أرواد يا أميرة الوهم
أدونيس
1
الشعر يُحرق أوراقه القديمة، يجلد نسله
المنهزم، والقصيدة الآتية بلاد من الرفض – آهِ يا كلمات الموتى، آه يا بكارةَ
الكلمة؛ وتلبس القصيدة الآتية أهداب الطفولة، وتبكي، وتخشع لألوهة الثدي.
2
لِمن حريقةٌ خجولة تلتهم حواشيَ الإبط؟ لمن
الجنازة الممطرة حنينًا وحبرًا؟ لمن المرأة المغسولة
بجرح الكلمة؟ آهِ يا أصداف
الجزيرة، آهِ يا جزيرة العُريِ! الرجل يروّض سنجابَ الصدر، يفتح قلعةَ الرحم،
والرحم إله بلا وجه، والرحم تاج الأرض.
للساعات الهاربة كمخملِ الثلج، للعمر المجنّح
بالقشّ، تتمزّق الرحم وتصير حروفًا غريبة، وتصير امرأة أخرى.
هو ذا الحبيب يقطع جسر العري، يغرق في خليج
النهدين. هو ذا يعرف المرأة والجزيرة المسمّاة امرأة، وعلى شواطئ العشب العشرينيّ
يشعل الموج والزبد ويقطع خيط الفجر. هو ذا يسبح تحت المشدّ، لا صِقًا بالقعر، في
مغارة من الحرير والحمّى!
لِينطفِئْ هذا الجمر، لِيشتَعِلْ!
لتمَجَّدْ هذه الأطرافُ المصلوبة بالحبّ؛ تحت
شمسها الدامعة تنمو عرائش العمر، وجسد الحبيبة أوراق مقدّسة، وجسدُ الحبيب إنجيل من
الحبر.
والحبيب يقطع جسر العري، وفي فراش الساعات
النائمة يستفيق من دوار الغبطة مرسومًا بالعرَق مزيَّنًا بجسد امرأة!
3
... وتأتين
يا طفولة، يا تميمة العمر، والموت يرسم صلبانه ويقضم أطرافنا الحالمة. وتأتين يا
طفولة، يا رفيقة الرعب، وليس عندنا لأرواد غير الشعر وغير أطيافٍ بعيدة من البحر
والكنائس. وتتركيننا، يا حضورنا الربيعيّ، لأيّامنا الميتة وحفَرٍ صغيرة كأجسامنا
مَسقوفةٍ بالصلاة والوحل.
الرجل يابس كالمطر.
المرأة غريبة كالمطر،
والعمر سفينة تعبر المضيق،
والمضيق جثّة مجوّفة، ومطر لم ينهمر بعد.
ونحيا مع الطفولة في جاذبيّة الوهم، ونسير في تشابُكٍ صليبيّ فوق ترابٍ من القمح
والنمل، حيث العمر حربة الموت، وحيث الطفولة نفسها عصفور ميت.
املأْني يا وهم الطفولة، املأْني. املأْني يا نبيّ الحنين والقبر، وخذْني في
شِباكِ الجزيرة العارية. أمامها أنحني بلا ذلّ، أصير قوسًا من الشعر، وأستنفد
انحنائي الأميرَ وأستنفد الشعر.
4
التاريخ مقبل في جريدة ضائعة، في لفافة من التبغ، وأنا بأسوار الإبَر أطوّق ذاكرتي
وأصغي إلى الطفولة:
«شجرة صغيرة تفرع تحت قدميّ، شجرة صغيرة أجهل اسمها تغري بالبكاء عينيّ. وأبكي،
وحين أبكي تغرق في دموعي أمي والشمس.
في
الشجرة أصوات من الريش والزرقة، وفي الشجرة تلال بلون المخدّة وبحيرات معلّقة.
وأهدابي المأخوذة سياج من الظلّ تشرد وراءها في حقول من الصخر والفضاء. آه، إنّها
صورة امرأة هذه الشجرة، إنّها غيمة من الغصون الخضرِ تحضن سريرًا.
الغراب يسرق النافذة.
المطر يصير رمادًا وقشرًا،
والمطرُ يائس كالرجُل،
والمطر جيش أعزَل.
أفسحوا لوجهي العاشق أن يصارع اليأس، أن يكسر قناعه الأعمى. الشقوق في نوافذ بيتنا
تعذّب الضوء، والفرح مريض يرقد بلا وسادة. آهِ، أفسحوا – النهار يرسم المدينة
بأصابعي، وأنا اسميها امرأة وحبًّا، وأنا أرفع باسمها راية الطفولة. بلى، إنّها
صورة المدينة هذه الشجرة! والغصون ستار أخضر يختنق وراءه الموت.
وأنتِ يا أهدابي المجنّحة، دوري معَ الكوكب الطالع تحت قدميّ، وانقلي ضوءَه إلى جنين
الأيام الآتية، وإلى ذكورة العمر.
بلى، إنّها المدينة ترفض كتابَها المحنّط. بلى، ها هو الحبّ – وتمّحي في دقيقة من
الحبّ آلاف السنوات الرمليّة، سنوات الجراد الهزيمة.
في
جفوني المتعبة قرية من العصافير تعلو وتعبر. وأغفو وفي سريري يجلس كوكب السهر."
5
وأنتم، أيّها السيول الناطقة من الرمل والثياب، يا ذوي التاريخ المتوّج بالطين،
أصغوا إلى الأنين الصاعد باسم الطفولة:
«تحت حَواجب الأفق ينحني زيتون البحيرة يبكي طفولته. الجليل خاصرة من القمح
والفتح، وقاسيون دمية من الريش.
لمَن العباءاتُ المقصّبة بأطراف إله ميْت؟ لمن الكلمات الرمليّة الخالدة كحصان
البحر؟ لا الفرات يرضع حلْمةَ الروح، لا برَدى يعكس وجهَ أنطاكية، ولا طفولة في
ملامح التراب.
لكنْ، هوذا التنّين يسرع كالهدب، الكتبُ سندسٌ لزحفه الطائر، والرجال أرتال من
الجرذ، تزحم الشقوق الضائعة، وتغيب في الوحل."
وباسم الطفولة، يا ذوي التاريخ الأبرص، أيّها السيول الناطقة من الرمل والثياب –
أصغوا إلى هذه الصلاة:
«أيّها البحر، يا طفولةً أبديّةً، صِلْنا بموجكَ المنقطِع. ألف قرنٍ من عمر
الأرجوان والموج تهدر في دمائنا وترسو. وأرواد فيك يا بحرُ، وارواد منكِ يا طفولة
الحبّ. وها، في جبينها مدينة الوهم تتفصّد عرَقًا وتهوي. وها، في عينيها الأشرعة
هياكل هياكل، والبحّارة أعمدة من الزبَد، وقدموس تائه بلا سارية ولا حرف."
آهِ، يا شعرُ، آهِ، يا طفولة...
وأنا كلماتي بلا مقاطع، وأنا سدودي بلا ممَرّ، أتوّج بريشة قلبي وأتزوّج الريح، وليس
في طريقي غير الخرائط الممزّقة وغير الرعد. لا النهار يعرفني ولا البيت، وفوق تراب
بلونِ النسيان أترك خطواتي تنمو. لكنّ أعماقي في ولَهٍ، وأعياد الجسد في ولَهٍ،
والمرأة قفصي من الحبّ والجنس، والمرأة جزيرتي من المخمل والحمّى.
6
أيّتها الرحم، أيّتها الدافقة أطفالاً ونبوءةً، يا سجنًا بابه السجن، أيّ عنكبوت
من اليأس أنتِ؟ وأيّ قصيدة من الغبطة؟
لكِ يخنق العشب العاصفة. لكِ ينكسر أرز القلب، والكلمات العاشقة تفتح مغاراتٍ في
الليل.
السماء غريبة هذه الليلة.
السماء غيمة ساهرة.
السماء زيزفون وصخر.
السماء امرأة تفرش سريري.
السماء فراشة تسكن المكتبة.
لأروادَ هذه الأعراس العاشقة، لأرواد هذا السحر المرَيَّش بالرعب والحبّ. الآن،
أعشق ريف أيامي، أعبد سَيلَه المقتَحِم؛ فحيث يشرئبّ ويجرف صنوبر العمر تزغفُ
أروادي الحبيبة وتشمخ.
لِيُنشِدِ البحرُ أغنياتِه التي لم تُرصَدْ بعد. ليله بخطوي بنفسج الأرض – الفصول
تواكبُ شعري الأمير وقلبي يطير بعيدًا عنّي.
7
أرواد يا أميرة الوهم، أوراد يا أميرة الحضور، أيّتها الحبيبة المغذّاة بالجوع،
ليَكن مجيئكِ عصفورًا أخضر وزهرةً على القبر. آهِ، أسرعي، وجهكِ سماء قريبة
وعيناكِ تثقبانِ الدنيا.
أرواد يا أميرة الوهم، أرواد يا أميرة الحضور، أيّها الظلّ الآتي من جذورنا
البعيدة – كوني أمّنا الثانية: أمّكِ وأنا الرياح المهاجرة، وأنتِ الموجُ والأرض.
وأرواد أنتِ رحمٌ خالدة من البحر والشمس، من الشمس والولادة. وأرواد أنتِ – لا
طريقَ تلحق بكِ، والموت راصِد كسيح.
أرواد يا أميرة الوهم، أرواد يا أميرة الحضور، أيّتها البحيرة الجارية من الدمع
والقصب، لكِ أعطتني روحَها امرأة، لكِ علّمتني قصائد العشب. وها أنتِ في طليعة
الريح، الفصول تائهة، وتشرينُ يطرد العصافيرَ، وفوق حصير الأوراق اليابسة يُطرَح
العمر.
آهِ، لكنّني أترصّدُكِ. أترصّد عينين أكثرَ عنادًا من حجرة، وأكثر ضَياعًا من
عصفور، وأترصّد رغبة تمسح خريطةَ الأشياء وتشعل نارًا أخرى.
وها أنتِ معنا، إلهةٌ أليفة تسكن معنا في مدينة من الجوع والقتل، حيث نحيا في
قَمع، وحيث نتعلّم الحكمةَ على طرف خيطٍ من الرصاص.
ويا أميرةَ الحضور والوهم، يا قبرًا يكتسي شكلَ الناس، العتَبة تلبس ثوب العرس،
والسرير ينحني لكِ، وها بيتنا: محابرُ من الشوك وبلابلُ من الشمع, لكنْ، ها هو
مهركِ الخشبيّ والقماط مخبوء في أهداب أمّك وغطاؤك موجةٌ في قلبي.
ويا أميرة الوهم، لكِ أعدجّ عباءة الشمس، أنقش الأرصفة بمرايا الطفولة والشِعر.
لكِ أعبد أيامي الخائنة – تلك اللآلئ الغريبة من الفحم والجراح. ولكِ يا أميرة
الشِعر أحكّ بجلدِ النهار عينيّ، وفي شروشيَ الظامئة أترك سفينةَ الدمع تترجرج
وتُبحر.
8
أصغِ يا فصلَ الطفولة لقلبي، أصغِ إليه يتقطّر دمًا وشِعرًا.
أدِرْ نحوي خطواتِكَ الوليدةَ، لكَ وجهُ أرواديَ الحبيبةِ، لمَ أهدابيَ المسافرة.
قمر سوريا يسقط فوقَ النهر، وإخوتي على المائدة يتقاسمون بيضة صغيرة، لكنّ أرواديَ
الحبيبة تحمل نجومَنا الآفلةَ وتنشر لنا عينيها شراعًا يربطنا بالسماء والريح.
إنّها ساعةُ الصمت، ساعةُ أن أصير شجرةً أو نبعًا. إنّها ساعة الغبطة، ساعة أن
أصير عاشقًا أو قصيدة.
لأروادي الحبيبة أزيد ثقلَ أيامي، أزرع الهاوية وأفرح، وفي بلادي المهزومة أنشر
حياتي ريفًا كوكبيًّا وتِلالاً من القمح والشقائق.
إنّها ساعة الولادة، ساعة الهدير والفرح. سأترك اليأس يصهر الجباهَ. سأترك الشارع
يُحتَضَرُ وأغنّي لأروادَ والطفولة؛ فيا سلالة الكلمات أسعِفيني، غيّري قشرةَ
الحرف، واخلقي لشِعري أبعادًا أخرى من السرّ والإشارة.
ويا طفولةُ يا شِعري الخفيّ المقبل، أضيئي وجهي الغريق في الدمع وكوني ملجأ
الفاجعة.
باسمِكِ تحتَ الجليد، والنهار يقتل النهار، وتهمسين لنا: «الحوار الخالد بين
التراب والقلب أنا، وأنا الجهد الأبديّ للحرارة والزَغَب."
ونشكو، ونصرخ: «المرَض يقترب، الموت يقترب، والمقابر العاشقة تجدّد ثوبَها كلّ يوم.»
وتردّين يا طفولة: «إنّني الخليقة الباقية ضدّ الموت."
وتجرح شفاهنا أغانٍ من اليأس: «الخريف ينحر القلب، والأرض هيكل مهترئ، والدموع
تأسَن في تجاويفِها.» لكنّ أغانيكِ تأتي إلينا: «لنفتحْ عيونَنا على امرأة، لنبحث
عن مخبإ في إقليم العري، وعن الحبّ في خريطة الجسد."
بلا جديلة أومأت حبيبتي.
بلا جديلة ولا عطرٍ لوّحت حبيبتي.
بلا وسادةٍ رقدت حبيبتي.
حافيةً رقصَتْ حبيبتي وغنّت.
وحبيبتي شاطئ لأرواد،
وحبيبتي غيومٌ للبحر.
وأنتَ أيّها الحبّ، يا حياتنا من الجنس والمرأة، لكَ نرفع أجسادَنا، لكَ نبدع
إرثنا من الموت والطفولة.
قد يعجبك ايضا
تعليقات
إرسال تعليق