موضوعات للرغبة ورموز للسجن. في خاتمة الكتاب، سجلت أنها توقعت أن تكون قصائدها مثيرة للجدل "ربما لأنه لم تخط امرأة قبلي خطوات نحو كسر القيود التي تربط أيادي وأقدام النساء".
بدأت النساء في جميع أنحاء العالم في رصد الشعور بالحبس نفسه، والتوق إلى الحرية نفسه، حتى لو لم يكن لديهن الكلمات اللازمة لوصفه. في أمريكا بعد بضع سنوات، وصفتها بيتي فريدان بأنها "مشكلة بلا اسم". لكن تسمية المشكلة لم تُغير ميزان القوى بين الرجال والنساء.
أهدت فروغ مجموعتها الثانية "الجدار"، إلى زوجها السابق، واصفةً الكتاب بأنه "هدية لا قيمة لها" آملة أن يتلقاه رمزًا لامتنانها. لكن هذه البادرة التي هدفت لتهدئته، لم تنجح، إذ استمر هو وعائلته في إبعاد فروغ عن ابنها، ومنعها من زيارته.
غادرت فروغ إيران بعد وقت قصير، جمعت المال الكافي لتركب طائرة شحن إلى إيطاليا ثم إلى ألمانيا، حيث درست اللغات والشعر. كانت الحرية الثقافية النسبية التي شعرت بها على مدار عدة أشهر في أوروبا مُحرِرة، وظهرت في مجموعتها الشعرية التالية، "التمرد"، هوية شعرية أكثر جرأة دمجت تجربتها كامرأة مع تراثها الأدبي الفارسي. لكن كان صعبًا التخلص من وطأة بداياتها الفاضحة. وعندما نشرت سلسلة من المقالات عن رحلتها إلى إيطاليا، قصة السفر المدروسة التأملية، وجدت نفسها مرة أخرى تُهاجم باعتبارها فاسقة، مع أن مقالاتها لم تكن يومًا عن الانغماس في الملذات.
في 1958 عادت إلى إيران، تفتقد لغتها وشعبها وتحتاج إلى المال. وعبر أصدقاء مشتركين، التقت بالمخرج والمفكر إبراهيم جولستان، الذي عرض عليها وظيفة في تسجيل الطلبات والرد على الهواتف في استوديو كبير يملكه في شمال طهران. كان جولستان متزوجًا، لكن بعد بضعة أشهر من بدء عملها معه، بدأت بينهما علاقة قوية استمرت لبقية حياتها. عاش جولستان في إنجلترا منذ مغادرته إيران عام 1975. وفي عام 2017، كسر صمتًا دام خمسين عامًا ليتحدث عن علاقتهما. قال للجارديان: "كنا قريبين جدًا، لكن لا يمكنني قياس مدى مشاعري تجاهها… كيف يمكنني ذلك؟ بالكيلوجرامات؟ بالأمتار؟".
غالبًا ما يُنسب لجولستان التأثير على أفضل قصائد فروغ وإلهامها الاهتمام بالأفلام، لكنه نفى ذلك: "كان لها التأثير الأكبر على نفسها". ادعت فروغ نفسها ذات مرة أنها تحترم الشعر "بالطريقة التي يحترم بها المتدينون الدين"، وقارنها جولستان أيضًا بـ "طالبة في مدرسة دينية"، تكرس نفسها لفنها. قال: "لم أرها قط لا تنتج فنًّا".
أثناء عملها في استوديو جولستان، طورت فروغ مشروعًا سينتج عنه فيلمها الوثائقي القصير عام 1962 "البيت أسود"، الذي أنتج بالتعاون مع جمعية خيرية لمكافحة الجذام. أثبت الفيلم تحولها على الصعيدين الإبداعي والشخصي. فبعد زيارة أولية إلى مستعمرة لعلاج الجذام في مقاطعة تبريز، عادت بعد ثلاثة أشهر مع طاقم مكون من خمسة أفراد وعاشت بين سكان المستعمرة لمدة 12 يومًا، تراقبهم وتلتقط حياتهم بالكاميرا. وانغمست لدرجة أنها في أثناء وجودها هناك تبنت صبيًّا صغيرًا، حسين منصوري، (يعيش الآن في ألمانيا وترجم شعرها إلى الألمانية). الفيلم تبلغ مدته 22 دقيقة (متاح على يوتيوب) وهو حميمي وجريء، ويعكس اهتمامها بحالات السجن وحياة المنبوذين اجتماعيًّا. في لقطات طويلة توجه الكاميرا إلى وجوه جميع الأعمار، وتدعو المشاهد لرؤية الناس بدلاً من حالتهم. ويبدأ بصورة وجه مُحجَّب مشوه ينعكس في مرآة مُزيَّنة بالورود، استمرارًا لصورة المرآة التي تظهر في شعرها. ويطرح التعليق الصوتي أسئلة فلسفية ودينية حول طبيعة القبح، قبل أن يُقدِّم وصفًا أكثر وضوحًا لأعراض الجذام وعلاجه. يُؤكِّد التعليق أن المرض يتفاقم بسبب الفقر، ويمكن السيطرة عليه بالرعاية، ويظهر صورًا قاسية لمرضى يخضعون للعلاج. لكن بعد ذلك، تتغير نبرة المشاهد، فنرى العلاج الطبيعي، والأطفال والرضع يلعبون، وموسيقى واحتفالات، ونساء يُحضِّرن الطعام، ويُمشطن شعور بعضهن بعضًا، ويضعن الكحل الثقيل.
بالتركيز على مجموعة صغيرة من الناس في عالم غريب ومعزول، تُقدِّم فروغ لمحةً عن القصة الأكبر لكيفية عمل المجتمعات، وكيف يزدهر الناس فيها، وكيف يمكن للجمال أن ينمو من الحرمان.
بعد عامين أهدت مجموعة شعرية نشرتها بعنوان "ميلاد آخر" (أو "ولادة جديدة" في بعض الترجمات) إلى جولستان، ويعتبرها النقاد، وحتى فروغ نفسها، أنجح أعمالها. فيها تتسع نظرتها الشخصية المكثفة لتشمل المجتمع بأسره "يتغير مركز الثقل"، وفقًا لأحد النقاد.
القصيدة الطويلة "يا أرضًا مرصعة بالجواهر!" تأخذ عنوانها من أغنية وطنية، وتسخر من البيروقراطية الحكومية واختزال الحياة البشرية إلى اسم ورقم على بطاقة هوية: "يحيا الرقم 678، الدائرة 5، طهران.. كل شيء يُختزل في هذا الرقم 678: الشعراء، البلابل، الورود البلاستيكية، مشاوي الكباب الكهربائية العصرية، ساعات رولكس، و678 رئة مليئة بالهواء تفوح منها رائحة/ القاذورات والقمامة والبول".
في مقابلة صحفية، أوضحت فروغ دافعها لتقديم صورة غير مصقولة للعالم من حولها "عندما أريد التحدث عن شارع تفوح منه رائحة البول، لا أستطيع أن أضع قائمة بالعطور أمامي وأختار أزكى عطر لوصف هذه الرائحة. هذا خداع يمارسه الإنسان على نفسه أولاً ثم على الآخرين".
قبل وفاتها بعام، كتبت إلى جولستان لتخبره، ببصيرة ساخرة: "أحبك لدرجة أنني أخشى ماذا أفعل إذا اختفيت فجأةً.. سأصبح بئرًا فارغة". في النهاية فروغ هي من اختفت، إذ قُتلت في حادثة سيارة في طريق عودتها من منزل والدتها في 14 فبراير 1967. نجت أعمالها، وتناقلته الأوساط سرًا بعد ثورة 1979، حين حُظرت ثم فرض عليها رقابة مشددة. وفي السنوات الأخيرة، ازدادت مكانتها كرمزٍ للثورة في إيران. وكما هو الحال مع سلڤيا بلاث، قد يؤدي الوضع الرمزي لتشوهات، وهو ما يواصل كتاب سيرة فروغ فرخزاد ومترجموها كشفه، محاولة للعثور على انعكاسات أكثر صدقًا لهذه الشاعرة العظيمة.

تعليقات