مقاطع من يوميات حظر التجول
للشاعر المصري أشرف يوسف
0
هَجَم الضَّبابُ، وسَنَّ أسنانَه،
وتَجسَّدَ في مساراتٍ لا تُرَى،
وصار مُوزَّعًا بين جهاتٍ عديدة..
فغطَّى الأسفلتَ والمدرَّعاتِ والجنودَ خارِجَ الثَّكنات..
فاختفى الميدان الكبيرُ،
وتماثيلُ للكَذِبِ بلانافوراتٍ، مُعطَّلة..
اختفَت المحلَّاتُ والباراتُ والأكشاكُ الخشبية..
اختفى النائمون
المشرَّدون
فوقَ الأَرصِفَةِ على مَقرُبَةٍ من
أكوام الزبالة..
اختفت اللوحات الإعلانيَّةُ،
وأعلى مبانٍ في المدينة الصديقة..
اختفى مجمَّع التحرير، وشارع يوسف الجندي، وهارديز،
والعم رمضان، وفَرشَة جرائد العم رمضان..
اختفى تمثالُ الرجل العظيم، ومومياوات المتحف المجاوِرِ..
اختفى الواقِفون على حافَّة الكَعكَةِ الحجريَّة،
والمرأة ذات القَولِ المأثور:
«هُمَّه مالهم ومال السياسة.. ما يروحوا هيلتون»،
واختفت -تِباعًا- الحديقةُ التي بداخلها روائِحُ باذِخةُ الجَمالِ
لخيامٍ ونَومٍ مُتقطِّع..
اختفَت شِلَّة الجَولات الليلية، ونحتِ العبارة والنكات،
والصور الإيروتيكية.
اختفى كلُّ شيءٍ من أمام عَينيّ ،
وتَماهَيتُ مع الاختفاء،
حتى صار جسدي لا مرئيًّا،
وعندما أتحسَّسُه بيديَّ اللَّتَيْن تُقاوِمان
كُلَّ الذي يُشعِرُني بالإهانة والابتذال..
أقبض على فكرةٍ هارِبةٍ لحلمٍ مَفقودٍ
عن «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».
1
رَسمَت لي سيِّدةُ القوافي ومَليكتي الحسناءُ طريقًا،
لم يكن لطرَفَيْه مَقاصِدُ،
لإقامتي الجبريَّة في كباريه العَدَم،
كنت أتحدَّث لرفاقي الليليِّين بودٍّ عن راقصاتٍ خليعاتٍ،
وأتدرَّب بيني وبين نفسي
على زَوالِ نُقطةِ حُبٍّ وإقامة بداخلي
في تقاطُع مكتبة سندباد وشارع شريف.
أتدرَّب بيني وبين نفسي
ألَّا تتحرَّك في أنحائي الشَّاسِعة؛
أنا الابن القاسي للمَوَدَّة...
أخاف تلك النُّقطةَ تَحديدًا،
ولا أخاف خُلُوَّ الشارع من الأصوات؛
فهي تَملؤني عن آخري،
وبودِّي إخفاؤها حتى عن عَينيّ
عندما أجلِبُ تلِّيسكوبًا كأيٍّ طفل سجين
في بلكونة شقَّةٍ مُستَأجَرة
وأُسلِّطه حول هالة النور التي تتوسَّطها؛
لكوني لم أرها يومًا ما بالعين المجرَّدة...
ثم أَكُفُّ فجأةً عن هذه الألعاب
وأبني أكاذيبَ جديدةً لتَنفِرَ منِّي،
ويظلَّ مَكانُها فارغًا في منطقة البورصة،
وشوارعها الجانبية، وبين ضلوعي،
بينما يُوقِفني كمينٌ لِشرطَةِ المدينَةِ الصَّديقَةِ،
وأَشلحُ هُويَّتي لِتُكتَبَ لي السَّلامَةُ والنَّجاة..
كَرَايَتي البيضاءِ التي نَجوتُ بها
من خَطَرِ امرأةٍ شَهيَّةٍ وجَميلَةٍ،
ولم أُصادِفها بَعدُ،
ولا حتى في الأحلام،
ولا بين دِفَّتَي كتابِ أعزَّائي الموتى
في ثَورةٍ شعبيَّةٍ لم تَندلِع بَعدُ.
2
في ذلك البيتِ
الذي يُشبِهُ القصورَ القديمة بوسط المدينة،
حيث السَّقف عالٍ عن رؤوسنا،
والشبابيك تأكل الجدرانَ باتِّساعها...
كنتُ مُقيمًا لمدَّةٍ طويلَةٍ
برفقة عاشِقَيْن إيطاليَّيْن..
أدخِّن الحلويات القويَّة،
وألعب بأصابعي لعزف موسيقى صاخِبَةٍ
من حِقبَةِ الجيتار الكهربائيِّ
وأُشخبِطُ فوق بابٍ لحمَّامٍ أبيضَ
كلماتٍ لم أعرف مَقصِدي منها سوى الآن،
وقد مَرَّ زمنٌ كافٍ
لأَعُدَّ نفسي صديقًا لهما
ولستُ ضيفًا طارِئًا
يَصعُبُ عليه الوصول إلى مسكنه؛
لخطورة ما يُقال في راديو المدينة الصديقة؛
وبناء على ذلك
ليس مَسموحًا لأحدٍ السَّيرُ بعد منتصف الليل،
أو الخروج من المكان الذى أَمسَى
بداخله،
واعتدتُ البقاءَ مع «ماركو» الأحمق، «وإيزابيلَّا»
في شقَّتِهما المستأجَرَة فوق مكتبة سندباد،
وهما اعتادا الأمر.
كانا نائِمَيْن
ذاتَ مرَّةٍ كَزوجَيْن من الطُّيور
يُخربِشان بداخل غُرفَةِ المعيشة،
بينما أكتبُ بِخطٍّ بارزٍ عربيٍّ ومُنمَّق:
الحبُّ لحظة،
وأَثرُه لا يزول
بين الطُّيور التي خارجَ الأقفاص.
3
في لَيْلِ حَظر التِّجوال
يبدو كُلُّ شيءٍ كأنَّنا في فيلم
ينتظر ثلاثتنا:
أنا وماركو وإيزابيلا،
ومَن يتبقَّى من الجاليات الأجنبية
حتى نخرج للمَرَح
بعد الوصول إلى حالة يأسٍ من الكلام والحبِّ،
وأيضًا من العالَم الذي بلا ضجيجٍ في الخارج...
وتكون قد نَفَدَت سجائِرُنا
لنرى أمامنا سَببًا كافيًا لمغامَرةٍ بين نقطة تفتيشٍ وأخرى.
نحن، الذَّاهبين
لشراء الضحكات من المتسكِّعين أمثالنا،
والنَّاظرين إلى مقهًى لجموعٍ من
الفتيات «الكوير»
على وشك أن تغلق أبوابَها
أمامَ فُحولَةٍ لمدرَّعَةٍ عسكريَّةٍ
وابتذالٍ لأمين شرطةٍ يعشق الخمسين جنيها،
ومآسٍ لسُكارى
ضَجَروا الإقامة الجبريَّة
من جِدارٍ لجدارٍ.
4
ما الَّذي جاء بي إلى هنا
أُردِّد على رفاق اللَّيل
كأنني أُلقي على مسامعهم
مونولوجًا للزخارف عن أفراحٍ ناقِصَةٍ.
ما الذي جاء بي إلى هنا
ناقِصًا من العناق والشَّهوَة والكلمات الطَّريَّة.
لماذا تُحاصِرُني الخشونَةُ
وتَرشقُ إبِرَهَا في روحي
التي تتلوَّى في حفر البيوت،
متى أَنطلِقُ من
القَوس
ويُدمي سَهمي معاني رومانتيكيَّةً
تَضيع منِّي؛
كي أُجاهِرَ -بكامل وَعيي، وفوقَ رؤوس الأشهادِ-
أنَّني خَطَفتني التَّجربةُ يا رفاقي الليليِّين.
5
يَدورُ اللَّيلُ ويتكوَّر،
ولا يُوقِفُ سُعالَه شيءٌ،
ولا يزالُ العاشِقان الإيطاليَّان
في خصامٍ أَربَكَني مُدَّة ثوانٍ،
وعلا صراخُهما لشَوقٍ غاب عنهما..
هل أخرج من غُرفةٍ
مُلِئَت حوائِطُها برسوم «ماتيس»
إلى شوارع حظر التِّجوال،
وأشرح للضُّبَّاط والعساكر في الكمائن التي ستُصادِفُني
حتَّى أَصِلَ إلى جاردن سيتي:
أن ثمَّة عاشِقَيْن إيطاليَّين في خصامٍ،
ووَجَبَت عليَّ المغادَرةُ كجاسوسٍ،
بودِّي أن أنقل لهما مَصلًا،
ما هو إلَّا مُفردَةٌ في مُتحَفِ اللَّيل لشوقِ الأرض قاطِبَةً..
ليكبرا برفقة الجمال
ويِهرُبَا من مطاردات البوليس والأجهزة السِّريَّة،
مُرورًا بصقلِّيَّة على طريقة «ﭼـيمس بوند»،
وتُحقَنُ أَورِدَتُهما به؛
ليَهْنَئَا في هذه الليالي الرديئة ببعضهما بعضًا
في سرير الحُبِّ المصنوع في 1970.
ذلك السرير الحديدي الذي انتقل من مدينَةٍ إلى قرية،
ومن قرية إلى مدينة،
وجميع العُشَّاق الصِّغار يُبلِغونَه السَّلام
وهم سُكارى لَيلَ نَهارَ على النَّواصي وفي الحانات.
6
أنا ضائِعٌ كالأطفالِ تمامًا،
والشوارع بلا إنْسٍ أو جان.
ثمَّة كلابُ شوارِعَ تنبَحُ
وقِططٌ طيِّبةٌ
تَموءُ،
في هذه الحال أنحازُ لمشاعِرِ
القِطَطِ
وأَنفرُ من الكلاب؛
لِكَوني بلا
رفيقةٍ ووحيد تمامًا. أين أذهب.
ليس بودِّي أن أقِفَ أمام بوَّابةٍ
لعمارةٍ نائِمةٍ
على مقربة من فندق سميراميس.
هل أسقط في نهر النيل كأنَّني أسبح لروحٍ بعيدة،
لا أعرف مَن هي أصلًا ولا لونَ وردةِ بابِها التَّاسِعِ،
وبماذا أَصِفُ لها عطشي لمسامَرَةِ الشَّيطان الرجيم.
تعليقات
إرسال تعليق